من صغر سني وحب البنات ميراثي: النميم وسواس همس الكلام الجنوبي
ليست زخرفة لغوية أو حلية جناسية، أو نهاية موسيقية فحسب، لكن قافيته هي مسكن الأنين، حيث تكتنز القوافي خبرة الجماعة الشعبية في القالب، فيتقطر الشعر في الأداء المغنى في مجالس النميم وجرِّه، فمعظم شعراء هذا النوع الشعري الشعبي(1) يقولون إن الأنين مصدر التسمية وأصل المصطلح، لكننا حين نتأمل الفعل “نمّ” ومشتقاته سنجد أن من معانيه: النَّمُّ: الإِغْراء، ورَفْعُ الحديثِ إشاعَةُ له وإفسادا، وتَزْيينُ الكلام بالكَذب.
النميم همس الكلام
ألا يدلنا هذا المعنى على واحدة من أهم وظائف هذا الفن الشعري، وهي فضح بعض النماذج الإنسانية التي تخالف أعراف وقواعد الجماعة الشعبية وما سنته من قيم تختزنها في نصوص النميم، وحين ننظر لمعنى آخر سنجد أن النَّميمةُ: الاسمُ، وصَوْتُ الكِتابَةِ، ووَسْواسُ هَمْسِ الكلام، ألا يشير هذا المعنى إلى الصوت بوصف هذا الفن شفاهيا، وهو يقدم حكمته هامسا بكلامه لأبناء الجماعة في احتفالاتها ومناسباتها المتعددة، كما أن المعجم يقول لنا إن النامَّةُ: الحِسُّ، والحركَةُ، وحياةُ النَّفْسِ، ونَمَّ المِسْكُ: سَطَعَ، والنَّمَّامُ: نَبْتٌ طَيِّبٌ، مُدِرُّ، ونَمْنَمَه: زَخْرَفَهُ، ونَقَشَهُ، والنُّمِّيُّ: صَنْجَةُ الميزانِ، هكذا يتحرك المعنى بين الإفشاء والصوت والحس والحركة والسطوع والزخرفة والميزان، فالنميم أحد فنون القول الأثيرة، يتكون من أربع شطرات متحدة القافية، أي أن نظامه يسير وفقا للمخطط التالى (أ- أ- أ – أ) وينتشر في أقصى جنوب مصر خاصة في بعض مناطق أسوان مثل دراو وكوم أمبو، ويطلق عليه البعض فن السلسلة ربما لاشتباك رباعياته وتسلسلها في موضوعات متقاربة، وتتنوع مراميه حيث يستهل الشاعر مجلسه بذكر الله ومدح الرسول، ويعرج بعد ذلك على التحايا ليبادل جمهور جماعته الود والمحبة وذكر المحاسن ومن التحية للتهنئة، حيث يتبارى شاعران في تجويد الوصف والتقفية، ولنتأمل نصا من أجمل نصوص النميمم التي جمعها الباحث جمال وهبي(2):
أديبه مؤدبه حاشاكى ما غرضيا
ومن زايد الجلع عامله الدهب أرضيا
فردت ع البنات والعيشه تامه راضيا
خدك والقمر في النقض عملن قضيا
وتتواتر نصوصه على نفس الشاكلة عند عبابدة حلايب وأبورماد شلاتين، لكنهم يطلقون عليه “دوبيت” أو “الدوباى”، بينما تطلق قبيلة البشارية عليه “هابيت” وهي مفردة بلغة البجا، اللغة الأصلية لمعظم قبائل البشارية والعبابدة(3):
قال الدنيا خصل كل خصله ليها خصاله
أنتى مــؤدبه صاحبة أدب وأصـاله
فستانك يضيق لـما تمشى بيه في الصالة
كفلك ملتزم إيه ذنبها الفصالــة(4)
يصف الشاعر هنا البنت مشيرا إلى خصالها ومشيتها وتكوينها ساعة الحركة، والكفل في النص السابق هو عجز أو مؤخرة المرأة، وهم لا يصفونها في هذا النوع من الشعر إلا بهذه المفردة، أما الفصّالة: من يتولى عملية التفصيل.
ويتشاكل هذا النوع أيضا مع فن يدافع البعض عن استقلاليته وخصوصيته وهو “نعناع الجنينه”:
يا ست البنات على إيه ما أنتى ناويتى
عاينى وانظرى كيف الشباب سويتى
جننتى قلوب والعيون بكيتى
حرام أكبر حرام جرحتى ولا داويتى(5)
وقد لاحظنا اشتباكات بين عدد من الفنون الشعرية ـ الجمع الميداني يشير لذلك بقوة ـ التي تقوم على التربيع تحتاج مجموعة من الدراسات الميدانية لفضها، وهو ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في مقالاتنا القادمة، والنميم لغة: نم الحديث أي أظهر وبين القول، ونمّا، حرش وأغرى ونما الحديث زاد وكثر ونمى، شاع وانتقل بالتواتر، ونم بمعنى الصوت الخفيف من حركة الأشياء أو وطء الأقدام، وقد يكون من الأنين الذي يحدثه الشاعر أثناء اختياره للمعاني قبل أن ينطق مربعه/نميمه، أي الموناناه التي تسبق يا ليل يا عين.
ونرى أن اصطلاح النميم مشتق من “النمنمة”، أي أنه فن يشتغل على الزخارف اللغوية، والنمنمات الجناسية خاصة في قوافيه، والبعض يرجعه إلى الفعل “نم” بمعنى وشى، أي أن شاعر يشي علانية ليقدم “نميمة”/ نميما في صاحبه الشاعر المواجه، ونرى أن نجمع بين النميم والنمنمة، بين الوشاية والتوشية، بين المضامين التي يحملها هذا الفن وبين زخارفه الشكيلية، فهو فن من فنون المبارزة الشعرية في جانب كبير منه يواجه فيه كل شاعر قرينه ليظهر قدرته – ربما عيوب النموذج الذي يقال فيه الشعر أو جماله – بشكل يفوق قرينه أداء وشعرا، وقراءة النماذج النميمية تؤكد على الاصطلاح وتدعمه كفن من فنون المبارزة الشعرية والتراشق بالتقفية والجناسات التي تحتاج لفك شفرتها خاصة على مستوى الأداء الشفوى لا مستوى التدوين الذي تفسد أمامه أحيانا جماليات التجنيس:
أنا من صغرى ماسك القلم والكراسة
ومن جهة الجمال ما خدهو وراثة
نزلت م الهرم ومر على الدراسة
تسعين سرب طيران فوقيها حراسة
****
من صغر سني وحب البنات ميراثي
أنا العاجبني في السمحة عقلها الراسيي
من وين أنتى ياللى جنبيكي حراسي
قالت أنا في العدوه مسقط راسي(6)
****
وفن النميم يقوم على المطارحات الشعرية، حيث يتخذ الشاعر موضوعا للمطارحة، فيرد عليه قرينه بنميم من جنس الموضوع مشتبكا مع قافيته، والمطارحة في هذا النوع تقوم على الأداء المغنى، والشاعر الذي يواصل قول “النميم” هو الذي يكسب المنافسة الشعرية، ليثبت لجماعته الشعبية قدرته على صوغ ما يعتمل في نفوس أفرادها، وشعراء هذا النوع يطلقون على لياليهم وأماسيهم “جر النميم” لاحظوا معنا التشاكل مع التعبير الشعبي “جر الشَكَل” ويلقى ذا الفن الشعبي قبول ومحبة أبناء الجماعة في المناسبات الاجتماعية السعيدة مثل الأفراح، الذهاب والعودة من رحلة الحج، الختان، وحين يبدع الشاعر نصه فإن الجمهور يعبر عن رأيه فورا وفي مواجهة الشاعر وهو يقول “أَبْشِر” للتعبير عن شعوره بجمال النص، كما يردد المتلقون اصطلاح “حبابك عشره” بعد انتهاء الشاعر من نصه، و هو تعبير للتحية والامتنان لما قدمه الشاعر من نصوص ونختلف تماما مع بعض من يرجع جذور هذا الفن للسودان، لأن الاصطلاح خاصا بمصر وإن اشتبك هذا الفن مع فن سوداني هو فن المسدار أو الحاردلو، لكن النميم عندنا له لغته التي لا تخص إلا أبناء المنطقة، ويتركز تواتره وحفظه وأداءه بين البشارية والعبابدة، ومطارحات النميم لا تتم إلا ليلا وتبدأ بالبسملة والصلاة على النبى كدأب معظم الشعراء الشعبين الذين يؤصلون لفنهم ورؤاهم بمدح النبي، وهم بهذا النوع من الأداء يضفون نوعا من التقدير والاحترام على ما يقدمونه وهم يقدمون مباراة لغوية تقوم على المطارحة الشعرية التي تستقدم الناس، عاداتهم، تقاليدهم، منظومة قيمهم، ونرى وجه الجماعة وقلبها في نصوص شديدة الغنى والثراء، حيث تلعب بالصوت بوصفه كتاب الحياة الذي يختزل أفراح وأتراح الجماعة حين تغنى في فخر أبنائها وفي غزل بناتها، وفي وجع الدنيا، والجماعة حين تغني لا تبتغى أكثر من ذوبان الألم وضياع الأنين، الذي هو بداية القول ومسكن القافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع، جمال محمد وهبي (إعداد)، فن النميم في محافظة أسوان، سلسلة ثقافتنا الشعبية، مكتبة النهضة المصرية، ع (3) نوفمبر، 1997.
(2) راجع، جمال محمد وهبي، مرجع سابق.
(3) فن شعري منتشر بالمنطقة لدى العبابدة خاصة، ويسمى ند البشارية “دوباى”، وهو يقال ويؤدى بعامية العبابدة وبرطانة البشارية وهو اصطلاح فارسي الأصل مكون من مقطعين (دو) بمعنى اثنين و(بيت)، أي بيتان وهو مكون من بيتين، وطلقون عليه في السودان فن المسدار، وأحيانا الحاردلو.
(4) رواية على حسين حسب النبي سعد، قبيلة العبابدة، فرع العقدة، 50 عاما، جمع: مسعود شومان، منطقة الشلاتين، 2002.
(5) راجع، جمال محمد وهبي، مرجع سابق.
(6) السابق.
اقرأ أيضا
«الهركـّاك» ورمزية الإبل في الجنوب الشرقي لمصر
تعليق واحد