ارتبط بـ«السبيل».. كيف تطور «الزير» من العصر الأيوبي إلى الآن؟
يعتبر «الزير» من أشهر الأواني الفخارية التي كانت تُصنع قديما، كوسيلة للاحتفاظ ببرودة ونقاء المياه بداخلها، وإلى الآن مازالت موجودة داخل البيوت في الصعيد ولها مكان مخصص في بعض منها. ولكن من أين جاءت الفكرة وكيف تطورت عبر العصور؟ هو ما سنعرفه في التقرير التالي.
مصر الفرعونية
تشير اكتشافات أثرية إلى دخول الفخار في إنتاج أغلب الأواني المستخدمة في مصر الفرعونية، التي يعود إليها أصل الزير. إذ كانت السيدات في الريف ولازالت يستخدمونه في بعض الأماكن. ويتم تجهيزه من الليل ووضع المياه داخله حتى تبرد في الصباح.
يقول أسامة الغزالي، الباحث في التراث الشعبي لـ”باب مصر”: “يظل الزير الفخار بأنواعه المختلفة في مصر بمثابة ثلاجة وديب فريرز الريف، ورفيق المزارعين في تعريشات الفلاحة، ومأوى عابر السبيل ومقصد ظمأ المارين في القرى”.
ويضيف، هناك 6 أنواع مختلفة من أشكال الأزيار موجودة في مصر. تختلف كل منها في الشكل والحجم والخامة أيضا. فنجد في كل من الواحات وأسيوط والمنيا وقنا نقادة وقنا الطويرات والدلتا سمنود وجريس جميعها تصنع من الطمي النيلي.
وتابع: بالرغم من أن جميعها تُصنع من الطمي، إلا أنه في بعض المناطق يضاف إلى الطمي بعض المواد الأخرى. ففي قنا يضاف الرماد إلى الطمي، وفي الطويرات تضاف إلى الطمي طفلة الجبل الغربي. ويميل الطمي إلى اللون الأحمر القاتم في الواحات بمدينة القصر.
أما في شمال الصعيد بالمنيا وأسيوط فينتشر إلى حد كبير زير عريض وقصير يميل إلى شكل البلاص المصري القديم. ويميل لونه إلى البني الغامق، وهو يتشابه بذلك مع أشكال فخار قرية النزلة الشهيرة بالفيوم. ويقال إنه بقنا صنع قديما زير قناوي أبيض اللون، من خامات طمي سيل ترعة قنا.
تعريشة المزاير
ويقول الغزالي: “يتعدى الزير مجرد أداة لحفظ وتبريد المياه، بل هو استمرار شعبي لفكرة السبيل. ومكان براح للراحة من خلال تعريشة السبيل، التي كانت تقام أعلى وحوله وتعرف بتعريشة المزاير. وكانت تصنع من الخشب وسعف النخيل، وفي النوبة ظللت بأخشاب الدوم، وزينت بقباب من الطين. وأضافوا إليها الرسومات والنقوشات الملونة المميزة.
بينما في قنا بصعيد مصر صُنعت تعريشة المزاير على شكل قبة ضريح قبوي، وغطيت أرض مساحة التعريشة بالبلاط. وأضيفت لها في بعض الأحيان رسومات ونقوش محلية، باستخدام ألوان صخرية مخلوطة مع صفار البيض. وكان يوضع بجوارها أحيانا دكة جلوس من الخشب، يجلس عليها عابري السبيل للراحة”.
تجهيزات الزواج
استحوذ الزير على اهتمام السيدات بالمنازل قديمًا، وكان مكون هام من تجهيزات الزواج، ونظافته دليل على نظافة صاحبة المنزل. فسيدة المنزل كانت تبدأ يومها، أو كلما طلبت الحاجة بملء الزير من مياه النيل. ثم تقوم بتبخيره بالبخور، وكل هذا يتم بعد الغسيل الأسبوعي للحفاظ على نظافته بشكل دائم.
ويضاف إلى الزير الذي يوجد داخل المنزل، أو أحيانا الذي يوجد في الحقل، مجرى مياه أو حوض طين أسفله أو حتى أحد الأطباق النحاسية أو الفخارية. ويستخدم ذلك الحوض في تجميع المياه التي تتسرب من الزير. وكانت طيور المنزل من دجاج وبط تشرب من هذا الحوض، وتستمتع بالبرودة أسفله. وكان أيضا بعض الفلاحين يضعون البطيخ والشمام أسفله حتى تبرد، لتكون جاهزة للأكل في حر الصيف.
وقد استخدم البعض الخيش في تغليف الزير من الخارج لحمايته. بجانب الحفاظ على تبريد المياه بداخله. وكان يوضع كوب المياه، بشكل جمالي معلق على الزير الموضوع في مكان مفتوح أو بالقرب من مصدر للهواء. فوق حامل من الخشب أو من الحديد.
كما أن الحامل الخشبي للزير كان يصنع في الصعيد من أخشاب أشجار الأثل. أما في النوبة فكان يتم بناؤه وزخرفته بألوان ونقوش النوبة المميزة. واستخدم البعض نوى ثمار المشمش داخله لتنقية المياه حيث تلتصق بها الشوائب.
في الأمثال
ذكر “الزير” في العديد من الأمثال الشعبية التي لا يزال يستخدم بعضها إلى الآن. بالرغم من أن أجيال من الشباب لا تعرفه ولم تستخدمه، ومن تلك الأمثال:
“النواية تسند الزير“: ويستخدم هذا المثل للدلالة على أن الشيء وإن كان صغيرًا فإن له منفعة في أن يسند شيئا كبيرًا.
“لما طلب الغني شقفة.. كسر الفقير زيره“: والشقفة في العامية المصرية هي قطعة من الفخار المصنوع منها الزير، ويشير المثل إلى كرم الفقير وعدم بخله بالرغم من فقره.
“السبت فيه العيش والمية في الزير.. ماتعرف إن كان ده غفير ولا وزير“: دلالة على أن الفلاح يرى أنه بتوفر العيش والمياه، فإن هذه علامة على الغنى والقناعة والرضا، وفي دلالة أخرى يشير المثل إلى أنه كلما كان ممتلئ يدل على أن البيت عامر.
“آدى الزير وآدى غطاه“: وهو مثل يشير حال استخدامه إلى إثبات وقعة معينة وحقيقة لا يمكن نفيها أو الجدال فيها.
“الزير ما يسقيش البير“: ويعني أن البئر أكبر من سعة الزير فيما يوجد به من مياه، وبالتالي لا يمكن ملء البئر بمياهه، كما أن لهذا المثل دلالة على أن الفقير لا يمكنه بطبيعة الحال أن يعطي الغني، وهو ما يتشابه مع المثل “المليان يكب ع الفاضي”.
متحف الآثار
نشر متحف الآثار بملوي عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك” صورًا لبعض القطع الفخارية الأثرية كان من بينها “كلجة” من الفخار تُستخدم لتجمع المياه المرشحة التي تسقط من مياه الزير، ويعود تاريخها إلى العصر الأيوبي.
وقد ارتبط الزير آنذاك بـ”السبيل”، الذي انتشر منذ العصر الأيوبي، وكان مخصصًا لخدمة الناس كصدقة لإرواء ظمأ العطشى، حيث كان الماء يوضع بواسطة السقا لجعل المياه باردة في حر الصيف، وخصصت له الأماكن المناسبة، كما بنيت حوامل من الأحجار كي يوضع عليها.
وفي فترة حكم الخديوي إسماعيل عرفت شوارع القاهرة “الزير المعلق” حيث كان يعلق الزير على حامل بالحائط في الحارة، وكان يوجد أسفله “مصطبة” كي يصعد عليها الشخص للشرب وتناول الكوب، وهناك حارة في القاهرة عرفت باسم حارة الزير المعلق.
أقدم الصناعات
تعد المنتجات الفخارية من أقدم ما صنعه الإنسان، واشتهرت منتجات الفخار في مصر بالتحديد، بسبب وجود الطمي من نهر النيل.
أما عن أشهر أماكن صناعة الفخار في مصر، فتميزت بها بعض القرى ومنها قرى: الشيخ علي والطويرات بقنا وندرة وحجازة، وقرية جريس في المنوفية، سمنود بالدلتا، والقصر بالواحات والبداري بأسيوط، ومنفافيس بالمنيا، الدير بإسنا بالأقصر.
يقول الدكتور ناجح عمر، أستاذ الآثار والحضارة المصرية القديمة بكلية الآثار بالفيوم: “تشتهر قرية النزلة بالفيوم بصناعة الفخار، وكانت الفيوم من أولى الأماكن في مصر التي اشتهرت بتصنيع الفخار، فالفيوم من المستوطنات الحضارية الأولى في مصر، وقامت بها صناعة الفخار منذ العصر الحجري الحديث فيما قبل 5 آلاف ق.م، وتنوعت صناعة الفخار ما بين الأواني المختلفة الأحجام والأشكال، لكن لم يكن عليها زخارف في تلك الفترة”.
وتابع: فيما بعد صنعت في الفيوم أواني ضخمة من الفخار تشبه “الزير” لتخزين المياه، وتم العثور على تلك الأواني في قرية كرانيس بمنطقة كوم أوشيم، التي كانت تشتهر في العصر الروماني بهذه الصناعة.
اقرأ أيضا:
حوار| الفنان التشكيلي عمر الفيومي: المقهى حياة اجتماعية متكاملة في مصر