“هنا الجمهورية العربية المتحدة”.. حكايات عن أقدم مدارس قنا
صور لفتيات بفساتين عصرية تواكب أحدث أزياء عصرهن، وأخرى لصبية في ريعان الشباب، ولقطات أخرى تقول هنا مورست أكثر أنواع الرياضات: الباسكت بول، وكرة السلة، وكرة القدم، وتنس الطاولة، وصور طابور مدرسي ملتزم، وأخرى لمعلمين نالوا من المهابة قسطًا وافرًا، لقطات متفرقه ونادرة عمرها 67 عامًا من مدرسة داود تكلا، أقدم مدارس قنا.
الصور التي ننفرد بنشرها تعود إلى الفترة ما بين 1958 حتى أوائل الستينيات، في عصر الجمهورية العربية المتحدة، كما يظهر في بعض الصور علم الوحدة.
كنتُ هناك في قرية بهجورة (تبعد عن نجع حمادي 4 كيلو مترات)، حيث مدرسة داود تكلا أشهر وأقدم المدارس في قنا، بتصميمها المميز، الذي يتعدى عمره 87عامًا، شيده داود تكلا باشا رائد العلم بنجع حمادي.
عقب جولة قصيرة ببصري في ارتفاعات المبنى شديد التمكن، أسرّ إليّ مدير المدرسة أنْ سيريني نوادر لم تظهر لأحد، كانت مجموعة صور لنشاطات المدرسة ترجع إلى 1958.
الصور لم تكن مجرد لقطات فوتوغرافيا وحسب، وإنما جسرا ينقل ملامح الحياة بتفاصيل كثيرة، في منطقة غنية بالحكايات.
الحياة داخل المدرسة
لم تكن المدرسة مركزا لدروس العلم فقط بل مجتمعًا مصغرا، إذ تظهر الصور تعدد الأنشطة الرياضية، ورحلات ترفيهية، وصور تذكارية، والجوالة التي كان يمارسها الطلاب، كرة القدم، وكرة السلة، وتنس الطاولة.
هذا بجانب صور متعددة للطلاب أيام الجوالة، والمعسكرات مدرسية وحصولهم علي كأس الفوز، وصور لهم فى رحلة بمنطقة الاهرامات بالجيزة، بجانب وجود بعض القيادات السياسية في الاحتفالات بالأنشطة المدرسية آخر العام، بينما يظهر علم يحمل اسم” الجمهورية العربية المتحدة” في بعض الصور، ما يثبت صحة تحليلنا لعمر تلك الصور وأنها لا تخرج عن الفترة ما بين 1958 إلى 1961، وهي فترة اتحاد البلدين مصر وسوريا.
البنات
لم تكن الفتيات بعيدات عن تلك النشاطات، بل شريكات بشكل أساسي فيها، رغم العادات والتقاليد، وتظهر بعض الصور لفتيات في الاحتفالات المدرسية بالأنشطة الطلابية وهن يرتدين زي الجوالة، وصورة ترافقهن إحدى مدرسات التربية الرياضية آنذاك.
وصورة أخرى أيضا لفتيات مشاركات برحلة مدرسة لقناطر نجع حمادي يقفنا على كوبري القناطر وخلفهم تظهر عيون القناطر، وصور أخرى لشباب في نفس الرحلة وخلفهم “مصاطب” مطلة على النيل تظهر المكان.
حكايات الطلاب القدامى
“الزمن غير الزمن والناس غير الناس”، هكذا يبدأ حديثه فتحي عزمي، كنت طالبًا بمدرسة داود تكلا في الخمسينيات، وعندما ذكر اسم ناظر المدرسة إبراهيم بربري جحظت عينيه وبدأ يستغرق في وصفه، رجل ذو هيبة ورهبة كنا نخشاه جميعا، وحين يطل على طابور الصباح تجد صمتًا شديدًا، وأصعب لحظاتنا عند مرورنا أمام الناظر جوار تمثال دواد تكلا وبجوارهما الفراش المخصص يحمل العصا والخرزانات، حتى نصل الفصل متصببين عرقًا.
قديما لم يكن الطلاب فقط يحترمون المعلمين، بل كان الاحترام متبادل، لم أنس يوم أتى الناظر وبجانبه السكرتير يمر علينا دون حديث، وبإمائه يشير للسكرتير فى الصمت رقم 2 علي اليمين علي سبيل المثال، إذ تقوم أوقاف مدرسة تكلا بالتكفل بشراء ملابس للفئات الأقل قدرة مادية دون أن يعلم بقية الطلاب.
المدرسة كانت تعلمنا العلوم والفنون، وأيضا السلوكيات فمن شروط عدم معاقبتك بالطابور أن يكون حذاؤك وطربوشك ملمعا، وثيابك مهندم .
“روح استنى عند التمثال”
يروي لنا أسعد القرمة، وكيل المدرسة حاليا، وطالب سابق في السبعينات، لم يقتصر الأمر على الرحلات والرياضيات والجوالة والدراسة، إنما كان هناك انضباط في السلوك رغم عدم تشريع قانون.
ابتسم القرمة متذكرا: كانت هناك جملة شهيرة قادرة على إرباك أي منا ونحن طلاب قديما “روح استنانى عند التمثال”، تمثال داود باشا كما هو الآن لكنه كان يمثل الشموخ والقيمة لم يجرأ أحد يومًا على إهانته، نعرف قيمته وأنه من شيد المدرسة.
كانت تلك الجملة “روح عند التمثال” تعني أن الطالب ارتكب فعلًا خاطئًا وسيعاقب، ولا يستطيع اخبار والديه، حتى لا يصبح العقاب من المعلم والأب، ضاحكا خاصة وإن كان والدك معلم لغة فرنسية بنفس المدرسة مثلي أنا.
القرمة يتناول في حديثه محاولة سرقة التمثال، ما جعلهم يفرضون حوله قفصا حديديًا، ولأن المدرسة أيضًا تابعة لهيئة الآثار المصرية.
تواضروس ميلاد، 59 عامًا، أحد طلاب المدرسة، ووكيلها حاليا، يقول ما زالت أتذكر معلمتى فى الصف الاول الابتدائي “أبلة فهيمة”، كانت من القاهرة، ومدير المدرسة حامد عطية في السبعينيات، المنتدب من المنيا، والدي طلب من العامل ألا يُدخل طالب أو تلميذ بعد موعد طابور الصباح، وتعمد مدير المدرسة الحضور متأخرًا في اليوم الثاني، فمنعه العامل من الدخول، وكأنه يعلمنا قيمة تطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
كنا نتعلم الخط بكل أنواعه فى الصف السادس الابتدائي، كانت كثافة الفصول لا تتعدى 25 طالبا، وابن الأعيان بجوار ابن العامل راويا رغم ضيق الأحوال قديما في أغلب منازلنا، إذ نشترى زيًا موحدًا وحذاء طول الـ4 أعوام، عمر المرحلة الدراسية الابتدائية كاملة، كان الرقي يظهر فى زينا تلك ونهتم بالنظافة وحسن المظهر.
نعيم شكري، أحد الطلاب القدامى- يعمل معلم حاليًا، تعرف علي عدد كبير ممن احتوت عليهم الصور من معلمين فأحدهم صفوت ذكي يعقوب مدرس التربية الرياضية، وهو يتابع الطلاب أثناء لعب كرة السلة بالمدرسة، وطلاب مثل طلعت مانولي، الذي دون اسمه خلف الصورة، وأنه ما زال علي قيد الحياة، وكان مفتشا بالتموين، ثم انتقل إلى أمريكا، وآخرين، كوالد أحد زميلاتهم من المعلمين أيضًا.
يتابع “الطلاب كمان كانوا محترمين، ومنهم رموز حاليا مثل جورج البهجوري، الفنان التشكيلي المشهور، والدكتور عبدالمتين موسى، رئيس جامعة جنوب الوادي سابقا، والمستشار كمال فخري، وحنا ناشد، نائب رئيس مجلس الدولة، ونبيل لوقا، عضو مجلس الشعب سابقا”.
أما خليفة هانب الباجوري، مدرس الرياضيات، بالمدرسة حاليا، يتذكر دراسة المسرح والتحضيرات قبل كل حفل أنشطة، قائلا كنا “خلايا نحل” المدرسة كلها تعمل بحماس وحب ومتعة، مجموعات الجوالة، والرياضة، الفنون، العلمية، فضلا عن التحضيرات للإذاعة المدرسية في هذه المناسبة.
ملامح المدرسة
مازالت المدرسة محتفظه بملامحها، صورة داود باشا النادرة والأصلية بغرفة المدير، حتي “تربزين” سلالم المدرسة آبت النسيان فهو مصمم وبه حرفان (t,d) اختصارا لداود تكلا، وهو تقليد كان معتادا من قبل البشاوات، وغرفة المعمل الميزة والتى ملحق بها قاعة محاضرات، فضلا عن المكتبة التي تعد من أقدم المكتبات، أيضا خزنة قديمة بـ3 أقفال ودواليب للوراق مصممة بطريقة مرتبة لحفظ الاوراق، بالإضافة للافتات التي تزين الجدران من آيات قرآنية وإنجيلية، وحكم.
مقر إقامة المدرسات المغتربات
يروي فتحي عزمي، عميد عائلة “الصراف” في بهجورة، قصة استضافة أبيه للمدرسات المغتربات في منزله، قائلا “كان إبراهيم بربري مدير مدرسة داوود تكلا في تلك الفترة، لا يجد سكنًا مناسبًا للمدرسات المغتربات، اللواتي يعملن في المدرسة، وكن من محافظات الوجه البحري، فجلب “بربري” واسطة لوالدي، وكان الدكتور توما درياس شقيق والدتي، لإقناعه بمنح المعلمات مقرًا لإقامتهن في داره”.
وعن سبب اختيار ذلك دار أبيه بالتحديد، يقول عزمي كان منزل أبي القديم من أكثر المنازل الآمنة في قرية بهجورة بحكم وظيفة أبي وهي وظيفة “القابض” الذي كان منوطًا به جمع الضرائب، وأموال ربط الأراضي الزراعية، وقيد المواليد والوفيات، وكانت الداخلية تخصص له حراسة خاصة لتأمين أموال الدولة التي كان يحتفظ بها في خزينة في منزله.
ويضيف كانت كل المعلمات اللواتي يعملن في مدرسة داود تكلا مغتربات من محافظات القاهرة، والمنيا، ودمياط، وبني سويف، وأسيوط، وكن 12 معلمة يقطن في شقة واحدة في البداية بإيجار 6 جنيهات شهريًا، وكانت شقيقاتي يشرفن عليهن ويحددن لهن مواعيد الخروج والعودة إلى المنزل حسب العادات والتقاليد في القرية، وكن يرحلن عن القرية في الإجازات الصيفية.
انتهى اليوم في مدرسة داود تكلا، لكن الحكايات عنها لم تنته.
2 تعليقات