نص كلمة محمود درويش في أول زيارة له للقاهرة: ابتعد.. لأقترب

أريد أن أعلن منذ البداية أني أعتبر مسألة وجودي الآن في القاهرة مسألة شخصية أتحمل وحدي مسؤولية اختيارها، وسأبذل منتهى جهدي للحيلولة دون تحويلها إلى موضوع للمناقشة والأخذ والرد، وكان من الممكن وربما من الأفضل حصر المسألة كلها في حدود ضيقة لولا أن الظروف التي خلقتني والقضية التي قدمتني للناس قد ربطت اسمي بقضية عامة، وهذه القضية العامة هي العنصر الأساسي الذي دفعني لاختيار موقع جديد في الجبهة التي أحارب فيها، ومن هنا، لم يعد من حقي أن أتصرف كمسافر أو سائح، ولهذا السبب أشعر بأني مطالب أمام نفسي وأمام الرأي العام بتقديم بعض التحديدات العامة لأتابع بعدها طريقي: إنني ألح كثيرا على أن يكون مفهوما لجميع الناس أن الخطوة الخطرة التي اتخذتها نابعة من اعتبارات خدمة القضية من مواقع تبدو لي أكثر انطلاقا وحرية وقد تمنحني مزيدا من القدرة على التعبير والعمل أكثر مما كنت قادرا على عمله في بلادي.. إنني قادم من منطقة الحصار والأسر إلى منطقة العمل. ولا يساورني أي شك في أن الرأي العام العربي ربما العالمي أيضا- قد أصبح أكثر وعيا بواقع الاضطهاد الإسرائيلي للمواطنين العرب في بلادهم. وما جئت إلى هنا لإدانة هذا الواقع، ولذلك فإني في حل من عرض لائحة الاتهام الخطيرة. ولكن ما يهمنا هو أن هؤلاء المواطنين يمارسون البطولة ممارسة يومية بتمسكهم بحق الانتماء الوطني، وبرفضهم المسؤول الانضمام إلى الغربة خارج الوطن. لقد آثروا الاغتراب وتحمل القهر داخل الوطن.. ولقد كنت شخصيا ولا أزال أحب الذين أعطوا شبابهم وطاقتهم لهذا الصمود، ومازلت أعتبر نفسي واحدا من هؤلاء المواطنين الشجعان الذين يكافحون وظهورهم إلى الحائط ويستمدون الطاقة والأمل من معركة التحرر والبناء والتقدم التي تخوضها شعوبهم خارج أسوار إسرائيل. وأقول لكم- أيها الأصدقاء- بصراحة تامة أنني لاقيت من الحزن قدرا لا يجوز الحديث عنه هنا عندما قررت مرغما- الانفصال الجغرافي عن أولئك المواطنين. ولكني أحاول أن أجد عذري في أنني أصبحت مليئا بالإحساس بأنني أقترب يوما بعد يوم من نقطة العجز عن القيام بواجبي كمواطن أولا وكشاعر ثانيا بسبب ظروف الكبت الذي أتعرض له.

لقد أصبحت مشلول الحركة تماما ومشلول الحرية في التعبير، ولقمة سهلة في فك العنصرية الإسرائيلية وأصبحت مهددا بخطر التعلق علي مطاط الصيغ الدبلوماسية لكي أنجو من القانون. إنني لا أشكو ولكنني أحاول القول إن شعرة معاوية بيني وبين القانون الإسرائيلي قد انقطعت وأن طاقتي على الاحتيال والتجاوز قد نفدت، خاصة أنني لم أعد منتميا إلى شعب يطلب الرحمة ويتسول الصدقات، ولكنني أنتمي إلى شعب يقاتل.

من أنا؟

هل أنا مواطن إسرائيلي بمحض اختياري، أم أنا مواطن عربي فلسطيني.. وإذا كنت كذلك ففي أي صف أقف. إن قلوبنا واضحة الدقات ولكنني مطالب بتحويل مشاعري إلى كلمات.. ومن هنا، أصبح تناقض الانتماءين أشد إلحاحا وتعذيبا. لم يعد ممكنا أن أجاور بين هذين الانتماءين بسبب إصرار الحكم الإسرائيلي على السير في المغامرة حتى النهاية وحرق أي جسر للعودة. إني أتمزق مرتين: مرة على شعبي.. ومرة على المواطنين اليهود الذين يقودهم حكامهم إلى كارثة.

أيها الأصدقاء..

يصعب هنا وضع الفواصل بين الأدب والسياسة وأنا كاتب لا يتفرج على الحياة بل يلتحم فيها. والوطن عندي ليس حقيبة ولكنه أيضا ليس جبلا وسهلا.. إن وطني قضية، يجب أن ندافع عنها من أي موقع، ولست أول مواطن وشاعر يبتعد عن بلاده ليقترب منها. إنني أشعر الآن كما لم أشعر من قبل بنبض التربة التي أنبتتني وأشعر بمزيد من الأمل المبرر والمشروع، لأنني أعيش وأعمل مع شعبي بالمفهوم الأوسع، لن أدافع عن الخاص من موقع العام.

إن أهمية ما اكتبه- إذا كانت له أهمية- لا تنبغي أن تكون مستمدة من المكان الذي أكتب منه، بل من القضية التي أعيشها أينما كنت.

ولا أبيح لنفسي أن أتكلم من موقع الدفاع عن النفس، وأني أتحمل كامل المسؤولية عن موقفي وقضيتي، ورحيلي الذي أرجو أن يكون مؤقتا عن وطني ليس تغييرا لموقف أو قضية ولكنه تغيير لموقع، واختيار موقع راسخ وطيد حمله التاريخ مسؤولية تاريخية، وهي مستقبل منطقة الشرق الأوسط كلها. هذا الموقع هو القاهرة التي أصبحت- بحكم التطور التاريخي والظروف الموضوعية- المصدر الأساسي للحركة في المنطقة.

وأنا مواطن فلسطيني، لقد لقي شعبي من العذاب والقهر الجسدي والمعنوي ما لا يوصف.. إنني لا أدير أسطوانة، ولكن ملحمة اقتلاع شعب كامل وقذفه إلى التيه ليست مسألة فلسطينية. إنها خنجر في كل ضمير إنساني. ولقد كنت أتمزق كل يوم وأنا أرى منازل أهلي يسكنها غرباء وأسمع منها أغاني انتصار الفاتحين الذين يلاحقون الضحية حتى منفاها ليقضوا على آثارها. لقد رأيت كيف تتغير أسماء الشوارع والقرى والمدن، ولقد رأيت كيف يحرث الناس في أجساد الآخرين ويستخرجون القمح والتفاح، ولقد رأيت كيف يترجم الشجر والحجر والقمر، ولقد رايت كيف يزيف التاريخ، وكيف تجري عملية التنفس من رئات الآخرين. وأكثر من ذلك رأيت كيف تتم عملية مطالبة الضحية بالاعتراف بأنها القاتل. مازالت إسرائيل حتى الآن، تقدم شعبي إلى العالم بزي القاتل وتدعي أنها الضحية. ولم يكن شعبي يحسن إلا الاستجداء والتسول، ولا يقدم نفسه إلا ببطاقات الإغاثة.. إن الوقوف على باب المحكمة الدولية حق والقرع علي أجراس ضمير العالم حق والبكاء علي ذكرى وطن مغتصب حق. ولكن الحق ليس حقا إذا كان صاحبه ضعيفا. وهكذا الدنيا.. لقد تغيرت الآن صورة شعبي ولم يعد يقدم نفسه ببطاقة الإغاثة، بل ببطاقة الاستشهاد. لقد وجد شعبي طريقة إلى الحياة عندما اجتاز سرداب الموت وهذه هي المقاومة وهذا هو الحل.. فأين أقف وأنا مواطن عربي.. وقضيتي الخاصة جزء لا يتجزأ من القضية العامة للشعوب العربية، ولا مستقبل لقضيتي إذا لم نعرف مكانها في هذا التيار المعادي للتخلف والإمبريالية والصهيونية والطامح إلى التقدم الاجتماعي والاستقلال والسيادة القومية والوحدة والاشتراكية وإذا سمحتم لي بالتحدث عن مشاعري الخاصة، أقول لكم إنني أشعر بالانفعال الشديد والتأثر البالغ بسبب إحساسي بالعلاقة المباشرة مع أبناء شعبي الذين كنت بعيدا عنهم أكثر من عشرين سنة. هذه أول مرة أزور فيها بلدا عربيا منذ طفولتي. إنني أشعر أن كتفي تتسعان ورئتي تكبران، وألمس أسبابا مادية ومعنوية للتفاؤل العلمي والوجداني. وأنا مواطن عالمي.. وقضيتي جزء من الحركة الثورية العالمية وأفخر بانتمائي إلي أسرة التقدم والتحرر والاشتراكية التي تمارس تأثيرها الفعال لتغيير العالم تغييرا جذريا.. إننا على الرغم من كل القهر والكبت ننتمي إلى الجانب المضيء من وجه عصرنا، ونشعر بسعادة غامرة وبفرح لا حد له بصداقتنا المصيرية مع الاتحاد السوفيتي الذي يمارس دورا رئيسيا في الحركة الثورية العالمية ويقف في جبهة الصدام الأولي مع أعداء الإنسان ومعوقات ضرورات التقدم. ولقد عشت في الاتحاد السوفيتي طيلة العام الماضي، وأشعر شخصيا بأنني مدين له لأنه أعطاني كل شيء.. من الخبز حتى الأمل والتفاؤل العظيم، وإني واثق بأن حبي للإنسان وللمجتمع السوفيتي بما يمثله من تجربة خلاص البشرية من العذاب هو من أحد مقومات نضالي وفرحي بالحياة.

أيها الأصدقاء

من المعروف لكم تماما، أنني قادم إليكم من صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي يخوض معركة سياسية مليئة بالضنى والشرف وفي جو خانق من العنصرية والغطرسة الصهيونية والاعتداء الصلف على أبسط حريات الإنسان. ومعروف لكم تماما أن هذا الحزب يضم في جبهة واحدة متلاحمة كل العناصر المناضلة من المواطنين العرب وخيرة العناصر المكافحة من المواطنين اليهود. إنه يشير إلى إمكانية التعايش الحقيقي والحياة المشتركة السعيدة بين العرب واليهود ويرفع شعار مع الشعوب العربية ضد الاستعمار لا مع الاستعمار ضد الشعوب العربية وهو ما يحذر من الهاوية التي يقود الحكم الإسرائيلي المواطنين إليها، إذا ما استمر في تنكره لحقوق الشعب العربي الفلسطيني والاعتداء على الأراضي في البلاد العربية وحقوقها وسيادتها. إن من واجبي أن أعلن من هنا أن رحيلي عن بلادي ليس نابعا بأي شكل من الأشكال عن رغبة في الانسلاخ عن انتمائي السياسي والفكري. ومن ناحية أخرى أريد أن أعلن أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي لا يتحمل مسؤولية قدومي إلى القاهرة ولا علم له بذلك وعلى هذا الأساس فمن حقه الطبيعي أن يتحفظ من هذا السلوك الفردي الذي خالفت به أبسط قواعد التنظيم،وعلى أي حال، بودي أن أرسل تحيات حارة إلى الشيوعيين العرب واليهود في إسرائيل الذين يحتلون مكانهم في الحركة الثورية العالمية، ومن هذا المكان فإنهم يشكلون حلفاء أمناء لحركة التحرر العربية.

وبعد…

اسمحوا لي أن أعبر عن عميق الشكر والامتنان إلي الجمهورية العربية المتحدة رئيسا وشعبا وحكومة وحزبا، لأنها فتحت صدؤها الواسع لي وأعطتني من الحب والفرح والأمل مئونة معنوية ضخمة، وأشعرتني بأنني لم أغادر وطني، وإنما انتقلت من الوطن الأصغر إلى الوطن الأكبر، إني أحدق في نهر النيل فأرى أعماق الظاهرة وجوهرها واري تدفق الحياة اللامتناهي ورحلة التاريخ الصاعدة دائما. إني أحدق في نهر النيل فأسمع خرير نهر الأردن وبردي والفرات في نغم واحد متدفق على الرغم مما يعتري الظاهرة من ركود ظاهري.

وإننا على يقين من أن نهر الحياة سيواصل المسير وأني على ثقة من أنني سأجد في موقعي الجديد، في القاهرة إمكانيات واسعة لمواصلة عملي في سبيل القضية التي نعمل من أجلها جميعا. ويسعدني أن اخترت القاهرة لأنها القاعدة الأساسية لكفاح الشعوب العربية من أجل التحرر والاستقلال والتقدم الاجتماعي والمستقبل الاشتراكي والسلام. وأرجو أن يغني هذا الموقع الجديد موقفي ونضالي بمزيد من الطاقة والانطلاق لأن الاعتبار الأول والأخير لاختيار أي موقع هو خدمة القضية التي نحيا من أجلها ونموت من أجلها.

نص الكلمة التي ألقاها درويش لدي وصوله إلى القاهرة فى المؤتمر الصحفي الذي أقيم فور وصوله إلى القاهرة في حضور وزير الإعلام وقتها محمد فائق

اقرأ أيضا

ملف| محمود درويش في القاهرة: «هل تسمحون لي بالزواج؟»

محمود درويش إلى شقيقه من السجن: أحبكم.. لكن هذا اعتراف لا لزوم له

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر