نزار الصياد: القاهرة تعيش مأساة (1-2)

يرى د. نزار الصياد أن «القاهرة» تعيش في هذه اللحظة مأساة نتيجة للتحولات التي تحدث داخلها. إذ يعتبر أن قيم المدينة التاريخية قد فُقدت بمرور الوقت. يقول: «لا يمكن استخدام لفظ آخر سوى المأساة، فالمدينة تبدلت معماريًا وعمرانيًا وتراثيًا». القيم التي فقدتها المدينة يرى نزار أنها بدأت تتلاشى تدريجيًا منذ سبعينيات القرن الماضي، لكنه هنا لا يلقي باللائمة على الانفتاح الاقتصادي الذي جرى خلال تلك الفترة، إذ يعتبر أن الانفتاح كان حتميًا لا مفر منه. «الانفتاح حدث في كل مدن أوروبا الشرقية، والصين، والاتحاد السوفيتي، لكنه في مصر قادنا في النهاية إلى العشوائية، العشوائية التي أرى أنها موجودة أصلًا لدى الشعب المصري وخصوصًا في تعامله مع العمران».

في هذا الحوار الذي ننشره في جزئين، نلتقي مع المؤرخ العمراني الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلي. نتحدث معه في الجزء الأول حول رأيه في التوسعات العمرانية الجديدة التي تشهدها المدن المصرية، وكذلك رأيه في أزمة الإسكان والزيادة السكانية والحلول التي يمكن تقديمها، في ظل أزمة يبدو أنها تتفاقم. أما الجزء الثاني من الحوار، والذي ننشره غدا الخميس، فنخصصه عن القاهرة القديمة وفرص بقاء طبقاتها التاريخية في ظل استمرار أعمال «التطوير» داخل المدينة المهددة.

  • في البداية.. كمعماري ومؤرخ، كيف تقيم ما يحدث داخل القاهرة ومصر بشكل عام خصوصًا على المستوى العمراني؟

عندما أقوم بقراءة كتابات المقريزي وابن إياس، أعزي نفسي. فالمقريزي في كتاباته يتحسر على المباني القديمة التي صارت أطلالًا. لذلك أرى أننا نعيش اليوم نفس المرحلة. والقاهرة طوال تاريخها تعيش الأمر ذاته؛ أي أن هناك مباني داخلها يصل فيها عمرها إلى النهاية. هذه النهاية قد تكون طبيعية أو بشرية، مثلما يحدث في القاهرة الآن. فقاهرة القرن العشرين مثلًا لم تعد موجودة وتم إقصاؤها بشكل شبه كامل. والنظام النيوليبرالي الذي جاء مع الانفتاح الاقتصادي، وخصوصًا خلال فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، أضر بالعمران. الدولة وقتها لم تهتم أصلًا بهذا الجانب. أما الآن فقد رأت الدولة أن الحل هو بيع الأصول المهمة، وهذه الأصول في الأغلب أراض. وهذا حدث في وقت سابق بصورة مختلفة فحسب الله الكفراوي وكذلك محمد إبراهيم سليمان، باعا الساحل الشمالي كله لأغنياء مصر، ولا أجد  مثل آخر حول البحر المتوسط قامت فيه دولة  بمثل هذه الطريقة، لأنه ليس من المنطقي خصخصة الشواطئ المصرية بهذه الصورة الفجة.

  • ما الذي يمكن أن نفهمه من هذا التحليل؟ وما تأثير ذلك على المصريين؟

يعني أن المجتمع أصبح مختلفًا. وأننا غيرنا من توقعات الطبقات الاجتماعية فيما يتعلق بقدرة السيطرة على مناطق عمرانية معينة. إذ أصبح الساحل الشمالي كله عبارة عن ساحل خاص لمجموعة من الأفراد. وهو أمر لم يحدث مثلًا في الساحل الشرقي لمصر؛ أي البحر الأحمر. لم يحدث نظرًا للبعد الجغرافي لهذا الساحل وطوله، بعكس الساحل الشمالي القريب نسبيًا من القاهرة. لذلك أرى أن حال العمران في مصر بصفة عامة، والقاهرة بصفة خاصة، سيء جدًا.

  • لكن الدولة منذ سنوات تحاول القضاء على العشوائيات.. هناك مدن كاملة جرى إنشاؤها خلال السنوات الأخيرة.. هل تعتقد أن الدولة نجحت في تعاملها مع العمران والإسكان أيضًا؟

الدولة لم تنجح في هذا الملف، وهو أمر لن يحدث أبدًا. قلت لك من قبل إنني كمخطط عمراني أرى أن القاهرة وصلت لنقطة اللاعودة، وأنه من الصعب والمستحيل حل أزماتها العمرانية الموجودة. تتحدث عن المدن والتوسعات العمرانية التي حدثت في السنوات الأخيرة؟ أرى أن هذه التوسعات خاطئة. لأن الدولة في السنوات الأخيرة كانت تنظر للإسكان باعتباره «Real estate» ؛ أي استثمار عقاري. وأي تخطيط عمراني سليم يجب أن ينظر إلى الإسكان من منطلق متكامل، وأن تراعى الأماكن التي يقطنها الناس، والأماكن والمدن التي يعملون داخلها، وكذلك المدارس، والأندية التي يرتادها السكان؛ أي يجب تلبية احتياجات السكان. وهي أمور للأسف لم تراع في تخطيط بعض المجتمعات الجديدة. كل ما فعلته الدولة هو تخصيص أراضي ومساحات شاسعة، وبيعها للناس.

أما بالنسبة للإسكان الاجتماعي، فهذه الوحدات السكنية تباع بسعر مقبول، لكنها تبعد كثيرًا عن المدن الكبرى والعاصمة. وقد وقع اختيارها بعناية. فإسكان محدودى الدخل لن تجده مثلًا في العلمين الجديدة، أو الجلالة، أو العاصمة الإدارية. لأن هذه الطبقات الاجتماعية وهؤلاء السكان غير مرغوب في أن يتواجدوا بشكل دائم داخل هذه المدن. لكن في المقابل قررت الدولة إنشاء مدن مثل: أكتوبر الجديدة، وحدائق أكتوبر، وهي مدن تبعد عن مدينة أكتوبر نفسها. لكن مشكلة هذه المدن أنه لم يتم مراعاة قاطنيها. ولنفترض أن شخصًا قرر الانتقال للعيش داخلها، فمتوسط المواصلات التي ستكلف هذا المواطن «محدود الدخل» للذهاب لعمله ستتراوح بين الـ100 والـ150 جنيهًا. فضلًا عن عدم وجود فرص عمل حقيقية داخل هذه المناطق الجديدة، وعدم تخطيط الخدمات الموجودة بالمنطقة؛ لذلك فهذه المدن تصبح مدن أشباح في نفس اللحظة التي يتم فيها الإعلان عن إنشائها.

د.نزار

  • دائمًا يتحدث المتخصصون عن مشكلة الإسكان والزيادة السكانية لكن دون أي حل حقيقي.. كيف يمكن أن نخرج من هذه الأزمة؟

في مصر لدينا مشكلة إسكان لم يتم حلها، ولم يتم التفكير أصلًا في حلها، بجانب أننا لم نقدم حلولًا مثل الصين أو الهند بالنسبة للتعامل مع الحد من الإنجاب، والحكومة بدورها تحاول إيجاد مدن جديدة لاستيعاب هؤلاء السكان الجدد. لكن المشكلة أنه لم يتم التفكير في إيجاد فرص عمل أو حياة اجتماعية حقيقية لهؤلاء السكان المحتملين الجدد. كل ما قامت به الدولة هو أنها استثمرت في بيع الأراضي لتحويل المدن إلى أراضي للاستثمار العقاري. والمصريون يفضلون دائمًا شراء العقارات لأنها بالنسبة إليهم استثمار آمن. لكنه في الحقيقة استثمار ميت.

نحن لدينا في مصر أكثر من 7 ملايين وحدة سكنية نصف تشطيب أو بدون تشطيب فارغة، وهذه الوحدات ينتظر أصحابها اليوم الذي سيبيعون فيه وحداتهم. وهذه النسبة لا تشمل المباني العشوائية المماثلة. ‏وهذا الرصيد السكني كفيل بتوفير السكن لملايين من الأسر التي بحاجة إلى الإسكان.

  • لكن رغم هذا، فإن أسعار العقارات داخل مصر في تزايد.. لماذا تنتج هذه الظاهرة؟

لأن لدينا سوقا مصطنعا وغير حقيقي. أسعار العقارات عمومًا يحددها سوق العرض والطلب. ونحن الآن لدينا طلب كبير لكن المعروض فعلاً من هذا الرصيد السكني قليل للغاية؛ لذلك فهناك زيادة غير منطقية في الأسعار كون أن المعروض قليل للغاية إذا ما قارناه بالنسبة الإجمالية للوحدات المغلقة والوحدات نصف تشطيب او بدون تشطيب.

  • وما الحل؟

الحل هو ‏إصدار قوانين شبيهة بقوانين التأميم

  • ماذا تقصد بالتأميم؟

ما أقصده ليس تأميمًا حرفيًا كالذي قام به عبدالناصر. التأميم يجب أن يتم من خلال تعويض الملاك بصورة عادلة. أو إيجاد وسيلة أخرى لتعويضهم؛ فهؤلاء يرفضون عرض منازلهم للبيع انتظارًا للفرصة المناسبة. لكن هذا الحل يجب أن يتم طرحه بشكل حقيقي، لأن الحكومة لا يجب أن تظل يدها مكبلة، فقد أعطت الفرصة الكاملة وسمحت ببناء هذه الوحدات؛ لذلك لابد من تقديم حل لعرض هذه الوحدات السكنية للبيع لحل أزمة الإسكان. لأنه إذا زاد العرض، سينخفض الطلب؛ وبالتالي سنكون أمام أرقام منطقية وعادلة للبيع. وقد قررت الحكومة وقف البناء في مناطق رسمية مكدسة مثل المهندسين، ونتيجة لهذه القرارات، قرر الكثيرون التوقف عن بيع العمارات القديمة. لأنهم ينتظرون اليوم الذي يعود فيه البناء مرة أخرى. نحن الآن أصبح لدينا نوع من الشلل التام في حركة العقارات داخل القاهرة. بالإضافة إلى الشلل التام الذي سببه قانون الإيجار القديم، فقد تحولت الكثير من هذه الوحدات إلى منازل فارغة نظرًا لأن أصحابها الأصليين انتقلوا لمناطق أخرى منذ سنوات. لذلك أرى أن الوضع سيستمر ما دامت الحكومة عاجزة حتى الآن عن حل هذه المشكلة، وهذا التدخل يجب أن يكون شجاعًا.

  • هل تعتقد أن المناخ الحالي قادر على تقديم معماريين شباب جيدين؟

بالتأكيد لا. المشكلة الآن أن المصريين وصلوا لدرجة من الاستسلام لم تحدث من قبل، وأدركوا أن لا شيء بيدهم. قرأت مقالًا مؤخرًا يشرح هذه المسألة لأحد علماء الاجتماع الذي قدم تحليلًا واقعيًا للنقطة التي وصل إليها المصريون. وقد خلص المقال إلى أن هناك حالة انسحاب كاملة لكثير من المصريين من الحياة الاجتماعية. أما الجزء الثاني من المصريين، فقد قرروا الاستفادة من الوضع القائم. والمشكلة أن كثيرا من المصريين لا ينتمون أصلًا لهذين المعسكرين. لكن في نهاية الأمر أصبحوا هامشيين وغير موجودين إطلاقًا، وأصبحوا خارج المعادلة. لذلك ينطبق  الأمر ذاته على المعماريين. هناك من يحاولون، وهناك من يلبون ما يطلب منهم للاستفادة الكاملة.

  • وهل تعتقد أننا ننتج عمارة جيدة؟

لا، إذ لا يوجد أي مرجعية لهذه المشروعات. فمعظم المشروعات الجديدة لم تنتج نتيجة أي نقاش مجتمعي حولها، ولم يترك للمصريين أي فرصة لإبداء الرأي فيها أو أي شيء يخصها.

  • لكن منذ نشأة القاهرة على يد جوهر الصقلي «الصقلبي»، لم يتم مناقشة السكان المحليين في أي من قرارات البناء داخلها، وهذا الأمر أيضًا ينطبق أيضًا على المدن التاريخية الباقية حتى اليوم في العالم!

نحن الآن في القرن الواحد والعشرين، ووضعنا يختلف عن الماضي. فالمدن العظيمة التي خرجت للنور سببها هو حرفية تصميم المباني وتشكيل العمران، وهذه الحرفية انتهت تمامًا في الزمن الحالي. أريدك أن تنظر إلى المدن الجديدة في دول العالم الأول أو حتى دول العالم الثالث التي تقوم بدراسات الجدوى، مثل: ماليزيا، والبرازيل، وإندونيسيا. فهؤلاء جميعًا قرروا إنشاء عواصم جديدة لهم، ولكنهم فكروا في أشكال مناسبة تلائم طبيعة دولهم. وقد وقع الاختيار على المعماريين القائمين على إنشاء هذه العواصم وفقًا لمعايير صارمة تتوافق مع طبيعة هذه البلدان وثقافة الناس.

لكن في حالة العاصمة الجديدة، نحن لا نعرف من خططها، ولا نعلم مرجعية هؤلاء المعماريين. لا أعرف، مثلًا، السبب في اختيار الميادين داخلها بهذه الصورة، ولا الرسائل التي أراد المعماري إيصالها. عندما تذهب للعاصمة، ستجد أن الوصول إلى الحي الحكومي يتطلب المرور على ميدان البنوك. لكن عند التفكير في الأمر من ناحية فلسفية، ستتساءل وتقول: ما الرسائل التي أرادوا إيصالها من هذا الميدان قبل الذهاب إلى الحي الحكومي؟ وهي أمور يمكن أن ينظر لها باعتبارها مقصودة. لكنني أظن أنها غير مقصودة، لأن التخطيط تم بعدم شفافية ؛ وبالتالي فمثل هذه القرارات ليست مبنية على أي مرجعية يمكن من خلالها الاختلاف معها أو حتى مساندتها.

اقرأ أيضا:

د.سهير حواس: قرارات وقف هدم الجبانات «وهمية»!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر