درسان في الفن من «مهرجان الجونة»: الأعمى الذي أعاد تعريف السينما!
في فيلم «فرنش ديسباتش» (The French Dispatch) آخر أعمال المخرج الأمريكي ويز أندرسون (عرض في مهرجان “الجونة” الأخير)، يردد رئيس تحرير المجلة التي تحمل اسم الفيلم نصيحة واحدة دائما ما يوجهها لمحرريه: إذا كنت ترتكب أي خطأ حاول أن تجعله مقصودا!
في الفيلم أيضا يظهر خبير تحف فنية اكتشف وجود فنان في سجن المرضى العقليين يقوم برسم لوحات تجريدية مشوهة تشبه شخبطة الأطفال. وعندما يسأله البعض عما وجده في هذه اللوحات الغريبة، وكيف يعرف أن صاحبها فنان وليس مجنون يشخبط، يقول لهم ما معناه: إننا عادة نختبر هؤلاء المجربين باعطائهم اختبار تقليدي صغير لنرى هل يقدرون على الرسم وفقا للقواعد والمنطق أم لا. الخبير طلب من الرسام المجنون رسم طائر صغير بشكل كلاسيكي فرسمه بسرعة ومهارة شديدة.
الخطأ المقصود
يكثر الحديث هذه الأيام، مع فوضى ثورة المعلومات ووجود ملايين الأعمال الفنية والتي تدعي أنها فنية، حول صعوبة التمييز بين الفن الحقيقي والتقليد الممسوخ، وبين التجديد و”التطجين”. وأعتقد أن الدرسين المذكورين أعلاه يمكن أن يشكلا بذرة إجابة على هذه الأسئلة.
أي فنان يجب أن يمتلك المهارات الحرفية اللازمة، ويعرف كيف يصنع أعمالا تقليدية شعبية بسهولة، ولكن البعض لا يكتفي بذلك. الفنان الحقيقي يتساءل ويبحث دائما عن امكانيات الوسيط الذي يستخدمه، سواء كان لغة أو ألوانا أو موسيقى أو سينما..يحاول أن يستكشف المدى الأقصى للجماليات، وأن يصل إلى منتهى الاستخدام الأمثل لعناصر الوسيط. يوسف شاهين، مثلا، أثبت مكانته كمخرج متمكن في إطار السينما المصرية وحدودها قبل أن يتمرد ويقرر أن يجرب في أنواع وأساليب وموضوعات أخرى، وتحمل كل ما لاقاه من انتقادات واتهامات لإنه كان يثق فيما يفعله، ويعرف أن هذا قدر الفنان الحقيقي ودوره: أن يطور الفن نفسه.
إذا كنت تنوي أن ترتكب أي خطأ، فلتجعله يبدو مقصودا!
هذه النصيحة التي يرددها رئيس التحرير للمحررين هي حيلة ماكرة، وبعض الفنانين متوسطي الموهبة يستخدمونها بالفعل لخداع الجمهور والنقاد بمحاولة اظهار عيوب أعمالهم وكأنها مقصودة لأسباب أعمق. وعلى الناقد أن يستخدم الحيلة الثانية ليكتشف مدى صدق موهبة هؤلاء: أن يخضعهم لاختبار الفن التقليدي ويرى ما إذا كانوا بالفعل متمكنين من حرفتهم أم مجرد مخادعين.
لكن ما يكشف بالفعل عما إذا كان الاستخدام غير التقليدي للتقنيات الفنية عيب أم تجديد وابتكار هو اختبار علاقة الشكل بمضمون العمل والعلاقة العضوية بين العناصر الفنية المختلفة.
الأعمى الذي رفض أن يشاهد تايتانك
مثال حديث ونموذجي لهذا هو الفيلم الفنلندي “الأعمى الذي رفض أن يشاهد تايتانك”، إخراج وتأليف تيمو نيكي، الذي فاز بجائزتي أفضل فيلم وممثل في مهرجان “الجونة”.
ينطلق مخرج ومؤلف العمل من سؤال جوهري: ما هي السينما؟ أليست هي اظهار ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا المجردة ونحتاج إلى الفن لكي نراه؟ طيب لنفترض أننا نريد أن يرى المشاهد ما يراه شخص أعمى مقعد. ليس فقط أن يرى الرجل الأعمى، ولكن يرى من خلال عينيه، أن يشعر بما يشعر به، وأن يعايش ما يعايشه.
من هذه الفكرة ولد شكل واسلوب الفيلم الذي لا يكاد يشبه أي شئ آخر في تاريخ السينما. ليس هناك “كادر” واحد سليم، الكاميرا لا تصور تقريبا سوى وجه وقفا البطل، لا تفارقه أبدا حتى وهو يسقط من كرسيه المتحرك والعالم من حوله مشوش لا تظهر فيه وجوه أو معالم واضحة. انس ما تعلمته عن قواعد التصوير في معهد السينما أو الكتب. ليس هناك إطار محدد أو تكوين أو بعد بؤري أو ألوان أو تنوير درامي أو موضوع واضح تصوره الكاميرا. أو بمعنى أصح هناك كل هذا ولكن بشكل يعبر عن مضمون العمل، وهو أن نشعر طوال الوقت بأننا لا نرى ما يكفي.
وعوضا عن الصورة يلعب الصوت دورا أساسيا في الفيلم، فهو الحاسة الوحيدة التي يعتمد عليها البطل. أذناه هما مدخله إلى العالم ولسانه هو كل ما بقى له كأداة للتعبير عن نفسه، وحين يسقط وينتابه الدوار أكثر من مرة، يعبر شريط الصوت عما يشعر به بنفس الطريقة، إذ نصبح وكأننا داخل رأسه نسمع ما يسمعه. إذا كنت تنوي أن ترتكب بعض الأخطاء احرص على أن تبدو مقصودة. أو بمعنى آخر تحطيم القواعد ممكن، وضروري أحيانا، في الفن، ولكن بشرط أن يكون لديك سبب مقنع لذلك!
اقرأ أيضا:
فيلم «ريش»..فخر السينما المصرية