من وجوه الفيوم لأيام طه حسين: البورتريه بين الأدب والتشكيل
البورتريه بين الأدب والفن التشكيلي، كان محورا للندوة التي أقيمت ضمن فعاليات معرض “نهار داخلي” الذي أقيم بجاليري «قرطبة» بالمهندسين. أدار اللقاء الناقدة التشكيلية والكاتبة الصحفية رانية خلاف وشارك فيه الكاتب الروائي خالد الخميسي، والفنان التشكيلي محمد عبلة، والناقد الأدبي د. محمد الشحات، والشاعر والناقد د. وليد الخشاب، بحضور الفنانين المشاركين في المعرض.
اندماج الفنون
تحدثت في البداية الكاتبة الصحفية رانية خلاف مشيرة إلى أن “البورتريه يعكس وجهة نظر الفنان عن نفسه وحياته في توقيت معين رغم أن البورتريه ليس كاللوحة التي تحمل تفاصيل ودلالات معينة. إذ يعكس البورتريه بشكل أو آخر الحالة النفسية والمجتمعية للفنان. وتضيف: “ناقشت مع محمد الجبالي إمكانية إقامة معرض سنوي لتعميق الاهتمام بالبورتريه لأنه يحمل قدر كبير من الذاتية”.
وتابعت: “اللقاء الحواري عن فكرة اهتممت بها كثيرا ولازلت، عن اندماج الفنون مع بعضها البعض مثل الشعر والأدب مع الفن التشكيلي. ولفترة قريبة كنت اكتب شعر ولي 3 دواوين لكن انشغلت لفترة بالصورة البصرية. وعلى المستوى الشخصي نادرا ما ألاحظ أن كاتب يهتم بالمعارض التشكيلية على عكس التشكيليين في البداية تكون الثقافة قائمة على القراءة ثم يليها التخصص”.
وعبرت خلاف عن رغبتها في إيجاد نوع من التلاقي من خلال الفن التشكيلي والبورتريه بشكل خاص مع الشعر والأدب مثل: الواقعية، والانفعال، والشاعرية والفانتازيا. مضيفة أن العلاقة بين الأدب والفن التشكيلي وفي تاريخ الفن بشكل عام كان يرعى الفنانون كُتاب أصدقائهم مثل بولديير وجوجان وكانوا ملاصقين لإدوارد مانييه وشجعوه مع التسويق للأسلوب الجديد الخاص بهم.
بورتريهات أدبية
الكاتب الروائي خالد الخميسي له تجربة مع البورتريه في كتاباته مثل رواية “التاكسي” أول رواياته، والتي كان لها رد فعل قوي لأنها عبارة عن بورتريهات متعددة والرواية الأخيرة “شمندر” بطلها فنان تشكيلي.
ويقول الخميسي: “على عكس ما يُقال، أتوقع أنه توجد علاقة قوية بين كل كاتب وعالم البصريات وبعض الكُتاب اتهموا الآخرين أنهم متأثرين تأثر فادح بالعوامل البصرية. وباعتباري في معرض لفن البورتريه، فتأمل الإنسان والذات ومحاولة فك شفرة الإنسان هي طريق بدأ منذ آلاف السنين، واستمر في الأدب”.
وأشار إلى أنه لا يوجد أي شك أن السعي لفك شفرة الإنسان هو في الأساس في أي عمل أدبي وبالتالي حل استعمال كلمة بورتريه في كل عمل أدبي، تكون البورتريهات عديدة لشخوص عديدة وهؤلاء الشخوص يسعى الكاتب على قدر استطاعته أن يدخل في عوالمهم وفهمهم بدرجة أكبر أن يكونهم حتى يستطع الحديث بلسانهم والتعبير بلغاتهم.
مسألة التماهي
وأضاف الخميسي أن مسألة التماهي بين الكاتب وشخوصه والبورتريهات تعد عاملا أساسيا ضمن أعمال كل كاتب. وتابع: “تتمتع المسألة بالصعوبة في بعض الأحيان فالكاتب الرجل لا يستطيع أن يدخل عالم المرأة والحديث بلسانها. بينما المرأة تستطيع أن تدخل عالم الرجل والحديث باسمه ولسانه وروحه وتدخل إلى عالمه ورؤيته للدنيا وهي مسألة مطروحة دائما للنقاش”.
ويرى أن النص محاولة للإنسان لتقديم سردية تاريخية خاصة بتاريخه في محاولة للتطهر. إذ تعتبر الرواية عملية اعتراف وبالتالي هي بورتريه للشخص. وقال: “هناك سيرة ذاتية مُتخيلة لفنان تشكيلي ولد عام 1958 ومات عام 2018 وخلال 60 عاما عاشها يحكي سرديته التخيلية الخاصة بحياته عبر فنه التشكيلي. وكل فصل لوحة تشكيلية جديدة، وهذه اللوحة تشكل لحظة من لحظات حياته، وتمثل اعترافاته بروفة لمواجهة المحاكمة النهائية أمام الخالق”.
تاكسي حواديت المشاوير
أما في رواية “تاكسي – حواديت المشاوير” للروائي خالد الخميسي، فهي تتكون من 58 فصلا لـ58 فنانا مختلفا و58 شخصية. وهي بورتريهات سريعة لشخوص مختلفة في الشارع القاهري.
ويوضح الخميسي: “البورتريه دائما موجود في أي عمل إبداعي أو تخيلي. وهناك الكثير من الأمور القريبة من الفنان وبعيدة عن الكاتب. وعلى المستوى الشخصي أنا مُعجب بأعمال الفنان محمد عبلة. وجميعنا نملك جزء من الحس الفني ومحاولة تجميله هي مسألة مجهود، وكذلك الكتابة مثل كل عمل إنساني مرتبطة بالطاقة المبذولة والترتيب والتنظيم والزمن. وفي رواية شمندر استغرقت مني عامين ونصف للكتابة ولحسن الحظ كان لدي القدرة على استمرار الكتابة يوميا”.
البورتريه بين الشعر والسرد
كما تحدث الشاعر د. وليد الخشاب، أستاذ الدراسات العربية بإحدى الجامعات الكندية عن كيفية تشكيل البورتريه بين الشعر والسرد. وقال: ” في المعتاد عند تدريس الفن التشكيلي والأدب ذو السرد. خاصة أني حصلت على الدكتوراه في الأدب المقارن. فالجميع يرجع إلى فيلسوف أوروبي للحديث عن الأدب والفن التشكيلي. فالقارئ بحاجة إلى جمل وزمن معين لقراءة الكلمات وتكوين صورة ذهنية تتعامل مع الواقع. بينما الفن التشكيلي والفنان البصري يقدم للقارئ مشهد ذو علامة كبيرة. والقارئ بلمحة واحدة ينحاز إليها ثم يستغرق الوقت للتفكير فيها. وهذا هو التصور المعتاد للمقارنة بين الفن التشكيلي والأدب”.
وتابع: “أحب تفكير فيلسوف ومؤرخ فرنسي شهير يسمى بيرمال. وأصبح علامة كبيرة في نظريات الفن التشكيلي باقتراحه أن التصور للفن التشكيلي عبارة عن محاكاة بين وجه أو جسد في الحقيقة والواقع وبين البورتريه والعمل الفني المرسوم. ونرى أن الفن التشكيلي عبارة عن عرض ما يحرك الفنان، عبر التعبير عن شيء معين يحرك أعراض معينة بشكل لا إرادي”.
بورتريهات عبلة
وتطرق الخشاب لتحليل واحدة من أعمال الفنان الأكثر إنتاجا لمحمد عبلة، واحتمالات قراءة بورتريه واحد. وقال: “إذا فكرنا في التأثير الذي يعرضه عبلة في البورتريه من الممكن أن يقدم الشخص قراءات كثيرة. من الممكن لدارس أن يصفها بإعادة التدوير نظرا لعمله من عناصر الحياة اليومية. والمهتم بتاريخ الفن الغربي قد يرى بها روح جوجان بسبب الملامح. والمهتم بالبوب آرت قد يرى بها الألوان اللامعة الفسفورية من القرن العشرين. وبالنسبة لي هو نموذج على انشغاله بمعرفة هويتها وإمكانية تحليل العمل”.
تذكر الباحث بورتريهات الفيوم نظرا لأن الفن المصري في هذه المرحلة جسد نوع من محاولة رسم لروح بعد موت الجسد في مقابل أن الشائع لرسم البورتريه منذ قبل عصر النهضة في القرن الخامس عشر. البورتريه هو محاولة تثبيت الحياة وروح هذه الشخصية بشكل يُخلدها، مفسرا ذلك بتصور أن الفن في مصر مفتوح.
فيما أشار التشكيلي محمد عبلة إلى أن اللوحات التشكيلية يمكن اعتبارها بمثابة عرض مرضي يدعو للتساؤل.. فالفن بدون تساؤلات لا يستمر، وفكرة السرد والرواية وعلاقتهم بالبورتريه أثناء بناء الشخصية في ظل العوامل المساعدة. لكن البورتريه بتكوّن الذاكرة البصرية تكون المشاعر هي الأساس للتحكم. وهذا هو الفرق بين بناء الشخصية في الرواية والعمل الفني.
الأصول الواحدة للأدب والفن
“ما علاقة النقد الأدبي بالفن التشكيلي؟” كان هذا بداية حديث الناقد الأدبي د. محمد الشحات أستاذ النقد الأدبي. إذ تناول في البداية فرضية أنه هناك ما يشبه القطيعة في تكوين نقاد الأدب ونقاد الفن وهي قطيعة مُفتعلة أو زائفة. مضيفا: “أتصور أن نظريتي الفن والأدب والنقد بشكل عام ذات أصول واحدة منذ بداية أرسطو. وبالرجوع إلى كتاب فن الشعر والأصول الأولى التي تكلم عنها عن أشكال المحاكاة وأنماطها وتطبيق أفكاره في المسرح اليوناني وأصول النظرية واحدة.. ولكن تكمن المشكلة في إمكان الناقد سواء الفني لأعمال تصوير أو الأدبي بالكتابة هي الممارسة، وليس في نوع الفن. وهناك كتاب هام جدا لألبرت ميكو صدر في عام 2007 عن القبح وحقيقة قراءة اللوحات سواء تصوير أو نحت وُصفت بأنها قبيحة”.
“الأدب فن يستخدم وسيطا وهو اللغة. ولكن هل يمكن للناقد الأدبي التعامل مع اللوحة باعتبارها سردية؟”. يجيب أستاذ النقد الأدبي بأنها سردية واقعية وفي النهاية هي سردية مُتخيلة. وفي عملية السردية هناك عرض. وفي لوحة الفنان محمد عبلة تجلي لأشكال كثيرة ليس فقط حالة الفنان عندما يمارس الفن. وكل المؤثرات التي تشير إلى عصور مختلفة.
وقال: “من الممكن كناقد فني أعمل على الإضافة والحذف في الفن لكيفية قراءة اللوحة. ولا تختلف الآليات كثيرا عندما اقرأ نص أو شعر. المشكلة في فقر نقاد الأدب وعدم شغل والانتقال لهذه المساحة منذ كتاب تعدي النص في التسعينات للتحرك بين الأدب والفن. وكان إدوار الخراط نموذجا مثاليا”.
السيرة الذاتية والبورتريه
وقبل البنيوية كان يُطلق على العمل بشكل عام العمل الفني وبعد مفهوم النص، حدثت قطيعة وإحالة دلالة النص إلى النص المكتوب. واستكمل:” لكن في الحقيقة اللوحة نص. وكثير من الأعمال التشكيلية لا تُمنح عنوانا لكن في النص الأدبي من النادر وجود نص بدون عنوان الذي يعد عامل مساعد ويكرس بشكل ما الاتجاه وربما بشكل أو آخر أصبح النص مرتبط بالكتابة.
وما دامت اللوحة نصا هناك احتمالات لمقارنتها وهي احتمالات تفكيكية، فسيولوجية، جندرية، ثقافية، بنيوية، ونقد بيئي أو إيكولوجي له علاقة ما بفكرة قديمة وهي نظرية وحدة الوجود باعتبار أن كل الكائنات متكافئة من ناحية القيمة لان كلانا يحدث توازنا بيئيا.
كما يمكن للناقد إحداث مقارنة لفن السيرة الذاتية والبورتريه. مثال طه حسين في “الأيام” بورتريه. وأوضح: “من خلال التركيز على الذات منذ الطفولة حتى مرحلة الوعي بكل هذه التحولات وما واجهه من مشكلات، وهو تكوين، والاختلاف في اللوحة مساحة محدودة. ويكون التركيز على الوجوه في الغالب، وبعض اللوحات يكون فيها موتيفات لحيوانات أو وجوه في الخلفية. إذ يوازي التركيز على الوجه اهتمام كافي للسيرة الذاتية بتفكيك كل إشكاليات الذات في علاقتها بالواقع وفي تاريخ السيرة الذاتية العربية من أندر الأنواع التي كتبت عربيا. إذ تبدأ السيرة الذاتية العربية كلها من الطفولة كأنه نحت للشخصية في طفولتها حتى النضج والوعي وباختصار لا توجد قطيعة بين الفن والأدب وكليهما يشترك في التركيب السوسيولوجي للمجتمعات، وأحيانا يكون الإعلام من شكل جميل له معايير مختلفة بتصوراتنا”.
وحدة الأدب والفن التشكيلي
روى الفنان التشكيلي محمد عبلة ذكرياته في الدراسة في الخارج بعد إنهاء المرحلة الجامعية والدروس التي تعلمها. وخلال الدراسة في سويسرا عندما اضطر لرسمه نفسه. وكان هذا طلب مخصص لتعليم الرسم بدقة. وقال: “كانت هذه هي المرة الأولى التي اضطر فيها لرسم نفسي. واضطررت إلى وضع مرآة أمام وجهي على مدار 3 أيام لتنفيذ اللوحة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أتأمل فيها وجهي بكل هذه الدقة. وفي النهاية رسمت اللوحة بالشكل الذي طلبه وكانت هذه أول وآخر مرة ارسم فيها نفسي ولكنها كانت تجربة كافية لتأمل الذات”.
وتابع: “كان لهذه التجربة وقعا كبيرا في نفسي للتأمل، والتجربة الثانية كانت عندما اضطررت لرسم البورتريهات السريعة في إسبانيا لجني المال. تعلمت منها تقريب الشبه وتغيير الملامح من خلال التحكم في العمر والجمال، ولكن حين يكون الشخص مُدرك للبورتريه يكون له طلبات أخرى منها إظهار إحساسه وروحه في العمل”.
كواليس الرسم
أما رسم الوجه، على حد وصفه فإنه متعلق برسم تاريخ وخبرة وردود أفعال. واستكمل وصف البورتريه نفسه محل تعليق النقاد كاشفا كواليس رسمه. وقال: “هذه الصورة في البداية كانت لشاب ثم بمرور الوقت بدأت في إضافة جديدة للعمل كل فترة حتى تحول إلى فتاة تحمل شيء ما من تاريخ الشاب. وكان هذا الشاب صياد واللون الأخضر كان موجودا منذ بداية رسم العمل لأنه كان في قرية. ثم فضلت إضافة الورقتين باللون الذهبي لخلق حالة من الصدمة لمدخل جديد للعمل. وبعد لصقها بدأت تظهر الملامح أنها فتاة وليس شاب. ثم فضلت أن يطغى الجانب الأنثوي في الشفاه ولكن العينين لازالا يحملان ملامح ذكورية. وأحيانا يستخدم الفنان الوجه الإنساني لرواية أشياء ليست بالضرورة متعلقة بالوجه نفسه”.
وروى موقفا جمعه بالأديب الراحل نجيب محفوظ على قهوة الفيشاوي. إذ تفاجئ بوجوده وذهب ليعرفه بنفسه، وقال له: “فنان.. يا بختك!”. وعند سؤال عبلة عن سبب انجذابه للفن التشكيلي أجاب أديب نوبل بعد اصطحابه أمام لوحة، وقال له: “أنت بفرشة وشوية ألوان ترسمه لكن أنا أعبر عنه بالكتابة في كام صفحة!”. وتابع عبلة أن الأدب والفن التشكيلي يشتركان في الرغبة لإيصال رسالة ما، سواء معلومة أو انطباع أو دفعة.
اقرأ أيضا
«معرض العمارة الجنائزية»: فنون قرافة القاهرة التاريخية من جولات حرة