من الفسطاط لأمريكا.. رحلة فنان الخزف إبراهيم سعيد
إعادة تقديم التراث المصري وتجسيد الفلكلور والعادات الشعبية بطريقة معاصرة في أعمال خزفية، كانت سر نجاح وتميز الفنان التشكيلي المصري إبراهيم سعيد، عضو الأكاديمية الدولية للخزف بسويسرا، في رحلة من مدينة الفسطاط بالقاهرة إلى الولايات المتحدة استطاع من خلالها الوصول إلى العالمية، وحرصت العديد من المتاحف العالمية على اقتناء أعماله كان آخرها عرض متحف «فيكتوريا وألبرت» البريطاني لقطعتين من تنفيذه في المعرض الاخير الذي تم افتتاحه في 19 مايو الجاري.
الفسطاط سر الصنعة
خلال إقامته بالولايات المتحدة، يروي الفنان التشكيلي المصري إبراهيم سعيد لـ«باب مصر»، قصة نجاحه ونقل الخبرات المصرية للخارج بعد جهوده المستمرة في إحياء التراث المصري، حيث استوحى كل أعماله من الخزف الفرعوني والإسلامي، خاصة فكرة «شبابيك القلل» التي كانت سائدة في العصرين المملوكي والفاطمي، واستمر استخدامها في مناطق مصر القديمة تحديدا «الفسطاط» حيث نشأ الفنان التشكيلي.
النشأة بين الأعمال الخزفية في الطفولة كان لها تأثير كبير على حبه للخزف وأعمال الصلصال، خاصة أن والده كان خزاف وامتلك “أتيليه” في مصر القديمة، وبحسب ما قاله لـ«باب مصر» كان يقضي أوقات طفولته بين أعمال الخزف، ويقول: “بدأت الاهتمام بهذا الفن وتعلم المزيد من والدي بعدما لاحظ انجذابي لفن الخزف خاصة الإسلامي وقدرتي على تقليد كل ما أراه”.
الموهبة الفطرية والنشأة في الفسطاط موطن الخزف وأعمال الصلصال في مصر، بدون دراسة فن أكاديمي كانت سر نجاح وتميز إبراهيم سعيد منذ بداياته حتى الآن، ولكنه حاول إثقال خبراته من خلال دراسة مستقلة استمرت لمدة 3 سنوات في مراكز الحرف التقليدية، “كنت أعمل خلال هذه الفترة بطريقة الرسم قبل التنفيذ حتى خطرت لي فكرة تنفيذ الشبكات الهندسية واستخدام الفلكلور الشعبي والمعتقدات المصرية في الخزف” كما قال.
وتابع: “أنا أعمل مع الطين، اهتماماتي تكمن في التوسع في الأشكال والمبادئ المتجذرة في ثقافتي من خلال الفخار المصري القديم والفنون الإسلامية، عبر ربط لغات الوظيفة والنحت، آمل أن أستحضر قصصًا عن الطقوس وإحياء الذكرى والأمثال الثقافية، التي تبدو قديمة وذلك لاستخدام الهندسة”.
إبراهيم سعيد
وبعد البدء في تنفيذ الفكرة، كان هدفه الأساسي تنفيذ شكل مستوحى من الأشكال الهندسية خاصة بطريقة شباك القلة، وليست أشكال أو زخارف عشوائية، وبدء التنفيذ باستخدام الدائرة التي تعد أساس كل الأشكال الهندسية وتماس الدوائر معا مثل النجوم الإسلامية أو الخماسية أو السداسية ينتج عنه أشكال لا نهائية.
منحوتاته مستوحاة من المصنوعات اليدوية لفلاتر إبريق الماء المصنوعة من 900-1200 في الفسطاط، على الرغم من أن التصميمات المنحوتة صنعت لأسباب وظيفية، لتصفية رواسب النهر، إلا أن جمال التصاميم الهندسية والزهرية والحيوانية سائد في الفنون الإسلامية، ويقول: “ما كان شعريًا بشكل خاص عنهم هو أن أولئك الذين يشربون فقط هم من يمكنهم رؤية التصاميم فقط”.
تعتمد فكرة «شبابيك القلل» على مبدأ الجمال الخفي، حيث تتسم بالزخارف الهندسية والنباتية والحيوانات، في داخل “القلة” ولا يستطيع الشخص رؤيتها إلا خلال الشرب منها، وهي عبارة عن ثقوب لتنقية المياه على شكل زخارف ترجع إلى الفنون الإسلامية القائمة على مبنى ديني في الثقافة المصرية في ذلك الوقت.
فيما تعد أشكال المزهريات الملهمة له من فترة (نقادة 3) في مصر من 3200-3000 قبل الميلاد، ومنها الخطوط القوية والأشكال الجريئة لتلك الفترة على وجه الخصوص والتي تجسد نهايتهما الرقيقة وقواعدهما الصغيرة الأناقة والقوة التي لا تزال لا مثيل لها.
ولتنفيذ هذه الفكرة استكمل الدراسة، لفهم أسس التصميم ومبادئ الكتلة والفراغ، ليبدأ بعدها في مزج الزخارف مع الكتلة، “أعتقد أن هذا هو أهم ما يميز عملي أنه مستوحى من التراث المصري حتى باستخدام الألوان مثل حريق الفخار الأسود ودرجات الأزرق”.
نجاح عالمي
نجاح مستمر على مدار سنوات في مصر، وازداد هذا النجاح بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة في نهاية عام 2013، من خلال العمل المستمر وإقامة معارض فنية في أكثر من دولة مثل إسبانيا وبريطانيا، حتى أصبح التعلم على يده أصول وفنون الخزف على الطريقة المصرية مطلب للفنانين والطلبة في الولايات المتحدة.
ويروي تجربته قائلا: “لاحظت الإقبال على التعلم في الخارج خاصة فنون الخزف التي يميزها استخدام العديد من التقنيات وطرق التنفيذ، وتتم دروس التعليم إما من خلال المقابلة أو عن بُعد مع تنظيم فعاليات للتعليم بالجامعات الأمريكية”.
تكمن صعوبة أعمال إبراهيم سعيد- وهي ما تميز أعماله عن غيرها – في المحاولات المستمرة للابتكار حتى باستخدام خامات تعارض قواعد المهنة، وهو ما يستغرق منه وقتا للتجربة والدمج بين التراث والمعاصرة، وآخر للتنفيذ قد يتراوح من أسبوعين إلى عدة أشهر للقطعة الواحدة دون تخطيط أو رسم مسبق للفكرة.
حرصت المتاحف الأجنبية على اقتناء قطع خزفية لإبراهيم سعيد، منها متحف “هامبورج” الذي اقتنى قطعتين في وقت سابق، وأكاديمية الفنون والآداب، فضلا عن حصوله على جائزة “أصغر فنان رائد”، كذلك اقتناء متحف “فيكتوريا وألبرت” البريطاني، قطعتين من أعماله وعرضهم في أحدث معارض المتحف “فنون الخزف المعاصر بالشرق الأوسط”.
قطعتين بمتحف بريطاني
والعملين هما “الدائرة المزدوجة” و”الدائرة العالقة”، وتعد الدائرة المزدوجة واحدة من أقدم منحوتاته منذ عام 2010، والتي استمدت من التراث الإسلامى القديم لشبابيك القلة وهو مدخل و محور اهتمامه في بناء منحوتات والتى من خلال رؤيته يطرح تساؤل في الربط بين الشكل والزخارف الداخلية، أو علاقة يتخللها حوار متبادل بين الكتلة و الزخارف الهندسية التي تشغل سطحها وأن يحدث ربط بينهما لا تبدو زخرفة تشغل السطح، بل نسيج واحد يتعايش معا.
ومن خلال الحركة بين الكتلتين الذي يتخللهما الفراغ يحدث تغير في ثابت الكتلة تعطى إحساس بديناميكية الحركة المستمرة، والتي تعد ترجمة لظهور أجزاء من الزخارف التي تشغل سطحها واختفائها طبقا لرؤية الكتلتين.
ويقول: “الفكر المعاصر يرى أن الحقيقة الخارجية للأشياء تعود بالتدريج إلى التركيز ليس على ما نراه فقط، بل ما هو وراء المحتوى الخارجي، أي وصولا للعمق بنظرة تأملية أدق، فالخزف لم يعد يقتصر دوره على البحث عن الأفكار والرؤى الإبداعية الجديدة بقدر إيجاد تآلف بين هذه الأفكار والتقنيات والأساليب الخزفية المتعددة”.
و بالرغم من أهمية دور معالجة السطح بالزخارف الهندسية في العمل الفني، إلا أنها ليست كل شيء فهي بمثابة النسيج الذي يربط عناصر العمل الفني بعضها ببعض، وهي لا تمثل للخزاف مجرد مهارة، بل هي الحساسية العالية بكيفيات المواد والأشكال، وتلك الحساسية بمثابة المُوجِّه لكل تصرفاته ليأتي عمل منسق بين عناصر العمل الفني القائم على التوازن الدقيق بين الكتلة ومعطياتها، وتظهر فردية وشخصية الفنان من خلال إتباعه هذا المنهج في إحداث نظام محدد ومقصود.
تعليق واحد