من الأدب الفرعوني| «مصارين البطن بتتعارك» على صدى صرخة بريء
يشير الدكتور سليم حسن في مقدمة كتابه (الأدب المصري القديم) إلى أن بعض القصص المصرية ناقشت موضوعات فلسفية اصطبغت بصبغة دينية وأخلاقية وعبرت عن متاعب النفس البشرية وصراعها مع قوى الطبيعة وتأثيرات ذلك على أقوالها وأفعالها، ويعضد الأثري الكبير نظريته بسرد قصة شجارين، الأول شجار إنسان سئم الحياة مع روحه، أما الثاني فكان شجارا بين الرأس والجسم، وبالرغم من ضياع بعض أجزاء من تلك القصص إلا أن حسن استطاع من خلال تحليل السياق ومقارنة الترجمات تفسير دلالات كل قصة.
بردية بلا عنوان
يعتقد حسن أن قصة شجار إنسان مع روحه من نتائج العصر الإقطاعي “عصر الاضمحلال الأول- 2181الى2055 ق.م”، الذي أدى إلى تقطيع أوصال الدولة وانتشار الفساد الأخلاقي والديني، معتبرا أن ذلك الشخص قد سئم الحياة لذلك دخل في شجار مع روحه.
ينوه حسن إلى أن القصة مسجلة في بردية مهشمة بمتحف برلين، لافتا إلى أن العنوان الأصلي للقصة فقد بسبب تهشمها، مستخدما العنوان الذي وضعه العالم الفرنسي أرمان مترجم النص الأصلي والذي استوحاه من سياق القصة.
ومن قراءة حسن للقصة يرى أن الرجل سيطرت عليه مشاعر التشاؤم وبات ساعيا للموت ورافضا للحياة، بينما روحه تأبى أن تطاوعه، فينشأ ذلك الصراع الذي اتخذ صورة الجدال من جانب واحد (الرجل) والذي صاغه الكاتب المصري في صورة أربع مقطوعات شعرية، لخصت مأساة الرجل، الذي كره الحياة.
“لمن أتكلم اليوم؟”.. صرخة بريء
يظهر من سياق القصة أن الرجل صادفه حظ عاثر، فلازمه المرض وتخلى عنه الجميع حتى إخوته، فراح يقول في المقطوعة الأولى: “انظر أن اسمي ممقوت أكثر من رائحة التماسيح، أن اسمي ممقوت أكثر من زوجة حين يقال عنها الأكاذيب لزوجها”.
وفي المقطوعة الثانية، يقول: “لمن أتكلم اليوم؟ الإخوة شر وأصدقاء اليوم ليسوا جديرين بالحب، لمن أتكلم اليوم؟ الناس شرهون، وكل إنسان يغتال متاع جاره، ومن كان طلق الوجه أصبح خبيثا، وأصبح الخير ممقوتا في كل مكان، لمن أتكلم اليوم؟ والناس يضحكون حينما تكون خطيئة، لمن أتكلم اليوم؟ فأني مثقل بالشقاء وينقصني خلّ وفيّ، لمن أتكلم اليوم؟ فالخطيئة التي تصيب الأرض لا حد لها”.
ويذكر حسن أن المقطوعة الثالثة كانت عبارة عن أنشودة في مدح الموت وطلبه، جازما بأنها تعتبر أقدم صيغة عبر بها الإنسان الذي ظلم عن الموت وأول صرخة برئ وصلت إلينا من العهود القديمة.
يقول الرجل:
إن “الموت أمامي كرائحة بخور المر وكإنسان يقعد تحت الشراع في يوم شديد الريح”.
أن “الموت أمامي كرائحة زهرة السوسن وكما يقعد الإنسان تحت شاطئ السكر”.
إن “الموت أمامي كرجل يتوق لرؤية منزله بعد أمضى سنين عدة في الأسر”.
وفي المقطوعة الرابعة يلمح الرجل إلى ثقته بأن حاله سيكون أفضل في العالم الآخر وأنه في مأمن من عقاب الآلهة لأنه لم يكن ظالما وإنما مظلوما، فيقول:
إن “الذي هناك سيقبض على المجرم كأنه إله ويوقع عقاب الإجرام على من اقترفه”.
أن “الذي هناك سيقف في سفينة الشمس ويجعل أحسن القرابين هناك تقدم للمعابد”.
أن “الذي هناك سيكون رجلا عاقلا وغير منبوذ مصليا (لرع) حينما يتكلم”.
وحسب حسن تستسلم روح الرجل لمطلبه الأخير فيغوص في بحار الموت لينعم بصحبة “أولئك الذين هناك” في حقول الايارو (الجنة) في العالم الآخر.
مصارين البطن بتتعارك
يلفت حسن في كتابه إلى أن حكاية الشجار بين الجسم والرأس، تعود إلى عصر الأسرة الثانية والعشرين 950 إلى 730 ق.م، وتحتوي على عدد من الأخطاء الإملائية واللغوية، إذ يرجح أن تكون قد كتبت بواسطة تلميذ كان يتدرب على الكتابة، مشيرا إلى أن نظرية “ماسبيرو” – أول من كتب عن القصة – والتي يقول فيها: “إنها شبيهة بخرافة شجار البطن مع الأمعاء”، والتي تطلق كمثل شعبي “مصارين البطن بتتعارك”، يعبر عن اعتيادية فكرة الصراع، ويلمح حسن إلى أنه من الصعب معرفة مدى التشابه بينهما، لأن القصة لم ترد كاملة.
أنا الرأس الذي يريد أخوته أن يتهموه
“تشاجر البطن والرأس لحل متكلمين بصوت مرتفع أمام الثلاثين (القضاة)، وكان لا بد لهؤلاء من أن يكشفوا عن حقيقة الإهانة التي بكت من أجلها عين الرأس وان يُقرر الصدق أمام الإله الذي يمقت الظلم، ولما نطق البطن باتهامه، صاح الرأس قائلا بفمه: أنا، أنا ذلكم الشعاع الذي في كل بيت، وكل عضو يرتكن عليّ سعيد ، فقلبي سعيد ، وأعضائي تنمو ورقبتي مثبتة تحت الرأس، وعيناي تنظران بعيدًا، وأنفي يتنفس وينشق الهواء، وأذناي مفتوحتان وتسمعان وفمي مفتوح ويعرف كيف يجيب”؟
وحسب فهمي حسن يظهر بعد ذلك أن الموضوع يشير إلى سلوك وعجرفة رجل تكبر على إشراف القوم دون تحديد لهوية أي منهم، تعود الرأس للكلام وتقول: “إني سيدك، أنا الرأس الذي يريد أخوته أن يتهموه”.
تعليق
يلمح حسن في تعليقه على القصتين تشابه واضح في مدلولهما وتتباعهما، إذ أن قصة شجار الرأس والجسم تعود إلى عصر الاضمحلال الأول (العصر الإقطاعي) والذي انقسمت فيه مصر إلى إقطاعيات متناحرة، أما قصة شجار الرجل مع روحه فتؤرخ في فترة الأسرة 22 والتي اتسمت بحكم الأقليات الأجنبية ونبذ أبناء الوطن الأصليين، فكأنما دار ذلك الشجار بين الرأس والجسم على صدى أول صرخة لبرئ عانى من الظلم.
2 تعليقات