معضلة المهرجانات الفنية: البيضة الأول ولا الفرخة!
في زيارة إلى المغرب لحضور مهرجان “خريبكة للسينما الإفريقية” الذي يعد واحدا من أقدم مهرجانات القارة. حيث أقيم لأول مرة في 1977، بعد عام واحد من مهرجان “القاهرة”. ومنذ ذلك الحين ظل يقام بمعدل دورة كل عامين، لكنه توقف منذ 2019 بسبب كورونا وأيضا وفاة مؤسسه ومديره نور الدين صايل.
وعند وصولنا إلى المغرب قبل يوم واحد من افتتاح مهرجان “خريبكة” في 28 مايو، دعيت لحضور حفل افتتاح مهرجان آخر في مدينة “مكناس” مخصص للدراما التليفزيونية. وقبل وصولنا بأيام كان هناك مهرجان سينمائي بمدينة “أغادير” مخصص لسينما الهجرة. وبعد نهاية “خريبكة” بأيام سوف تشهد مدينة أغادير مهرجانا آخر مخصص للسينما الوثائقية.
**
هناك ما يقرب من خمسين مهرجانا سينمائيا يقام في المغرب سنويا. في الوقت الذي تعاني فيه المهرجانات السينمائية في مصر من تقشف وهزال خطير على مستوى العدد والكيف. كما تتعرض لنظرة تربص وشك من قبل المسؤولين على مستوى الوزارات المعنية والمحافظات التي تقام بها، وكأن لسان حال المسؤولين يقول “بلا مهرجانات بلا هم..إحنا ناقصينكم!” بالرغم من أنهم على مستوى حفلات الافتتاح يرددون كلاما آخر عن أهمية الفن ودور القوى الناعمة ودعم الدولة للمهرجانات!
في مصر تقام مهرجانات تدعمها وزارة الثقافة وبعض الوزارات الأخرى مثل السياحة والشباب والرياضة والتضامن. ولكن هذا الدعم يتناقص سنويا وغالبا ما يسبقه تسويف ومماطلة وتهرب ونظرة لوم وشك في صناع المهرجانات. ولست أقول أن صناع المهرجانات ملائكة. ولكن من حق الجهات الحكومية. والرعاة أيضا. أن يحاسبوا هذه المهرجانات على الدعم الذي يعطى لهم بعد نهاية كل مهرجان أو أثناء انعقاده. ولكني أرى أن العكس هو الذي يحدث. إذ يتم تعذيب صناع المهرجانات قبل الحصول على الدعم، وليس بعده!
عدد المهرجانات التي تدعمها الدولة محدود. على عكس ما يروج البعض. ومصر تحتاج إلى أضعاف هذا العدد، ولا يصح أن يكون هناك محافظة أو مدينة كبيرة لا يقام بها مهرجان سينمائي واحد على الأقل. بجانب وجود نشاط سينمائي (وفني) على مدار العام. ومن أعجب الأمور أن يشكو البعض من كثرة المهرجانات في مصر. وأن يطالب البعض الآخر بالتنسيق بينها بحيث يفصل بين المهرجان والآخر فترة زمنية حتى لو كان أحدها يقام في الإسكندرية والآخر في أسوان! بل هناك تصور عجيب بأن المهرجانات تقام من أجل الصحفيين والمسؤولين الذين يحضرونها وليس من أجل جمهور المدينة.
**
لا يتجاوز عدد المهرجانات السينمائية المدعومة من الدولة أصابع اليد الواحدة. وعدد آخر مثلها من مهرجانات لا تدعمها الدولة. ولكن هذه المهرجانات أيضا، وعلى رأسها “الجونة”. تتعرض أيضا لحملات تشويه ونظرة ريبة ورثناها من زمن التكفيريين الذين يؤمنون داخلهم أن الفنون حرام. حتى لو كانوا مسؤولين كبار أو إعلاميين أو عاملين بمجال الفن ذاته. وكم أتمنى أن يقام استطلاع دقيق بين المحافظين وموظفي الدولة الكبار والإعلاميين والفنانين عن نظرتهم للفنون والثقافة. وأكاد أعتقد جازما أن النتائج ستكون صادمة وكارثية.
هناك أيضا تصورات جاهلة عن أن هذه المهرجانات تستنزف أموال الدولة أو أن الأحق بها إنشاء مدارس أو أفران خبز. وبغض النظر عن رأينا بأن الفن والثقافة لا يقلان أهمية عن الخبز والتعليم. فإن أي اقتصادي مبتدئ يمكن أن يشرح لهؤلاء أن صناعات الترفيه والرياضة والمهرجانات تساهم في إنعاش وحيوية أي اقتصاد ولا تتسبب إطلاقا في الضرر به. وأتمنى أن تقوم جهة علمية اقتصادية بعمل دراسة عن هذا الأمر وتوزيعها على المسؤولين والإعلاميين وبقية خلق الله الذين يشتكون من استنزاف الدراما والسينما وكرة القدم للاقتصاد!
**
فارق آخر مهم بين المهرجانات التي تقام في مصر والمهرجانات، التي يحضرها المرء في معظم بلاد الله أن المسؤولين وأهل المدينة التي يقام فيها أي مهرجان يكونون في غاية الفخر والفرح بانعقاد المهرجان في مدينتهم. وللأسف من خلال خبرة سنوات يمكنني التأكيد على أن المحافظين والجهات الحكومية في محافظات مصر يعانون من هلع وقلق من إقامة النشاطات الفنية في محافظاتهم. ويتمنون ألا تقام هذه النشاطات حتى لو كانوا يعلنون عكس ذلك.
ويساهم في تفاقم هذه المشكلة أن كل الجمعيات والجهات التي تقيم المهرجانات مقرها في القاهرة. باستثناء واحد أو اثنين، وأن كلها تعتمد على الدعم المركزي من القاهرة وليس من داخل المحافظة. كما أن المهرجانات المدعومة من الدولة تعمل بشروط “مركزية القاهرة” ولا يعنيها سوى رضاء المسؤولين في القاهرة. مما يزيد من صعوبة تأسيس قاعدة وجمهورا في المحافظات.. وهو ما يعني ضياع الهدف الأساسي من إقامة أي مهرجان!
ربما يحتاج الأمر إلى وضع سياسة وتوجيهات للمحافظين بإقامة المهرجانات والنشاطات الفنية والثقافية. ولكن ذلك يحتاج إلى توفير ميزانيات أو وسائل لتوفير ميزانيات، ولكن هذا يحتاج بدوره إلى عقليات تؤمن بأهمية الفنون والثقافة. ولكن توفر هذه العقليات يحتاج إلى تربية وتثقيف ومهرجانات… والبيضة الأول ولا الفرخة!
اقرأ أيضا
عود على بدء: الولع بمصر مستمر.. والإساءة أيضا!