مافيا التراث المصري: بيع أخشاب «بيت مدكور» التاريخي بعد أيام من تخريبه
كشفت عملية هدم وتخريب «بيت مدكور» المتعمدة، عن أطراف عصابة بيع أخشاب ومقتنيات البيوت التاريخية في مصر. إذ عُرضت أخشاب البيت المقدر عمره بـ600 عاما بعد 20 يوما فقط من بدء محاولات هدمه وتخريبه دون قرار رسمي حديث بالهدم من حي وسط القاهرة.
سقف بيت مدكور والمشربيات للبيع
عادت أجزاء خشبية من “بيت مدكور” في الظهور من جديد، بعد مرور أيام قليلة من بدء عملية الهدم. كأنها تصارع من أجل البقاء والعودة إلى مكانها من جديد.
شكل الواجهات الخشبية وقطع الحلي المعدنية ذا الطراز العثماني المميز، جعل القطع الخشبية التي استخرجها العمال من البيت بمثابة ثروة، وصلت إلى محطتها الأولى إلى يد تاجر أنتيكات (نحتفظ باسمه).
لم ينتظر بائع الأنتيكات حتى تمر قضية هدم البيت التاريخي، الذي أثار الجدل على مدار الأيام الماضية. وسرعان ما عرض سقف خشبي ومشربيات خشبية قديمة تمت سرقتها من بيت مدكور. ويصف السقف: “سقف عربي تحفة معمارية صعب أن تتكرر، الطول 4.60× 4.60 متر، والعرض 3.5×3.5 متر”.
تراث لمن يشتري!
تواصل “باب مصر” مع تاجر الأنتيكات لمعرفة سعر السقف وكيف حصل عليه ليبيعه. وقال إن سعره 20 ألف جنيه، ووصف السقف بأنه تحفة معمارية عربية لن تتكرر. موضحا: “ده شغل عربي قديم مش هتلاقي زيه دلوقتي”. وبسؤاله عن وجود قطع أخرى تتناسب معه، كشف عن امتلاكه لخمس حشويات مشربية قديمة.
وتابع عن تاريخ القطع أنها ترجع إلى بيت مدكور التاريخي. قائلا: “شوفي تاريخي وهتعرفي قيمة الشغل”، ذكر اسم مقاول الهدم كان مربكًا بالنسبة له. إذ رفض الإفصاح عن كيفية حصوله على هذه القطع قائلا: “مش عارف حاجة والبيت ده عليه مشاكل”.
كانت هذه محاولة للتهرب من تتبع خيط عصابة بيع الأخشاب القديمة المسروقة، التي يحرص عمال الهدم على انتزاعها بدقة من مكانها لبيعها لاحقا بمبالغ طائلة. وكان ذلك واضحا خلال زيارة “باب مصر” لـ”بيت مدكور” الأسبوع الماضي. بدأ عمال الهدم الخمسة يجمعون الأخشاب القديمة في نظام على يسار مدخل البيت. بينما حاول أحدهم تخريب المكان الذي انتزع منه الخشب الأثري.
نهب التاريخ العثماني
لا تقتصر هذه التجارة على الأخشاب القديمة فقط، كل قطعة حجارة من بيت قديم هي ثروة. ومن بينها الشبابيك، المشربيات، الحُلي المعدنية، والبلاط القديم، والتي يبيعها مقاول الهدم لتجار الأنتيكات لبيعها بالقطعة.
عند سؤال عمال هدم “بيت مدكور” عن سبب جمع الأخشاب القديمة، تهرب أحدهم قائلا: “ده خشب قديم سعره ميعديش 300 جنيه”. وتابع أحدهم: “الشغل ده تبع المقاول صوفي”، لتظهر بعد أيام القطعة الواحدة بمبلغ 20 ألف جنيه.
يظل السؤال، من سمح لمقاول الهدم والعمال باقتحام “بيت مدكور” التاريخي، وطرد السكان وسرقة الأخشاب التراثية الموجودة به. في ظل عدم وجود قرار حديث بالهدم عدا القرار المعدل يدويا بتاريخ 2014، وآخر بتاريخ 2014 لمعاينة بتاريخ 2011. حتى أصبح السؤال عن “بيت مدكور” متفرقا بين وزارة الأوقاف ووزارة السياحة ووزارة الثقافة ومحافظة القاهرة التي أدرجت “بيت مدكور” مبنى ذو طراز معماري مميز. ثم حذفته لاحقا من قائمتها في عام 2021.
تجارة الأبواب القديمة
بيع الأخشاب والأبواب القديمة تجارة أثارت الجدل كثيرا في مصر، خاصة مع تصدير كميات كبيرة منها لخارج مصر. وكان لهولندا والولايات المتحدة وبلجيكا نصيبا منها. ويتم بيعها عبر مواقع متخصصة من بينها “إيكو ريلكس” الذي يخصص قسما للأبواب المصرية القديمة.
تأثرت كمية الأخشاب والأبواب العتيقة في سوق الأنتيكات، بسبب القرار الصادر في عام 2010 بمنع هدم البيوت القديمة المدرجة بأنها ذات طراز معماري مميز. ويقول بائع أبواب عتيقة – رفض ذكر اسمه: “من الممكن نتوقف عن العمل عدة أشهر ثم نبدأ بيع كميات كبيرة في وقت واحد”.
وكشف لـ”باب مصر” أن عملية الحصول على هذه القطع القديمة تتم من خلال الاتفاق مع صاحب البيت قبل هدمه وتقدير ثمنها وخصمها من ثمن عملية الهدم. أو يجهل البعض قيمتها فيحصل عليها العمال دون إذن. بالإضافة إلى أن أصحاب البيوت القديمة أحيانا ما يضطرون لبيعها بإرادتهم دون هدم البيت بهدف التجديد.
“هل كل البيوت القديمة يتم بيع أخشابها بمبالغ كبيرة؟”. كان رده أن قيمة هذه القطع تكون مرتبطة بعدد من العوامل من بينها عمر البيت، وتاريخ الأخشاب والمعادن لأن بعضها يكون إنتاج حديث، ونوع الخشب المستخدم. بالإضافة إلى طراز البيت والديكور العام.
وهذه السمات حال توافرها في بيت ما، فإن القطع الموجودة به تُباع بمبالغ كبيرة وعند بيعها لمشترى أجنبي يكون المبلغ أكبر. وعلى حد وصفه أن هذه البيوت غالبا ما تكون مُدرجة في قائمة المباني ذات الطراز المعماري المُميز.
وأشار إلى حيلة يتبعها بعض مقاولين الهدم أو أصحاب البيوت لاستخلاص هذا الكنز. ويقول: “يلجأ بعض المقاولين إلى طرق يستطيعون من خلالها تخريب البيوت القديمة والحصول على هذه القطع منها، وأحيانا ما يتم دون معرفة صاحب البيت نفسه أو بالاتفاق معه”.
أهمية البيوت التاريخية
أهمية «بيت مدكور» وقيمته لا تقتصر على المشغولات اليدوية، الأخشاب أو الأبواب وغيرها فقط. “البيوت التاريخية تشكل ذاكرة مدينة تغيرت” كان هذا رأي المؤرخ المعماري المصري سيف الرشيدي، مدير مؤسسة بركات لدعم الدارسين والمحافظين على التراث في العالم الإسلامي.
ويتابع لـ”باب مصر”: “قيمة البيوت التاريخية لن تتكرر، إذا اختفي بيت مدكور، مثل بيت المهندس الذي هُدم وتم استبداله بعمارة حديثة بدون أي قيمة أو روح تاريخية بل مبنى يشوه القاهرة التاريخية. فالمدن تُسمى مدن تاريخية بسبب المباني القديمة ذات القيمة والتاريخ الموجودة بها”.
للبيوت التاريخية فائدة اقتصادية أيضا، وكما يصف فالبلاد التي تتسم بالسياحة الرائجة تكون بلاد مُحافظة على مدنها ومبانيها التاريخية. وهي المدن المُحافظة على النسيج العمراني التاريخي. ويقول: “للأسف نحن في مصر لسنا مُدركين لأهمية البيوت التاريخية. وإذ تم هدم بيت مدكور بالتالي نحن نفقد الكثير من هوية القاهرة التي تعبر عن تاريخنا وتراثنا المصري”.
عن البيوت التاريخية التي يخربها الورثة بهدف إزالتها. يقترح الرشيدي تنفيذ القانون لطريقة متبعة في عدد من الدول ومن بينها سوريا، وهي أن مخرب البيت يكون المُلزم بترميمه وعودته إلى حالته الأصلية. مضيفا: “إذ قام أحدهم بطلاء سقف مزخرف بنقوش قديمة لن يعاقبه القانون ولكن الخطورة هنا واضحة وهي محو التاريخ”.
وضرب مثالا مشابها، عن “بيت القربية” الذي يقع بجانب باب زويلة وكان في حالة ممتازة عند شراءه، وتم هدم جدرانه وتخريبه والآن معروض للبيع.
ويستكمل: “ما يحدث نتيجة جهل وطمع والقوانين واضحة لكنها ليست كافية لحماية البيوت التاريخية. بالإضافة إلى أنها مشكلة متكررة وإذ استمر تخريب البيوت التاريخية، بعد 50 عاما من الآن سنصبح بلا تراث، واختزال القاهرة التاريخية في أماكن شهيرة مثل شارع المعز أمر يرجع إلى فساد المحليات، وغياب الوعي”.
اقرأ أيضا
بعد حملة «باب مصر».. وقف هدم «بيت مدكور».. وحراسة دائمة لحمايته