كشف الإسماعيلية الأثري: هل تعيد كتابة تاريخ العصر الصاوي؟
مثلما قادت الصدفة إلى اكتشاف حجر رشيد، صدفة أخرى ربما تقود للكشف عن أسرار العصر الصاوي. الأسبوع الماضي، بينما كان أحد المزارعين في الإسماعيلية يجهز أرضه استعدادا لموسم زراعي جديد، توقف الفأس أمام جسم صلب، وأخذ يكرر الأمر بحرص شديد في هذه المرة، إلى أن تكشفت له قطعة حجرية مستطيلة الشكل، فأخذ ينظفها، حتى ظهرت نقوش قديمة كتبت بالهيروغليفية، وحينها أبلغ زملاءه؛ ومن ثم أبلغوا صاحب الأرض الذي توجه فورًا لإبلاغ شرطة السياحة والآثار بمديرية الإسماعيلية، وبعد أن حضرت لجنة فنية لمعاينة القطعة المكتشفة، تبين أن الحجر المكتشف قد يكون بداية لإعادة تأريخ فترة هامة من العصر الصاوي، إذ أوضحت اللجنة المشكلة أثرية اللوحة، وحفر عليها اسم الملك (واح- إيب- رع- أبريس) خامس ملوك الأسرة الـ26، وتم توصيف اللوحة بأنها لوحة عسكرية صممت لغرض عسكري، يخص الحملات العسكرية التي كانت تتم ناحية الشرق، لذلك فالكشف قد يضيف للتاريخ عدة نقاط، خاصةً وأن هذه الفترة تحديدًا لعبت مصر فيها دورًا محوريًا بين القوى العظمى في الشرق القديم.
كشف الإسماعيلية
الدكتور محمد عبدالمقصود، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، والذي عمل أغلب فترات حياته في حفائر وبعثات الآثار بسيناء، يحدثنا عن أهمية هذا الكشف، ويقول: “لهذه اللوحة أهمية كبيرة إذ إنها للملك واح إيب رع إبريس، وهو أحد ملوك الأسرة الـ26، فالآثار التي تخص هذا الملك قليلة للغاية، لكن ما يهمنا هنا أن هذه اللوحة تؤكد على أن هذا العصر كان عصرًا للازدهار العسكري، وكان هناك حراك عسكري كبير بالمنطقة، واللوحة المكتشفة هي من اللوحات الحدودية، التي كانت تستخدم لتحديد الحدود المصرية، فمثلًا كانت توضح بداية ونهاية الحدود الشرقية التي تبدأ من القنطرة شرق، وحتى رفح المصرية، وهذه المنطقة مرتبطة بشمال سيناء، وتحديدًا طريق حورس، لأنها نقطة البداية والانطلاق للدفاع عن حدود مصر، وكانت هناك مجموعة قلاع لحماية هذا المدخل”.
وتابع: أتوقع أن يعثر على لوحات أخرى بالمنطقة -على بعد كيلو أو اثنين من الموقع- أي في المسافة التي تقع بين القنطرة شرق وبين المكان الذي عثرت عليه هذه اللوحة، لأن تلك النقطة كما أشرت كانت نقطة للانطلاق نحو الشرق القديم، والدليل على ذلك أن اللوحة مكتوب عليها اسم «سارو»، التي كانت منطقة تحصينات دفاعية في عصر الأسرة 26 وعصر الدولة الحديثة، وعصر الهكسوس، وعصر الدولة الوسطى، وهي نقطة الانطلاق للجيش، ويعني ذلك أن الحملة العسكرية التي قام بها الملك أبريس قد مرت بالموقع العسكري «سارو»، لذلك فهي لوحة تخص التاريخ العسكري.
ويوضح عبدالمقصود، أن العثور على تلك اللوحة هو بمثابة مقدمة للعثور على لوحات أخرى في المستقبل، لأن هذه هي اللوحة الثانية التي يتم العثور عليها مدون عليها اسم الملك أبريس، والذي يعد من الملوك المحاربين، والذين حاولوا تأمين مدخل مصر الشرقي، في عهد الأسرة الـ25، لكن يجب أن نلاحظ أن هذه اللوحات كانت توضع في مناطق نائية وغير مستخدمة، وبالتالي فهي تقع في مواقع غير أثرية، وكان يتم وضعها كلوحة إرشادية قبل تلك المعارك؛ أي أن وضعها كان يتم في أرض فراغ، لذلك فهي مجرد بداية فقط لاكتشاف المزيد من تلك اللوحات الهامة.
عواقب وخيمة
ويقول الدكتور حسين عبدالبصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: “إن الملوك القدامى كانوا عادة ما يقوموا بعمل لوحات تذكارية لحدث ما قاموا به، والذي عادة ما يكون حدث عسكري أو لوحة على الحدود أو تحقيق انتصار ما، لكن في عهد الملك واح- ايب- رع- أبريس، وتحديدًا عصر الأسرة 26 والعصر الصاوي، بدأنا باستعادة أمجادنا، وبدأنا نتوسع في الشرق الأدنى القديم، والتحمنا مع القوى الكبرى، وحدثت صدامات كبرى بين مصر والبابليين، والآشوريين والفرس؛ وانتهت هذه الأسرة بانتصار الفرس (526) ق.م وهزيمة الملك بسماتيك الثالث آخر ملوك الأسرة، أما الملك أبريس فقد ذكر في التوراة، وعرف عنه بدخول حروب الشرق الأدنى القديم، وأهمية هذه اللوحة تحديدًا هي أنها تؤكد على أننا كنا جزء من تلك الصراعات، فقد عثر عليها عند طريق حورس الحربي، والذي سلكته جميع الحملات العسكرية في كافة الحروب.
يضيف عبدالبصير أن الكشف الأثري الهام سيضيف للتاريخ العسكري، وكذلك سيمكن من الاقتراب أكثر من تلك الحقبة التي تخص الملك أبريس، الذي تولى الحكم بعد والده الملك بسماتيك الثاني، وكانت هذه فترة حرجة في التاريخ المصري القديم، والذي بدوره تدخل بشدة في الشؤون الفلسطينية، وتحديدًا جنوب فلسطين دعمًا ومناصرة للحاكم الماريونت البابلي المدعو “زاداكيه” حاكم مدينة القدس، وذلك تشجيعًا له على الثورة على الحكم البابلي، غير أن الأمر جاء بعواقب وخيمة، وكان من سببها أن دفعت القدس الثمن غاليًا بعد أن قام الملك البابلي المشهور نبوخذ نصر الثاني بحصارها لمدة عامين كاملين، مما أدى إلى سقوط مدينة القدس في عام (587) ق.م، وعندما جاء أبريس واح إيب رع خلفًا أخذ نفس نهجه في سياسته تجاه فلسطين، إذ شهدت فترة حكمه مشكلات عسكرية داخل البلاد وكذلك خارج البلاد، لكن حدث تمرد على حدود مصر الجنوبية وتحديدًا على حامية أسوان، فتم قمع هذا التمرد، وإقناع الجنود المتمردين بالعودة إلى أرض مصر، بعد أن كانوا قد تركوا مكان الحامية في أسوان واتجهوا جنوبًا إلى النوبة، وبعد ذلك أرسل الملك أبريس جيشه إلى ليبيا بقيادة القائد المصري أحمس أو أمازيس، نتيجة قيام هجمات من جانب الإغريق والذين هاجموا ليبيا، فقام الملك المصري الملك إبريس واح إيب رع بإرسال ذلك الجيش دعمًا لليبيا ومساندة لها ضد تلك الهجمات الغازية. غير أن الجيش المصري عانى من ذلك التدخل، ونشبت به حركة تمرد ضد الملك إبريس واح إيب رع.
وتابع: انتشرت الحرب الأهلية في أرض مصر بعد عودة الناجين من تلك المعركة، فدبت الحرب الأهلية بين الجنود المصريين الوطنيين والجنود المرتزقة من الأجانب الذين كان يعتمد عليهم ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية في تكوين الجيش ابتداءً من الملك المؤسس بسماتيك الأول، وبعد ذلك تم اختيار قائد عسكري من الجيش المصري كي يقود التمرد ضد الملك إبريس واح إيب رع، ووقع الاختيار على القائد أحمس أو أمازيس، وتم قتل الملك إبريس واح إيب رع، وانتقل الحكم إلى ذلك القائد العسكري الذي يعد من خارج سلالة الأسرة الحاكمة ولا يحمل الدم الملكي، غير أنه قام بتأدية الطقوس الواجب إتباعها على جثمان الملك القتيل الملك إبريس، وتم دفنه في المقابر الملكية في عاصمة الأسرة الصاوية بمدينة سايس في وسط الدلتا المصرية، لذلك فالكشف الأخير سيساعدنا في الاقتراب أكثر من حياة الملك أبريس، خاصةً معاركه التي خاضها.
ولهذا تقدمت بطلب رسمي للأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بطلب رسمي، لنشر هذه اللوحة، بصفتي متخصص في العصر الصاوي.
اقرأ أيضا
كشف الأسرار مستمر في «تونة الجبل».. هكذا كانت اكتشافات بعثة «فؤاد الأول»
تعليق واحد