قراصنة وأدعياء فضيلة: فن يكبله الحياء في مجتمع بلا حياء؟!
من طرائف حياة النفاق التي نحيا فيها أن موقعا شهيرا للقرصنة على الأفلام الأجنبية والعربية أعلن أصحابه أنهم لن يقوموا برفع فيلم “أصحاب ولا أعز” رفضا منهم للعمل وما يحتويه من “قلة أخلاق”. علما بأن الموقع يحتوي على عدد من النسخ الأجنبية للفيلم (الذي صنعت منه 22 نسخة في بلاد وثقافات مختلفة) وآخر نسخة قام القراصنة بعرضها للتحميل والمشاهدة منذ أيام هي النسخة الكورية التي تحمل اسم Intimate Strangers. نفس عنوان النسخة الفرنسية المتوفرة على الموقع أيضا.
ما فعله الموقع الذي يستبيح سرقة الأفلام والتسبب في خسائر فادحة للصناعة، يعكس نوعا عاما شائعا من الازدواجية الأخلاقية: ممارسة كبائر مثل الرشوة والنصب والسرقة وممارسة الرذيلة سرا، مع سب المثليين وشرب الخمر والحرية الجنسية علنا.
قراصنة وأدعياء فضيلة
ما فعله الموقع (وكثيرون آخرون من مدعي الفضيلة) يعكس أيضا نوعا أكثر تعقيدا من هذه الازدواجية: الاستمتاع بمشاهدة الأفلام التي تحتوي على عري وجنس وبذاءة من كل البلاد والجنسيات. ولكن الرعب والانزعاج الشديد من عرض هذه الأفلام في دور العرض السينمائي في مصر أو على محطات التليفزيون المصرية والعربية، والرعب والانزعاج بدرجة أكبر من احتواء أي فيلم أو مسلسل عربي على شيء مما تحتويه السينما والدراما العربية من “تحرر”.
هذه الازدواجيات المركبة تبين أن شخصية السيد أحمد عبدالجواد التي أبدعها نجيب محفوظ في ثلاثيته، التي تدور أحداثها قبل قرن مضى، لم تزل تعيس بقوة بيننا، بل بشكل أكثر تعقيدا ومرضا.
كان السيد أحمد عبدالجواد مثالا للأب الصالح الصارم المتدين نهارا في بيته. ولكنه يمارس كل أنواع “الموبقات” ليلا خارج بيته، عائشا بشخصيتين منفصلتين تماما مثل “دكتور جيكل ومستر هايد” في رواية روبرت لويس ستيفنسون الشهيرة.
حياة عبد الجواد هي أشبه بالغرف المنفصلة التي يحظر أن تفتح أي منهم على الغرف الأخرى. لا يحق لزوجته وبناته أن يروا الشارع. ولا لأولاده أن يعلنوا عن رأيهم أو يضحكوا بصوت مرتفع في البيت. وهو نفسه متجهم وجاد وقاس داخل البيت، ولكن في الليل، مع الأصدقاء والعاهرات وتحت تأثير الحشيش، لا يتحول فحسب إلى شخص آخر، ولكن مزاجه وأفكاره وقناعاته أيضا تتغير. فهو يصبح أكثر تسامحا وتساهلا وتحررا، طالما أن حدود البيت تظل آمنة وبعيدة عن هذا العالم الخارجي. ولكن في يوم ما، ودائما ما يأتي هذا اليوم ما. اكتشف ابنه الأكبر حقيقته وكانت صدمة شوهت مفاهيمه عن الأب والأسرة والأخلاق وكل شئ.
الغرف المغلقة
يتخيل السيد أحمد عبدالجواد الذي يعشش في عقول الملايين من رجال (ونساء) اليوم أن هناك بعد غرفا مغلقة. وأنه يجب الحفاظ عليها مغلقة. ولا يخطر بباله أن الغرف المغلقة كانت دوما بؤر لانحرافات ورذائل أسوأ. وأن الغرف المغلقة اليوم تحتوي على هواتف محمولة و”لابتوب” واختراعات أخرى!
عندما نتناقش حول حدود “حرية التعبير” في الفن والصحافة والفضاء العام يستحسن أن نضع هذه الحقائق في اعتبارنا: عمليا لم يعد من الممكن منع أي شيء. لم يعد هناك حدود داخل البيت أو المدينة أو البلد يمكنها أن تمنع مواطن ما من قراءة أو سماع أو مشاهدة شيء ما. كل ما يمكنك أن تفعله هو أن تبث حالة من الخوف. ربما تساهم في تردد وحذر البعض. ولكنها لن تمنعهم من دخول غرفتهم السرية وأغلاقها وقول وممارسة ما تنهاهم عنه.. وهكذا تتواصل الازدواجيات وتتراكب جيلا بعد جيل.
.. ولكن السؤال يعاود البروز دوما: ما هي، طيب، حدود حرية التعبير، وهل يعني ذلك أن نفتح كل الأبواب ونغلق كل الحدود؟
والإجابة على السؤال ليست سهلة، ولا توجد بالفعل إجابة واحدة عليه. فكل مجتمع يحاول أن يجيب عليه بطريقته، وداخل كل مجتمع اختلافات وخلافات حول هذا الموضوع. وربما الأكثر منطقية أن نسأل: ما هي الغرف المغلقة التي ينبغي على المجتمع أن يفتحها، حتى لا تخنقه ازدواجيتها وهواءها الفاسد؟
ولنحاول أن نجيب على هذا السؤال فيما يتعلق بالفنون.
الفن الحقيقي
لاشك أن موضوع الفن الحقيقي، مثل الفلسفة، هو الحق والخير والجمال، ولكن هذه المفاهيم غامضة ومختلف عليها، والأهم أنها في مجال الفن تتحدد وفقا لعلاقتها ببعضها. أحيانا يستدعي الحديث عن الحق أن نناقش موضوعات “قبيحة” أو أن ننقد الأخلاق السائدة الزائفة، أو نضع تعريفا للأخلاق مختلف عن المفهوم الظاهري لها.
لا حياء في العلم ولا في الدين. والمقولة تنطبق على الفن أيضا، خاصة عندما يكون الحياء ستارا لإخفاء الحق، أو التستر على منظومة غير أخلاقية. والجمال قد يكون أحيانا ستارا لإخفاء قبح الواقع. ولذلك لابد من أن يدرك الناقد والمتلقي الواعي الفارق بين التلاعب بكلمات الحق والخير والجمال من أجل مظاهر أو أهداف فاسدة وبين البحث الجاد والشخصي عن جوهر هذه الكلمات. وهو العمل الشاق والدؤوب والدائم لأي فنان متفرد وأصيل.
الجمال هو رونق الحق. كما يقول أفلاطون. فلا جمال دون صدق أو خير. ولا خير دون حق وعدل. ولذلك فإن معيار الحكم على العمل الفني ونقده هو بشكل ما نوع من قياس المفاهيم الثلاثة ودرجة تضافرها معا داخل العمل. أما أن تنظر إلى صفة واحدة لعمل فني ما وتقول أنه جميل وتغفل أنه كاذب. أو تقول أنه حقيقي ولكن يخلو من التأثير الجمالي. أو تقول أنه أخلاقي ولكن مفتعل ومباشر. فهذه الأحكام هي أكبر مصيبة حلت بالفنون بتأثير الجهل والسطحية والحكم بمعيار واحد من المعايير الثلاثة.
الفن والقراصنة
هذه الشروط الثلاثة يقابلها شروط أربعة أخرى: يخاطب الفن العظيم عادة أربعة مستويات من الوعي: الفردي، الاجتماعي، الإنساني والكوني. كل شخص هو كائن منفرد ينتمي لجماعة تنتمي للجنس البشري تنتمي للكائنات الحية في الكون بأسره. العمل الفني العظيم يخاطب المتلقي على هذه المستويات معا، وهذا، باختصار، ما يجعل الفن وسيلة أعمق وأكثر تأثيرا من مواعظ رجال الدين أو خطب السياسيين أو كتب العلماء أو جلسات العلاج النفسي!
.. وللحديث بقية.
اقرأ أيضا
من محمد صبحي وتركي إلى سقراط: الترفيه vs الملاهي.. والواقع vs الأخلاق