عز بن عبدالسلام.. سلطان العلماء يشكو الإهمال في مقابر البساتين
“لا يخشى في الله لومة لائم.. فهو شيخ الإسلام قاضي القضاة، وسلطان العلماء، ولد عام ثمان وسبعين وخمسمائة، تفقه على يد الفخر بن عنساكر وأخذ الأصول عن السيف الأبذي، وسمع الحديث عن عمر بن طبرزد، وبرع في الفقه والأصول العربية”.. هكذا وصفت الدكتورة سعاد ماهر محمد، الشيخ عز بن عبدالسلام بن أبي القاسم، المعروف بـ”عز الدين عبدالسلام”، في كتابها “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون”.
هناك في مقابر التونسي بالبساتين، وسط مدافن عدد من الشخصيات الهامة بين ممثلين من الزمن الجميل وعلماء بمختلف العصور، وكبار السياسيين بمراحل متنوعة مرت بها البلاد، والتي تستدل عليها بسهولة من اللافتات أو عظمة المدفن أو سكان المقابر، الذين يعرفون الموتى أكثر من ذويهم، يوجد مقام الشيخ عزالدين عبدالسلام، في حالة مزرية، فبعد مرور أكثر من ساعة، وجدنا أنفسنا أمام مدفن لا يتبقى منه سوى لافتة مكتوب عليها “عز الدين عبدالسلام”.
ذكر الدكتور أنوار الجرف، في رسالة ماجستير بعنوان “العز بن عبدالسلام، سلطان العلماء، وبائع الملوك”، أنه درس العلوم العربية والدينية بمختلف فنونها وأنواعها من نحو وبلاغة وحديث، وهذه العلوم أخذها عن كبار الأساتذة في ذلك العصر، ومن أشهر العلوم التي ألف فيها:
١- التفسير: وألف كتابا كان عبارة عن مجموع ما يلقي من الدروس في التفسير.
٢- الحديث: وسمعه من أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير علي بن عساكر محدث دمشق ومؤرخها. وله مؤلفات عديدة.
٣- الفقه: ودرسه على الإمام فخر الدين بن عساكر.
٤- علم الأصول: وأخذه عن العالم الثقة سيف الدين الآمدي وعبداللطيف البغدادي، والقاضي عبدالصمد الحرستاني.
٥- النحو والبلاغة وعلوم اللغة.
٦- علم الكلام: واستوعب العز كل ما تركه السلف في علم الكلام “العلم الذي يتكلم عن الله وصفاته وأسمائه”، وذلك من خلال تردده على مكتبة الجامع الأموي.
٧- السيرة والتصوف وفضائل الأعمال: وألف فيها كتبا عديدة.
هذه هي أهم العلوم التي برع فيها العز بن عبدالسلام، وفي المبحث التالي سوف نفرد عقيدته ومذهبه الفقهي بالحديث لكثرة ما ورد.
كان العز بن عبدالسلام شافعي المذهب، لأن هذا المذهب كان مشتهرا في ذلك الزمان في بلاد الشام، كما أن السلطان صلاح الدين الأيوبي اعتنق المذهب الشافعي فألزم به الناس.
عندما كان العز بن عبدالسلام في دمشق، وكان الحاكم رجلا يقال له الملك الصالح إسماعيل، من بني أيوب، فولى العز بن عبدالسلام خَطابة الجامع الأموي، وبعد هذه الفترة قام هذا الملك بالتحالف مع أعداء المسلمين، فحالفهم، وسلم لهم بعض الحصون، كقلعة الشقيف وصفد، وبعض المدن، من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر، تعاون مع أعداء المسلمين ليقوى بهم فينتصر على المسلمين، إنه مسلم يستعين بغير مسلم على قتال مسلم! أرأيت إلى التاريخ كيف يعيد نفسه، والحديث عن الجدار الفولاذي، فلما رأى العز بن عبدالسلام هذا الموقف الموالي لأعداء المسلمين لم يصبر، فصعد المنبر، وتكلم، وأنكر، وقالها صريحةً، وقطع الدعاء، وختم الخطبة بقوله: “اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، تعز به وليك، وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر”، ثم نزل، وعرف الأمير الملك الصالح أنه يريده، فغضب عليه غضبا شديدا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن، ومنعه من الخطبة.
رحلة الخروج
خرج العز بن عبدالسلام من دمشق مغضبا إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضا، والتقى بأمراء الأعداء من بيت المقدس، فأرسل رجلا من بطانته، وقال له: “اذهب إلى العز بن عبدالسلام ، ولاطفه، ولاينه بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي إلي، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز بن عبدالسلام وقال له: “ليس بينك وبين أن تعود إلى الخطابة وأعمالك وزيادة على ذلك، إلا أن تأتـي وتُقبّل يد السلطان لا غير، فضحك العز بن عبدالسلام، وقال: “يا مسكين، والله ما أرضى أن يقبل الملك يدي فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به”.
قدم العز بن عبدالسلام مصر فأقام بها أكثر من عشرين سنة، ناشرًا العلم، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، يغلظ على الملوك فمن دونهم، ويضيف المذهبي: أنه لما دخل مصر استقبله الشيخ زكي الدين المنذري وبالغ في الأدب معه وامتنع من الإفتاء لأجله قائلًا: “كنا نفتي قبل حضوره وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين في”.
كرامات الشيخ عز بن عبدالسلام
أما ابن كثير يقول كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب، بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه اجتهاده، ولما عزل الشيخ نفسه عن القضاء تلطف السلطان في رده إليه فباشره مرة ثم ثانية، وتلطف مع السلطان فأمضى عزله فأمضاه وأبقى جميع نوابه من الحكام، وكتب لكل حاكم تقليدًا ثم ولاه التدريس بمدرسته التي أنشأها في العصر الفاطمي الشرقي، والتي تعرف باسم المدرسة الصالحية ولا تزال المدرسة باقية حتى الآن بحي الصاغة بشارع المعز.
يقول السيوطي إن كرامات ابن عبدالسلام كثيرة، فقد لبس خرقة التصوف من الشهاب السهروردي، كما كان يحضر عند الشيخ أبي الحسن الشاذلي الذي يقول عنه: “ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبدالسلام”، ويقول القطب اليونيني عن ابن عبدالسلام: “وكان مع شدته وصلابته حسن المحاضرة بالنوادر والأشعار”، ويختم ترجمته بشهادة تلميذه القاضي ابن دقيق العبد: “كان ابن عبدالسلام أحد سلاطين العلماء، توفي بمصر سنة ستين وستمائة ودفن بمقبرته القرافة الكبرى”.
الضريح
يقع الضريح في منطقة البساتين بالقرب من جبانة التونسي وجبانة الإمام الليث، وهو في حالة مذرية، وإن كان بقائه يدل على أنه يشبه إلى حد كبير من الناحية المعمارية القباب التي أقيمت في أوائل العصر المملوكي مثل قبة شجرة الدر، وقبة الأشرف خليل بن قلاوون، وقبة الخلفاء العباسيين، وكلها ترجع إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري.
يتكون الضريح من مربع كبير يبلغ طول ضلعه 15 مترًh، ومن المرجح أنه مغطى بقبة مرتفعة، يوجد في حائط القبة 5 محاريب أكبرها يتوسط الحائط واثنان على كل جانب وفي وسط الضريح مقبرة عليها بناء مرتفع، لعله كان مغطى بتابوت خشبي كما هي العادة في هذا الوقت.
يشار إلى أن وزارة الآثار تعمل الآن بالاشتراك مع وزارة الأوقاف على إعادة بناء الضريح.