قبة تبر.. أثر إخشيدي منسي خلف الأسوار
مدينة عظيمة وكبيرة مثل القاهرة لا تفنى عجبائها ولا تبوح بأسرارها كلها أبدًا، كل يوم هي في شأن. تلقي عليك بالأسرار والألغاز، تجبرك على البحث عن أشياء وأماكن وأشخاص كاد الزمن أن يطوي ذكراهم ويمحي أثارهم. فالبعض يظل يحمل ذكرى قوية لكن مطمورة، تحتاج فقط من يهيل عنها التراب. هكذا هو حال قبة تبر الإخشيدي، الأثر الشهير من عصر لم يصل لنا منه إلا أثر واحد فقط هو قبة آل طباطا بعين الصيرة. لكن المدهش أن قبة تبر لا تزال بقاياها موجودة لكن خلف الأسوار! فما هي قصة هذا الأثر المنسي؟ وأين يقع؟ ولماذا لم يذكر في سجلات الآثار وخريطة القاهرة الإسلامية الشهيرة؟
**
تبدأ الحكاية قبل أكثر من ألف سنة، تحديدا في عام دخول الفاطميين بقيادة جوهر الصقلبي لمصر سنة 358هـ/ 969م. كانت مصر وقتها تحت حكم الأسرة الإخشيدية (حكموا 323-358هـ/ 934-969م)، والفوضى تضرب مصر وقتذاك. لذا استسلمت معظم القوات الإخشيدية للجيش الفاطمي، إلا أن تبر الإخشيدي، أحد الأمراء في أيام كافور الإخشيدي. تولى قيادة بقية الفرق الإخشيدية ومحاربة الجيش الفاطمي. لكنه هزم ففر إلى بلاد الشام، قبل أن يتم القبض عليه ونكل به، ليموت من أثر التعذيب، ثم صلبت جثته خارج مدينة الفسطاط.
ما يهمنا من سيرة تبر الإخشيدي، أنه بنى قبة شمال موضع مدينة القاهرة الفاطمية بالقرب من صحراء الريدانية. وكان غرضه من بناء القبة هو أن يبنيها على مشهد رأس الشريف إبراهيم بن عبدالله بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي قتله العباسيون وطافوا برأسه في البلاد ثم دفن بمصر سنة 145هـ/ 762م. ربما كان غرض تبر الإخشيدي من بناء القبة أن يدفن بجوار الرأس الشريف ليتبرك به. لكنه لم ينعم بقبر بعدما قتله جوهر الصقلبي شر قتله، لكن على أي حال عرفت هذه القبة باسم قبة تبر وحرفها العامة إلى (قبة تبن).
**
وقد وقعت الكثير من الأخطاء التاريخية في تحديد موقع قبة تبر بسبب عدة ملابسات تاريخية أدت إلى حجب القبة عن الأنظار. على الرغم من أن تحديد موقع القبة الأثرية سهل إذا ما عدنا إلى المصادر التاريخية التي نجد فيها ذكر القبة متواترا حتى العصر الحديث تقريبًا. فقد كانت نزل السلاطين ومتنزههم، فقد استخدمت القبة في العصر المملوكي تحديدا كمنطقة ينزلها السلطان المملوكي انتظارا لتجميع الموكب السلطاني وفرق الجيش قبل التوجه إلى الشام. وهو خبر متواتر ومتكرر عند المقريزي في كتبه التاريخية المختلفة.
فقد جرت العادة على أن يخرج الجيش المملوكي إلى قبة تبر التي كانت تقع على حافة صحراء الريدانية من جهة الشرق. وهي مكان متسع يستوعب الجيش المملوكي الضخم. كما أن محمل الحج كان يخرج من القاهرة صوب قبة تبر ومنها يبدأ رحلته صوب الحجاز. وذكر ابن تغري بردي في كتابه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)، أن قبة تبر ظلت مستخدمة كنقطة تجمع لموكب المحمل حتى العام 861هـ/ 1457م. إذ نقل موكب المحمل إلى بركة الحاج/ جب عميرة.
ويرصد حسن قاسم في كتابه (المزارات الإسلامية والآثار العربية في مصر والقاهرة المعزية)، عمليات الترميم والاعتناء بقبة تبر. إذ يقول: “واعتنى به الخلفاء ومن بعدهم السلاطين والأمراء. فجدده الملك الظاهر بيبرس في سنة 661هـ/1262م، وجدده بعد ذلك الملك الناصر محمد بن قلاوون. واتخذ منه معرسا يعرس فيه وقت السفر، وجدده السلطان قايتباي في سنة 882هـ/ 1477م. ثم الأشرف قانصوه الغوري في سنة 914هـ/ 1508م”. وقد أثرت قبة تبر في محيطها. إذ بنى بالقرب منها الأمير يشبك من مهدي قبته الشهيرة والتي عرفت المنطقة كلها بها فأصبحت تعرف بحي القبة، وجنوبها بنى السلطان العادل طومان باي قبته الشهيرة، التي حصلت على اهتمام العثمانيين فكانت القبة التي ينزلها الوالي العثماني القادم من اسطنبول قبل دخوله القاهرة.
**
تراجع الاهتمام بقبة تبر الإخشيدي في العصر العثماني، حتى وصلنا إلى القرن التاسع عشر الميلادي. إذ يذكر علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية التحولات التي مرت بها قبة تبر قائلا: “والآن هو زاوية لطيفة عامرة، وبها قبة حسنة على ضريح الشيخ التبري، وصهريج فوقه سبيل ويتبعها جنينة يحيط بها سور عليه درابزين من حديد، وخلف جميع ذلك دورة مياه. وكل ذلك من إنشاء ذات العصمة شفق نور والدة حضرة الخديوي المفخم محمد باشا توفيق. وذلك في سنة أربع وتسعين ومائتين وألف (1877م)، كما هو منقوش في لوح رخام على واجهة بابها حفرًا مذهبًا في ضمن أبيات هي:
زها طالع الأنوار في مسجد البر به البطل التبري في قبة السر
لقد أنشأته شفق نور وحبَذا بها حرم المولى الخديوي ذي القدر
بوالدة التوفيق أنعم مؤرخًا أمد أساس النور في مسجد عثمان”.
ويعطينا علي باشا مبارك صورة لما قامت به ذات العصمة شفق نور إذ يكتب في الخطط التوفيقية: “وقد أزالت ما كان هناك من الآثار القديمة. وأنشأت هذه الزاوية إنشاء حسنا، ورتبت لها خدمًا. وجلبت لها ماء النيل من الترعة الإسماعيلية بواسطة المواسير. ولما تم بناؤها عملت بها ليلة حافلة اشتملت على أذكار وتلاوة قرآن ودلائل الخيرات، ومد بها سماط واسع”.
والوحيد من المحققين في العصر الحديث، الذي أثبت مكان قبة تبر الإخشيدي بدقة هو العلامة محمد بك رمزي (1871- 1945)، الذي قال في تعليقه المهم في هوامش تحقيق “النجوم الزاهرة لملوك مصر والقاهرة”. لابن تغري بردي: “أقول: إن هذا المسجد لا يزال قائمًا إلى اليوم باسم زاوية الشيخ محمد التبري. في وسط أرض زراعية تابعة لسراي القبة، وفي الشمال الغربي لمحطة حمامات القبة وبالقرب منها”. ويرجع ذلك لأن محمد بك رمزي قد رأى قبة تبر قبل أن تضم إلى حدائق قصر القبة الذي شهد ثورة إنشائية واهتمام بالغ من الملك فؤاد الذي جعله مقره المفضل.
**
وبالفعل تقع قبة تبر شمال غربي محطة مترو حمامات القبة، كما نراها عبر خرائط “جوجل إيرث”. ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن الشارع الواقع غربي محطة مترو حمامات القبة يطلق عليه اسم شارع التبر. وقد تابع قول محمد بك رمزي، حسن قاسم إذ أثبت في كتابه سابق الذكر أن قبة تبر التي بنيت على رأس الشريف إبراهيم الحسني. تقع “بحديقة سراي القبة، بأول منية مطر (المطرية) خارج القاهرة”. ويضيف أنه “لا يزال هذا المشهد قائما حتى يومنا هذا (1945 تاريخ نشر الكتاب للمرة الأولى) في طريق السالك إلى سراى القبة وسط البساتين وعليه قبة”.
إذا كانت هذه المعلومات متوفرة وتثبت موقع القبة فلماذا ضاع ذكرها عن الناس؟ ما حدث هو أن القبة ضمت إلى حدائق قصر القبة الشاسعة. واحتجبت خلف أسوار القصر، ونسيها الناس لأنه لم يهتم أحد بتسجيل الآثار الواقعة داخل قصر القبة في العصر الملكي. إذ أصبح القصر من المقرات المفضلة للملك فؤاد (حكم 1917-1936م)، والذي اهتم بقصر القبة اهتماما كبيرا وضم له المساحات التي تقع فيها قبة تبر.
وهنا وقع الخلط فمع غياب قبة تبر والحاوية لمشهد الشريف إبراهيم الحسني، صعد إلى السطح مشهد آخر أقل شهرة يقع بالقرب من شارع المطراوي بالمطرية يحمل اسم الشريف إبراهيم أيضا. ووقعت الدكتورة سعاد ماهر -التي لم تعرف أن قبة تبر دخلت في حيز قصر القبة- في الخطأ. فقالت في كتابها (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون)، أن المشهد الذي بناه الأهالي بالجهود الذاتية سنة 1922. وقالوا إنه مشهد إبراهيم الدسوقي وموقعه بالمطرية بشارع البرنس. هو مشهد إبراهيم الحسني وقبة تبر، وذهبت وراء العامة ولم يدر بخلدها أن قبة تبر لا تزال بقاياها قائمة. ولكن خلف الأسوار، فوقعت في خطأ واضح نقله عنها كل من اعتمد عليها دون تمحيص.
**
ولأن هذا الأثر النادر دخل محطة النسيان خلف أسوار قصر القبة منذ عقود، بعدما شاع ما ذكرته الدكتورة سعاد ماهر. فلم يعد أحد يعرف عنه الكثير ولا القليل، حتى سبتمبر 2018. عندما قررت وزارة الآثار تسجيل قصر القبة وملحقاته في عداد الآثار الإسلامية والقبطية. لتظهر قبة تبر إلى الوجود من جديد بعد طول غياب. فقد نشر القرار في عدد جريدة الوقائع المصرية رقم 217 لسنة 2018. وذلك بناء على موافقة اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية على تسجيل قصر القبة وملحقاته في أغسطس 2012. ثم موافقة المجلس الأعلى للآثار في يناير 2013. ويبدو أن الظروف التي مرت بها مصر على الصعيد السياسي قد أجلت إجراءات تسجيل القصر وملحقاته لمدة خمس سنوات.
ولأول مرة نطالع على وصف أثري واضح لقبة تبر التي لم يعلم من قام بتسجيلها اسمها الحقيقي فأورد التسمية الشعبية وهي “مسجد الشيخ التبري”. وأشار إلى النص التأسيسي الخاص بعملية التجديد للسيدة شفق نور أم الخديو توفيق في سنة 1294هـ/ 1877م. فهو لم يعلم أنه أمام أثر إخشيدي الأصل وله أهمية خاصة في تاريخ العاصمة المصرية، فتعامل معه على اعتباره أثر يعود إلى القرن التاسع عشر!
لكن رغم ذلك ترك لنا القرار الحكومي وصفا نادرا لقبة تبر من الداخل. إذ يقول: “وله أربع واجهات، وسقف المسجد مزخرف بزخارف جصية نباتية وهندسية، ويزخرف الجدران زخارف جصية نباتية وهندسية. والمحراب به زخارف لأطباق نجمية، والمنبر بسيط وزخارفه عبارة عن أوراق نباتية، وأشكال مقرنصات. وقبة المدفن ندخل إليها عن طريق باب بالجهة الشمالية الشرقية يتوسط غرفة الضريح وأسفل القبة تركيبة”.
**
من هذا الوصف المتقشف نعرف أن القبة أجريت عليها تعديلات من الداخل بأوامر شفق نور. إذ من المتوقع أن تعود كل هذه الزخارف إلى الفترة التي أمرت فيها بإجراء ترميم لهذه القبة. لكنها حافظت على الشكل العام للقبة التي تشبه في شكلها الخارجي تكوين قبة آل طباطا بعين الصيرة. وهي تعود إلى نفس الفترة تقريبا، لكن اللافت أن هناك تركيبة أسفل القبة الضريحية، وهي القبة التي دفن فيها رأس إبراهيم الحسني على أرجح الأقوال. ولم يذكر نص القرار ما عليها من كتابات، وربما تكشف لنا هذه التركيبة عن الكثير من أسرار هذه القبة الفريدة التي كانت نزل الخلفاء والسلاطين والأمراء. وربما تكون هذه التركيبة بالضريح بالقبة هي أكثر أجزاء المنشأة أصالة واحتفاظا بروحها الإخشيدية. ووقتها سيكون هذا الأثر هو ثاني أثر مثبت يعود للعصر الإخشيدي في مصر كلها.
فهل تسمح لنا السلطات والجهات المسؤولة بفتح أبواب قصر القبة لكي نلقي نحن وغيرنا من محبي القاهرة وآثارها بنظرة على قبة تبر. هذا الأثر الفريد الذي يعود إلى عصر الإخشيديين، والذي يتجاوز عمره عمر القاهرة ذاتها!
اقرأ أيضا
أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي