قاهرة فتحي رضوان (3): مولد السيدة

بعد أن طاف بنا فتحي رضوان في ربوع حي السيدة زينب، نختتم رحلتنا مع سيرته الذاتية وشاهدته على القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، باستعراض ما كتب عن صرة الحي، جامع السيدة زينب وما يمثله من مركزية روحية لا تقتصر على الحي والقاهرة بل تعم مصر كلها. وهو هنا يقدم صورة درامية عن مولد السيدة زينب الحافل بخلاصة الفولكلور المصري بطبقاته المختلفة، وهي صورة تثير الخيال وتجبر المرء على مقارنة وضع الجامع وما جرت عليه من تعديلات وحملات تطوير جاء بعضها أقل من المأمول، بينما يشهد المولد السنوي استمرارية شعبية رغم محاولات التضييق الرسمي على مظاهر الاحتفال.

يفتخر رضوان في سيرته الذاتية (خط العتبة)، بمكانة الجامع الذي يعتبره “تاج الحي كله“، ويسارع بتقديم تفسير لهذه الحالة قائلا: “لعل مرجع ذلك أن المرأة القديسة أقرب إلى قلوب الشعب من أولياء الله من الرجال مهما علا مقامهم. فالمرأة، إلى جانب طهرها وقداستها تمثل لأصحاب الحاجات من النساء والمستضعفين الأم الحانية التي تطيل عليهم صبرها، والتي تعرف ضعفهم وعجزهم وقلة حيلتهم. والسيدة زينب هي (أم العواجز) و(أم هاشم)؛ فهي الأم. ولذلك فالذين يقصدونها في الأزمات والضوائق والآلام والشدائد أكثر من الذين يقصدون سواها… وقد تحققت بركة أم العواجز، وأصبح الحي الذي يحمل اسمها هو أشهر الأحياء، وأعظمها فضلًا ويدًا على مصر“.

***

يقترب فتحي رضوان من تحليل أسباب استقرار مكانة السيدة زينب في قلوب المصريين، فيمكن إرجاع الأمر إلى ميل نساء القاهرة بشكل فطري إلى قصة السيدة زينب، بكفاحها وما واجهته من مصائب حلت على عائلتها بصبر وجلد بعد كربلاء، وكانت هي السند لأسرتها وقت عز الناصر، فأعيد توظيف رمزيتها من قبل نساء القاهرة، فكل واحدة رأت في قصة السيدة زينب التعويض والسند النفسي لما تواجهه من مصاعب الحياة، فرغم ما تقابله سيكون في سيرة أم هاشم العزاء. هذه استعادة لأسطورة الأم المقدسة التي عرفتها مصر في صيغة إيزيس والعذراء مريم.

لا يكتفي رضوان بمحاولة الانتصار لجامع السيدة بالكلمات، بل يقدم أدلة موثقة على هذه المكانة، فهو يقول: “قد يهمك أن تعلم أنه لا ينافس مسجد السيدة زينب من مساجد مصر كلها، إلا مسجد شقيقها الإمام الحسين بن علي. ومع ذلك فإن حصيلة صندوق النذور في المسجدين الزينبي والحسيني تدل على تقدم مسجد السيدة زينب على مسجد الحسين بكثير. فقد بلغت حصيلة صندوق النذور في المسجد الزينبي سنة 1970، 53 ألفا، وصندوق السيد البدوي 50 ألفا، وصندوق الحسين 33 ألفا“.

وهو يقر بأن الجامع كان “مصدرا لحياة كاملة لأهل القاهرة بل لأهل مصر كلها“، فيحكي عما يراه من توافد الناس من مختلف الأقطار، فيقول: “فالناس تقصده من كل حدب وصوب، والوصول إلى ضريح صاحبته عند الملايين من أهل مصر، في الوجهين البحري والقبلي، في السواحل والصحاري، وفي الواحات، يكاد يكون كشد الرحال إلى الكعبة، وكثيرا ما تفد العائلة الريفية من القرية بقضها وقضيضها، وقد لا يسعفها ما عندها من مال قليل للنزول في فندق من فنادق الحي، فيفرشون الغبراء ويلتحفون السماء“، اللافت أن هذه الظاهرة مستمرة حتى يوم الناس هذا في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.

***

يحكي فتحي رضوان عن مظاهر التدين الشعبي الذي لا تزال مستمرة، كاشفا عن علاقة المصريين الخاصة بضريح السيدة، فعندما يضع الرجل أو المرأة يده على شباك الضريح “أحسست وأنت تراهم وتسمعه، بأن هذا لقاء غرامي، يصل فيه المحبون إلى أقصى درجات الوجد والله، فالدموع تهل، والآهات تصعد، والقبلات تتوالى، ومناجاة تدور في صوت خفيض صادق“، وهو يسرد بعض الكلمات المفتاحية في دعوات المصريين، مثل: والنبي يا ست يا طاهرة، يا أم هاشم، يا أم العواجز، يا بنت الإمام، يا أخت الإمام، نظرة والنبي. وفي بعض الحالات يصل الأمر إلى الاندماج الكامل ما يؤدي إلى حالات إغماء وغيبوبة.

ويلفت النظر هنا إلى أن هذا الجو المشحون بالتدين الشعبي يسمح بنشاط “عدد كبير من الأذكياء، ليستغلوا هذا الاستسلام والوجد، فتباع الأحجبة، ويظهر العديد من الدجالين والمحتالين، في أثواب عديدة، فهذا مجذوب، وذاك ولي، والثالث يعرف شيخًا مطمطمًا له أوثق الصلات بالحكام وأصحاب النفوذ، وبهذا يختلط الدين والدنيا، ويتنافس أولياء الله وأولياء الشيطان في كسب الأنصار والأتباع“.

يدخل فتحي رضوان بنا عالم مولد السيدة زينب، وهو احتفال صوفي من أكبر الاحتفالات الدينية في مصر حتى يومنا، وهو يقر هذه الحقيقة بقوله: “إذا كان المولد امتلأ الميدان بالمئات نهارًا والألوف ليلًا، فماجت الشوارع بالأجسام المتلاصقة وتلألأت الأنوار على واجهات الحوانيت، ونشطت التجارة نشاطًا عظيمًا، ونشطت معها صنوف من الحرام بأنواعه. تابع السبح وعلب السعوط والمصاحف، كما تتداول الأيدي أنواعًا لا حصر لها من المكيفات منها ما يؤكل، ومنها ما يُشرب، ومنها ما يدخن. وفي الأزقة والعطوف يجد شيطان الهوى، فرصًا لا يجدها طالبو لذات البدن في غير مناسبة المولد، هذه المناسبة الروحية فانظر وتعجب“.

***

ويصل المولد إلى ذروته في الليلة الكبيرة أو الليلة الختامية، وتصل قمة دراما هذه الليلة داخل الجامع نفسه، فإذا دخلته “وطفت في قاعاته، ورأيت الأضواء المتلألئة، والثريات المتوهجة، خيل إليك أن النور غسل الناس من أحزانهم وأحقادهم، وأنهم جميعا سعداء فرحون، يكادون يطيرون في الهواء من السرور والنشوة، ويبلغون الغاية في الليلة الكبيرة لمولد السيدة، ففي هذه الليلة يشعر الناس بأنهم موشكون على العودة والانفضاض، فيخالط السعادة حزن وحسرة، فتجتمع للناس في تلك الليلة أقوى الانفعالات البشرية“.

جانب آخر مهم يرصده صاحب (خط العتبة)، يتعلق بمكانة الجامع يوم الجمعة، وهو عيد أسبوعي لأهل الحي، “ففيه يأتي الناس إلى المسجد الزينبي، ليسمعوا القارئ العظيم الشيخ أحمد ندا”، والأخير توفي سنة 1932، ما يعني أن فتحي رضوان يؤرخ هنا للعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، إذ عرف الشيخ ندا باعتباره أحد أعلام المقرئين الكبار في عصره، وحصد شهرة واسعة، ومن أسف أنه مات قبل افتتاح الإذاعة الرسمية بعامين فلم يترك لنا تسجيلا يحمل بصمة صوته، ومن هنا أهمية وصف رضوان لهذا الصوت بقوله: “صاحب الصوت الجهوري العميق، ذي الطبقات، الذي يتردد في جنبات المسجد بلا مكبرات، فتخشع القلوب، وتهدأ النفوس“.

وكالعادة مع صلاة الجمعة، ينتشر الباعة الجائلون والشحاذون حول الجوامع، وهو أمر معروف لكل من أدى الصلاة في جامع السيدة زينب حتى الآن، فما أن يخرج المصلون “استقبلهم على باب المسجد، صنوف من أصحاب العاهات من عمى، ومقطوعي الأيدي والأرجل، والمعتوهين ومدعي الجنون، وكل منهم يحسب عاهته، أكبر مقامًا وأحق بالتقدير والرعاية، ومن خلفهم يقف طابور من بائعي البخور وخشب السواك، والعطور ذات الرائحة النفاذة التي تدير الرؤوس وأشياء كثيرة يخطئها العد والحصر“.

***

هذه المكانة الروحية لجامع السيدة زينب في نفوس المصريين، والتي أفاض فتحي رضوان في بيان تعلق الناس بالجامع الذي يمثل أحد مكونات الهوية المصرية، يبين سبب غضب الكثير من المصريين بعد نحو قرن من شهادة رضوان من عمليات التطوير الأخيرة التي طالت جامع السيدة زينب، بتعاون حكومي رسمي مع جماعة البهرة الإسماعيلية الهندية، والذي افتتح في مارس الماضي، إذ شكل “التطوير” صدمة لأنه جاء باستخدام تصميمات وأشكال لا تعبر عن تجربة المصريين مع مقام السيدة زينب، بل تم مسخه ببهارات هندية، لا تعبر عنا، وربما إذا كان القائمون على “التطوير” قرأوا بتدبر بعض ما كتبه رضوان عن علاقة المقام بالمصريين، لفهموا أهمية الحفاظ على هذا الرابط والصلة بين المقام وزواره، وأدركوا أهمية الحفاظ على هذا التراث الذي يكتسب أهميته من تفاعله مع الناس، لكن يبدو أن لا أحد يقرأ.

اقرأ أيضا:

قاهرة فتحي رضوان (1): المدينة من نافذة شارع

قاهرة فتحي رضوان (2): تحولات المدينة في قلب «السيدة»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر