قاهرة أحمد أمين: مدينة تخلع العمامة!

ترتكز شهرة المفكر أحمد أمين (1886- 1954م)، في الذاكرة المصرية والعربية على سلسلته الشهيرة لقراءة تاريخ الفكر عند المسلمين، (فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام)، لكنه ترك عدة أعمال لا تقل في قيمتها عن هذه السلسلة. ويأتي في مقدمتها (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية)، وسيرته الذاتية (حياتي).

وفي هذين العملين يقدم أمين، الذي عاش في حي المنشية أيامه الأولى، مادة وافرة عن تحولات القاهرة. في زمن خرجت فيه من طبيعة العلاقات التي شكلتها على مدار قرون إلى زمن الحداثة،.فترك أمين مادة غاية في الطرافة عن مدينة عاشت لحظة غروب لزمن ولى بالتوازي مع فجر صفحة جديدة. وبحسب وصف المفكر المصري، يبدو وكأن المدينة وقتها كانت تخلع العمامة وترتدي الطربوش.

***

المادة التي يقدمها أحمد أمين عن القاهرة في أعماله ترقى إلى مستوى التأريخ الاجتماعي والأنثروبولوجي للمدينة. فهو بتركيزه على العادات والتقاليد والممارسات الشعبية في قلب المدينة يقدم لنا ما يشكل هوية القاهرة حقيقة. وهي مادة تجعلنا نفهم المدينة بشكل أفضل، بل ونستطيع أن نتتبع مسار بعض الظواهر الاجتماعية في القاهرة من خلال رصد أحمد أمين كشاهد عيان وسجل للأحداث والظواهر. ومن هنا تأتي الأهمية الفائقة لما كتب صاحب ضحى الإسلام، وهو عادة يقدم مادة لا يلتفت لها الكثير من الباحثين والمهتمين بتاريخ القاهرة.

وهو يركز تأريخه للقاهرة في الفترة من الربع الأخير للقرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين. إذ يرصد العديد من التحولات العمرانية في القاهرة في قاموسه الشهير، خاصة أن المدينة شهدت العديد من التحولات العمرانية في زمنه. إذ يقول عن الخليج الذي كان يشق القاهرة: “كان كثير الأضرار؛ إذ لم يتعفف بعض الناس من أن يصب فيه القاذورات أو يرمي فيه الحيوانات الميتة المتعفنة… ولذلك صنعت الحكومة خيرًا بردمه… وإلى الآن في القاهرة شارعًا يُسمى شارع الخليج، يجري فيه الترام بعد أن كان يجري فيه الماء”. وقد تغير اسم شارع الخليج المصري إلى شارع بورسعيد في عصر عبدالناصر.

***

أما التحول الأهم فجاء على مستوى ملابس أهالي القاهرة، فهو يتحدث عن بداية تخلي أهالي المدينة عن ملابسهم البلدية، وارتداء الملابس الإفرنجية. فكانت العمامة ضحية هذا التحول، لأنها “غير محترمة في القاهرة الاحترام الكافي. وقد قُلت مرة إن صاحب الطربوش موضع ثقة إلى أن يأتي بعمل يفقدها. أما صاحب العمامة فلا يوثق به إلا أن يأتي بعمل يمنحه الثقة”.

ويبرر أمين خلعه للعمامة بأنه تعرض للأذى من لبسها كثيرا. فقد منع من دخول فندق سميراميس بسبب ارتداء العمامة، رغم السماح لصديقه المطربش بالدخول. وهو ما تكرر معه عندما حاول النزول في لوكاندة في الإسكندرية، وأمام هذه المصاعب اضطر أحمد أمين لتغيير ملبسه. لكنه أعطانا لمحة نادرة على كيفية وضع الاحتلال البريطاني لضوابط على الملابس علمت المصريين للأسف احتقار زيهم الوطني، وهي نظرة مستمرة حتى الآن.

ويقف أمين بين عصرين فيرصد تحول بيوت القاهريين. فكانت في السابق لها نظام يناسب أوضاعهم الاجتماعية وطبيعة جوهم الحار، فكان للمنزل عادة ساحة داخلية (صحن)، والدور الأرضي للرجال والدور العلوي للنساء. لكن هذا كله تغير مع موجة التفرنج التي ضربت مصر عموما والقاهرة خصوصا، فبدأت تظهر بنايات عالية وناطحات السحاب تقليدًا لأمريكا.

المفكر أحمد أمين
المفكر أحمد أمين
***

وينعي ملاهي القاهريين، من الأراجوز وخيال الظل، وغيرها من الألعاب، التي كسد سوقها مع انصراف أهالي القاهرة إلى الاهتمام بالسينما والمسرح “بسبب الاقتباس من المدينة الغربية”. وهو نفس حال رواة السيرة الهلالية في المقاهي الذين بدأوا في الانقراض بسبب الانصراف إلى السينما والراديو.

وبينما يعطي صاحب (ضحى الإسلام) وصفا موسعا لظاهرة الصالونات الأدبية في القهرة. يقدم وصفا مطولا للمحمل الذي كان يخرج من القاهرة في احتفال كبير في ميدان القلعة قبل خروجه متوجها إلى الحجاز. كذلك يقدم وصفا حيا لاحتفال المولوية في التكية الخاصة بهم في شارع المظفر. كما يتحدث عن وسيلة مواصلات جديدة في عصره ممثلة في عربات سوارس. وهي “عربات كبيرة مسقوفة تحمل الركاب من شارع إلى شارع، يجرها جياد”. وهذه العربات معروفة في الذاكرة الشعبية من خلال فيلم “بين القصرين”، في المشهد الشهير الذي تخرج فيه أمينة لزيارة سيدنا الحسين فتصدمها عربة سوارس.

وينقل صاحب (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية) نبض الشارع القاهري، حتى تكاد تسمع الأصوات تخرج من بين صفحات الكتاب. فأنت تستدعي الصوت وتشم بأنفك الرائحة عندما تقرأ ما يكتبه أمين: “كثيرًا ما ترى في شوارع القاهرة عربات محملة بالبطاطا ينادون عليها، وقد يصنع بعض الباعة على عرباتهم فرنًا صغيرًا فيبيعونها ساخنة”. أو قوله: “فتجد كثيرًا من الباعة، وأمامهم النار يشوون عليها كيزان الذرة ويبيعونها”.

***

ويتابع في موضع آخر: “وكثيرًا ما يدور البائعون في الحارات ينادون على الغربال بقولهم: يا طالبة الغربال يا عاوزة الغربال. وعلى المنخل بقولهم: المنخل الحرير العمولة”. وبعد أن يعطي لمحة عن الفسيخ يقر بأنه “يؤكل كثيرًا في يوم شم النسيم، وقد اعتاد المصريون أكله في ذلك اليوم… وخير ما يؤكل أن يؤكل معه البصل الأخضر”. وهي عادة مصرية مستمرة حتى الآن، ويشير إلى الفول باعتباره “الفطور المعتاد لأهل مصر”.

ويعطي أمين لمحة قوية عن تحول مزاج المصريين في المشروبات، فقد كانت أشربة نبيذ البلح أو الزبيب أو التين، تباع في محل كبير أمام سيدنا الحسين. لكنه يوضح انتشارا لظاهرة جديدة في عصره (ثلاثينيات القرن العشرين)، وهي انتشار دكاكين لبيع المشروبات أطلق عليها مسمى “جنة الفواكه”. وهي نفسها محلات العصائر التي نراها منتشرة في مصر كلها حاليا، وهو يحدد بدقة ما تبيعه هذه المحال في عصره. “فهي تبيع عصيرالبرتقال، وعصير القصب في الشتاء، وعصير الأناناس والخرشوف وحب العزيز والمانجو أو العنب في الصيف”. وهي المحال التي بدأت في الانتشار بجوار ما كان معروفا في القاهرة من انتشار بائعي العرقسوس والخروب والليمون في شوارعها. و”هم عادة يضعون في أيديهم بعض أطباق نحاسية، وبعضهم يستطيع أن يوقِّع عليها نغمات موسيقية جميلة، فيلفتون إليهم الأنظار”، بحسب وصفه.

***

كما يكشف عن العوائد الاجتماعية لأهالي القاهرة، فهم يوزعون أطباق الكشك بالفراخ في يوم أسبوع الطفل، أما في الأفراح فهو يميز بين احتفالات أبناء الطبقة الغنية وأبناء الطبقة المستورة. ويعطي وصفا مطولا لحفلة الزار، كما يعطي وصفا فريدا للعزاء والمشي في الجنازات وما يجري فيها من طقوس. فعلى أيامه تم إلغاء طقس في الجنازات، إذ كان يسير أمام الميت جمل يحمل على جانبيه صناديق مملوءة بالفطير والشريك، تسمى بـ”الكفارة”، وتوزع على المارة. وعادة توزيع الشريك والفطائر لا تزال مستمرة في الأحياء الشعبية بالقاهرة في يومنا هذا. أما الحلف على الضيف بالأكل من الطعام المقدم فعادة مستمرة.

كذلك يبدو أن بعض المهن المعروفة في القاهرة لم تتغير، فالمبخراتي؛ كما يسميه أحمد أمين، يواصل جولاته في شوارع القاهرة حاملا المبخرة وبجانبه كيس معلق في كتفه فيه البخور، وهو منظر مألوف في القاهرة حتى يوم الناس هذا. إذ يمر المبخراتي “على الدكاكين يبخرها، فيمنحونه بعض المال. أو بعبارة أخرى: مافيه القسمة. ومنهم من يجعل لهم راتبًا شهريًّا صغيرًا، وعند التبخير يكثر من الدعوات والصلاة على النبي”. كما يعطي وصفا حيا لانتشار محال الطرشجية في أحياء القاهرة بصورة لم ير لها مثيلا في أي بلد آخر. “والناس يذهبون بسلاطينهم أو مواجيرهم الصغيرة ليشتروا منه بقرش أو بنصف قرش، فيضع في القاع اللفت؛ لأنه أكثر. ثم قليلًا من الأصناف الأخرى، ثم يضع عليه مرقًا مخللًا لون بلون أحمر يسمى الدقة”. ونفس الترتيب تقريبا يتبعه باعة المخلل في قاهرة القرن الواحد والعشرين. أما أشهر بائع كنافة في عصره فهو السيد علي الكنفاني الذي يقع محله بجوار بوابة المتولي (باب زويلة).

***

كما يلفت إلى كثرة الأضرحة في مدينة القاهرة، لكنه يشن هجومًا على ظاهرة تقديس أصحاب الأضرحة. لأنه “ليس كل من وضع عليه ضريح يكون وليًّا صالحًا، فقد يكون وليًّا صالحًا كما يقولون، وقد يكون غير ذلك”. ضاربا المثل بجامع صالح أبي حديد يقع في الناصرية غير بعيد عن جامع السلطان الحنفي، الذي يروي قصته كقاطع طريق. أو أن يكون الحاكم ظالما مثل جامع ألماس الحاجب الذي يورد اسمه بالنطق الشعبي “ألماظ”. لكنه يعترف بأن بعض الأضرحة تنسب إلى علماء أجلاء مثل الإمام الشافعي الذي ثبت علمه وصلاحه وصحة دفنه. كما يلفت إلى أضرحة الرؤية، فـ”منهم من رئي في المنام موضعه ولم يثبت دفنه في هذا المكان، كضريح السيدة زينب. فقد كان معروفًا أن موضعه كان قناطر للماء، ولذلك يسمونه مشهد السيدة زينب”.

ويعطف أمين على القرافة، التي يعرفها بـ”مدافن الموتى وتعمر عادة في مواسم خاصة كالخميس الأول من رجب وأيام الأعياد. وفي العادة تعمر أيضًا صباح يوم الجمعة فيستدعى الفقهاء للقراءة، ويفرق الفطير والشريك والفاكهة على روح الفقيد. وكان الناس عادة يبيتون فيها، وكانت تحدث فظائع من هذا المبيت، ولذلك منعته الحكومة المصرية. والعادة أن تكون بعيدة عن البيوت… واشتهرت في القاهرة جملة قرافات منها قرافة المجاورين والعفيفي وقرافة الإمام الشافعي وقرافة السيدة نفيسة. وترى فيها مشاهد القبور لطبقات الشعب أرستقراطية وديموقراطية، وحيشانا فخمة وحيشانا متوسطة”.

***

وترتبط بالأضرحة الموالد التي تقام عادة حول الأضرحة، لذا يقدم لنا أمين عن أشكال الاحتفالات الشعبية بالموالد في النصف الأول من القرن العشرين، وفي مقدمتها المولد النبوي الشريف. “وقد كان يقام له حفلات عظيمة، فيجتمع رجال الطرق الصوفية، وكان الاجتماع في باب الخلق… وعند تكاملها تسير في موكب كبير. كل موكب ينشد نشيده الخاص على نغماته الخاصة مع دق الدفوف وقرع ما يسمى البازة، وهي آلة نحاسية، حتى يصلوا أخيرًا إلى مشيخة الصوفية في بيت البكري. فتقرأ الفاتحة والصلوات، ويُعلن السيد البكري افتتاح المولد”.

وهو يشير إلى احتفال كان يعرف بـ”الدوسة” يقام في 11 ربيع الأول من كل عام. حيث يجتمع أرباب الطرق الصوفية بميدان باب الخلق على نظام خاص. و”يسير الموكب بأهم شوارع المدينة، وعندما تصل هذه المواكب إلى ساحة المولد ينبطح الكثيرون على وجوههم في صف كبير فيمر فوقهم شيخ السادة السعدية بحصانه يقوده اثنان من أتباعه. ويعتقدون أنهم سينالون من ذلك بركة كبيرة”. وقد ألغى هذا الاحتفال الخديو توفيق “لما ينشأ عنها من أضرار”. لكن يبدو أن قرار الخديو جاء بإيعاز من سلطة الاحتلال البريطاني، وإن كان أحمد أمين لا يشير إلى ذلك.

***

بعض الظواهر التي يرصدها أحمد أمين تبدو مستمرة في حياة المصريين في يومنا هذا. فهو يقول إن المصريين لديهم ولع بـ”اليفط”، يعلقونها في كل مكان. وهو ينتقد تدني مستوى النظافة في القاهرة. ويشير إلى أن “الحارات البلدية في القاهرة من أدل الأشياء على القذارة خصوصًا في أيام المطر، فوحل وماء وقذر ورائحة عفنة ونحو ذلك“. ليخلص إلى أنه “مما يؤسَف له أن النظافة لم تنل من المصريين العناية الكافية“. ويلفت إلى ظاهرة طريفة مستمرة فـ”قد يصادفك وأنت مارٌّ طشت ماء من الغسيل ألقي عليك!“. وهو يهاجم “الهرجلة” بين المصريين، يرفضها بوضوح خصوصا عند الموظفين فالفوضى تضرب المصالح الحكومية “فورق هنا وورق هناك، وورق يضيع بين الموظفين“.

وينتقد أحمد أمين الموظفين بنحو ما ننتقدهم في يومنا هذا، بما يدل على أن أزمة البيروقراطية عريقة في مصر، فهو يقول بصوت حانق: “الورق يبقى عند الموظف نائمًا تتراكم عليه الأتربة أو منسيًّا في درج الموظف إلى أن تأتي محسوبية فيمر مر البرق. ولذا شاع بين المصريين: إذ أردت أن تقضي عملك فابحث عن كبير يرجو لك. وسبب ذلك أن الموظف المصري غالبًا كان لا يتحرك لعمل إلا أن يكون له غرض شخصي من ورائه”. وهو يحكي قصة شخصية وقعت له تسببت في ضياع طلبه للترقية لمدة ستة أشهر، بعد اكتشاف فقدان “الدوسيه”. ولم يتحرك الأمر إلا بعد أن وجد واسطة من شخصية ذات سلطة، فانتهى الأمر في ربع ساعة!

***

يقدم أحمد أمين في كتابه (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية)، مادة هائلة وشديدة الحيوية عن القاهرة وتحولاتها في الفترة الخديوية والملكية. وهي فترة تميزت أيضا بوجود الاحتلال البريطاني، وتفجر الهوية الوطنية بعد ثورة 1919. وفي كل ما يكتبه أمين عن القاهرة وعادات أهلها واستقبالهم للجديد من العادات المستوردة. يقدم لنا نصوصا يمكن ضمها إلى ما يقدمه في سيرته الذاتية (حياتي)، لاستكمال رؤية مثقف من طراز رفيع وبحجم صاحب (َضحى الإسلام)، لتحولات القاهرة في زمن خلعت فيه العمامة لكنها لم تعد تعرف ماذا ترتدي!

اقرأ أيضا:

القاهرة.. مدينة صنعتها الأحلام

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر