فيلم «أميرة» لمحمد دياب: فكر خجول، وشجاعة مرتبكة!
من أفلام مهرجان “الجونة” التي قسمت مشاهديها بين معجب يشيد، ومرتاب يتشكك، فيلم “أميرة”، أحدث أفلام المخرج محمد دياب.
بداية هذا فيلم مصري يدور بالكامل في فلسطين بممثلين فلسطينيين وأردنيين، وهو أمر جيد في حد ذاته. أصبح من الممكن تحقيقه بفضل التغير الحادث في نظام الانتاج السينمائي بالعالم وانتشار ما يسمى بصناديق الدعم من قبل شركات ومهرجانات ومحطات تليفزيونية ومؤسسات غير حكومية وحكومية، مما يحتاج فهمه إلى خريطة مفصلة ربما أعكف على رسمها في مقال قادم.
رموز
أما الموضوع الذي يتناوله فيلم “أميرة” فهو يعد أيضا سابقة في الأفلام التي تدور حول القضية الفلسطينية، التي يدور معظمها حول المعاناة والكفاح في ظل الاستعمار الصهيوني، وغالبا ما يجرد الشخصيات من تفاصيلها وتعقيداتها لتتحول إلى رموز للخير والشر والحق والباطل.
“أميرة” يحمل فكرة مذهلة: فلسطيني سجين يقوم بتهريب حيواناته المنوية إلى زوجته لينجبا أطفالا فلسطينيين يكتشف أنه عقيم لا ينجب وأن ابنته التي أنجبها منذ حوالي عشرين عاما هي، بيولوجيا، ليست ابنته. ابنة إسرائيلي. المعلومة التي تكتشف بالصدفة تزلزل كيان الأسرة والمجتمع الفلسطيني الذي يعيشون فيه، والمصيبة الأكبر أنهم يكتشفون أن حارس السجن الاسرائيلي، الذي ساعد الأب في تهريب نطفته، قام باستبدال النطفة بحيواناته المنوية وأن الفتاة نصف إسرائيلية، بيولوجيا. تحاول الأم أن تخفي الأمر خوفا على ابنتها من التنمر أو الأذى، فتدعي أنها كانت على علاقة برجل فلسطيني آخر، وأعمام الفتاة الذين قاموا بتربيتها في غياب أبيها السجين لا يعرفون كيف يتعاملون مع الأمر، ويريدون ارسال الفتاة لتعيش في الخارج، والابنة التي تعشق والدها، وتحمل كرها هائلا للاسرائيليين، تصاب بالصدمة وتقرر التسلل إلى إسرائيل للبحث عن الحارس وقتله حتى تستعيد شرفها الفلسطيني.
أنا بنت مين
بعيدا عن القضية الفلسطينية هذه فكرة درامية جيدة، ولكنها ليست جديدة تماما، وقد عاشت الميلودراما المصرية على موضوع اختلاط النسب دهورا، من أيام “أنا بنت مين” و”دهب” و”الخطايا” وحتى “لا تسألني من أنا”. وقبل الميلودراما السينمائية ظل موضوع النسب وإثبات البطل لأحقيته في الانتساب لأبيه هو الموضوع الشاغل للسير الشعبية العربية مثل “عنترة” و”أبو زيد الهلالي”، وبالمناسبة الميلودراما الهندية مهووسة أيضا بهذه “التيمة”، وعلى “نتفليكس” هناك فيلم هندي حديث اسمه “ميمي” يعالج الفكرة بطريقة إنسانية وعصرية، ولكن هذا ليس موضوعنا اليوم.
موضوعنا ما فعله فيلم “أميرة” بهذه الفكرة التي تحمل امكانيات جبارة، والتي يتوقع بالطبع أن تثير الجدل والحساسيات، بسبب طبيعة الصراع الفلسطيني الصهيوني، فنحن لا نتحدث هنا عن سادة وعبيد أو أثرياء وفقراء أو بيض وسود ولكن عن فلسطينية مسلمة تكتشف أنها نتاج نطفة إسرائيلي يهودي.
الرباط البيولوجي
أسهل شئ هو توجيه الاتهامات، وقد تعرض فيلم “أميرة” لاتهامات فورية رخيصة لمجرد الفكرة، ولكن كما نقول دوما الفكرة ليست مهمة في حد ذاتها، ولكن المهم ما يفعله الفنان بالفكرة.
لا يوجد في “أميرة” ما يمكن أن يشير إلى أنه يدافع عن “التعايش” و”التهجين” بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن هناك ما يشير إلى رفضه لهذا الاحتمال لدرجة الوقوع في المبالغة وارتكاب بعض الأخطاء الدرامية واتخاذ مواقف غير إنسانية. كيف؟ لا يحمل الفيلم من قريب أو بعيد دفاعا عن الرباط البيولوجي بين الأبنة وأمها الفلسطينية الوطنية التي قبلت أن تتزوج فدائيا مسجونا وتعيش حياتها كراهبة. نحن نعلم أن اليهود يقدسون النسب للأم ولا يعترفون باليهودي إلا إذا كانت أمه يهودية، بينما العرب على العكس لا يعترفون بالنسب للأم ومعظم البلاد العربية لا تمنح الجنسية لأبناء الأم إذا كان الأب أجنبيا!
شهيدة
هل يعقل أن يتفق فنان ينتمي للقرن الواحد والعشرين مع هذا الموقف غير الانساني؟ للأسف هذا ما يفعله فيلم “أميرة”، عن غير قصد غالبا، بسبب خوفه من الاتهام بقبول فكرة وجود فلسطيني من أب إسرائيلي. وحتى نتبين الموقف لنفكر بالعكس: ماذا لو اكتشفت أميرة أنها ابنة أم إسرائيلية؟ هل كانت محنتها ستكون بالقدر نفسه؟
أميرة كما يصورها الفيلم مرتبطة بأبيها السجين وعدوانية تجاه أمها بشكل غير طبيعي، وحتى عندما تكتشف أنها ليست ابنته وأن أمها حاولت التضحية بسمعتها وحياتها حتى تحميها من هذا الاكتشاف، تظل أميرة أبوية النسب، باردة تجاه أمها، لسبب لا يمكن تفسيره سوى بطبيعة المجتمع الفلسطيني الذي تعيش فيه، والذي يعلي من شان الذكورة والنسب الذكوري بشكل متطرف.
حساب المثلثات
الفلسطينيون كما يظهرهم الفيلم متخلفون، يزوجون فتاة من صورة فوتوغرافية لرجل محكوم بالسجن مدى الحياة، ويعتقدون أن ارسال نطفة خارج السجن هو بمثابة تحرر ومقاومة للمستعمر، ويرفضون فتاة لا ذنب لها لمجرد أنها تنتسب بيولوجيا لحيوان منوي ضال، بل يريدون ارسالها وراء الحدود للتخلص منها ويفرحون بأنها ستتسلل بمفردها لاسرائيل ويعتبرونها شهيدة يتفاخرون بتعليق صورها.
مرة أخرى لا أعتقد أن هذه الصورة التي يظهر بها الفلسطينيون مقصودة، ولكنها نتاج عقل محافظ، متردد، يكتب سيناريو فيلمه بطريقة “حساب المثلثات” ويخشى الاتهامات. إنه يحاول، من بعيد، أن يتيح مساحة لصوت آخر، يتمثل في مدرس الابنة، صديق الأم، المثلي جنسيا، والذي يعلن أن الانسان ليس مجرد ضحية لحمضه النووي، وربما كان يمكن أن يقول أيضا أن الهوية ثقافة قبل أن تكون عرقا وأن الانتماء قرار قبل أن يكون قدرا، وأن الوطنية اختيار قبل أن تكون جنسية.
حقل ألغام
لكن الفيلم لا يقول ذلك، ولا المدرس، فهو شخصية باهتة، لا تكاد تسمع أو ترى، ويزيد الطين بلة أن صانع الفيلم جعله مثلي جنسيا لسبب غير مفهوم، ربما لإن الأفلام “العالمية” هذه الأيام يجب أن تتضمن شخصا مثليا. لست ضد ظهور المثليين في السينما ولكن في هذا الموقف تحديدا يبدو الأمر مفتعلا، والأسوأ أنه يجعل آراء المدرس التقدمية محل شك في نظر المشاهد العربي التقليدي، بما أن من يرددها مثلي جنسيا.
لقد وضع محمد دياب نفسه وسط حقل ألغام ووقف حائرا لا يعرف كيف يخرج منه، ولجأ إلى نهاية مفتعلة، ملتبسة، وغير منطقية، والأسوأ: غير إنسانية.
محمد دياب مخرج جيد، يعرف كيف يصنع دراما مشوقة، ولديه شجاعة الخوض في موضوعات حساسة وجدلية يخشى من الخوض فيها الآخرون. ولكنه يتعامل مع هذه الموضوعات بالقلم والمسطرة، بالشوكة والسكين، بقفاز يد ومريلة مطبخ. وهكذا أتى فيلم “أميرة” إلى الدنيا هجينا غير متجانسا: رجعي ومحافظ النواة بقشرة متحررة، مرتبك، ومربك. ويؤدي غالبا إلى عكس الهدف منه، لو اعتبرنا أن هناك بالفعل هدف منه!
اقرأ أيضا: