في مثل هذا اليوم صرخ عبدالناصر من ميدان المنشية «دمي فداء لمصر»
ثماني رصاصات تدوي في ميدان المنشية في مساء يوم 26 أكتوبر من عام 1954، بينما كان عبدالناصر يخطب في الآلاف احتفالا بتوقيع معاهدة الجلاء، انتابت الجماهير حالة من الفزع والذعر وراحوا يلوذون بالفرار ليصيح عبدالناصر: أمسك اللي ضرب ده ليردف بعصبية وتأثر “فليبق كل في مكانه، أيها الرجال فليبق كل في مكانه”، وظل يصرخ بانفعال مرددا نداءه للجماهير فليبق كل في مكانه متجاهلا محاولات الحرس تنحيته من مكانه، للحفاظ على حياته، ليردف قائلا: “دمي فداء لكم، حياتي فداء، دمي فداء لمصر.. حياتي فداء لمصر”.
الجناة
يورد الدكتور عبدالعظيم رمضان في كتابه “الإخوان المسلمون والتنظيم السري”، أن محمود عبداللطيف والذي كان سباكًا وعضوًا في التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين، كان يجلس في الصفوف الأولى على بعد 20 مترًا من المنصة التي كان يخطب منها عبدالناصر، وأنه بعد حالة الهرج والمرج التي أعقبت إطلاق الرصاص وقطعها صوت عبدالناصر بقوله “امسك اللي ضرب ده”، ألقى القبض على محمود عبداللطيف ومعه سلاح الجريمة “المسدس”، وفي اليوم التالي يسلم هندواي دوير، المحامي ورئيس محمود عبداللطيف في التنظيم نفسه للبوليس، وتتوالى عمليات الاعتقال لمسؤولي التنظيم السري للإخوان سواء بالإسكندرية أو القاهرة؛ ليعلن مجلس قيادة الثورة في 27 من نوفمبر عن اعتقال حوالي 70 % من أعضاء التنظيم السري للإخوان والبالغ عددهم 700 عضوًا، كان أبرزهم الهضيبي “المرشد العام”، حسن العشماوي، وعبدالمنعم عبدالرءوف “الضابط الإخواني”، ويوسف طلعت، وعبدالقادر عودة وعمر التلمساني.
شاهد عيان
يذكر الدكتور عبدالله إمام، في كتابه “الإخوان وعبدالناصر”، شهادة المحامي أحمد بدر، سكرتير هيئة التحرير بالإسكندرية والتي أدلى بها لمجلة التحرير في 9 من نوفمبر 1954 فيقول: ” كنت أقف إلى يمين عبدالناصر، وعن يساره يقف الأستاذ الميرغني حمزة الوزير السوداني، وكان جمال واقفًا يحيي بالكاب الآلاف العديدة الهاتفة له في الميدان وكان يجلس خلفنا صلاح سالم وعبدالحكيم عامر والباقوري وحسن إبراهيم، وبدأ جمال خطابه ومضت لحظات قليلة ثم انطلقت الرصاصة الأولى، فحسبت أنها صواريخ أطلقت تحية لجمال، ثم أطارت الرصاصة الثانية جزءا من إصبعي فاندفعت نحو جمال أحاول إبعاده عن المنصة، ولكنه دفعني بعنف وهو يخاطب الجماهير.
وبينما أنا أحضن جمال أثناء محاولتي إبعاده عن المكان جاءت الرصاصة الرابعة في جنبي، ولم أحس بها تماما فقد كنت في شاغل عن كل شيء، وأنا أراقب جمال وشجاعته النادرة وهو يتقدم والرصاص حوله ويقول “امسكوه ..امسكوه”.
تحقيقات
وفي أول نوفمبر شكل ما عرف بـ”محكمة الشعب” برئاسة جمال سالم، وعضوية كل من أنور السادات، وحسين الشافعي وانبثق عنها ثلاث دوائر فرعية، جميعها أدارت التحقيقات، التي كشفت وحسب الدكتور عبدالله إمام عن تفاصيل المؤامرة، التي كانت تهدف إلى اغتيال عبدالناصر وجميع أعضاء مجلس قيادة الثورة ونحو 160 ضابطًا من ضباط الجيش، وضبطت أسلحة ومتفجرات كانت لدى تنظيم الإخوان بالإسكندرية، بالإضافة إلى حزام ناسف اخترعه الإخوان لاستخدامه في قتل عبدالناصر حال فشل محاولة اغتياله بالرصاص، وخطة لنسف طائرة عبدالناصر دبرها الضابط الإخواني عبدالحي أبو المكارم، وتنوعت الأحكام ما بين الإعدام والمؤبد والأشغال الشاقة، فيما خففت للبعض أحكام الإعدام إلى المؤبد.
مزاعم الإخوان وبراءة عبدالناصر
وبعد حملة الاعتقالات الواسعة والمحاكمات، روج الإخوان أن العملية مدبرة من جمال نفسه لإيجاد ذريعة منطقية للقضاء على تنظيم الإخوان المسلمين، بسبب موقفهم الواضح والرافض لمعاهدة الجلاء وعملهم ضد الثورة، ويذكر الدكتور عبدالله إمام في كتابه أن كل من حسن الهضيبي، وعبدالقادر عودة أرسل خطابات- بعد الحادث مباشرة – إلى جمال عبدالناصر يتنصلون من صلتهم بالحادث، ويدعون أن الحادث فردي قامت به مجموعة من التنظيم الخاص للإخوان، وزاد على ذلك الهضيبي بقوله في خطابه إنه لا يعرف شيئًا عن التنظيم السري، ويطالب عبدالناصر بحله.
ومن ناحية أخرى أورد الدكتور عبدالله إمام شهادة هندواي دوير مسؤول العملية، والتي قال فيها في مساء يوم 29 أكتوبر أنه تلقى معلومات مكتوبة من رئاسة التنظيم السري بقتل البكباشي جمال عبدالناصر، كما صدرت إليه تعليمات بتكليف محمود عبداللطيف بها، وأنه سلم إليه المسدس المستخدم في العملية.
ويورد علي عشماوي، أحد قيادات الإخوان في ذلك الوقت، وشقيق حسن العشماوي المتهم بحادث المنشية، في مذكراته “التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين”، في الصفحة رقم 117 وتحت عنوان “عبد الناصر برئ”، ليفند مزاعم الإخوان بأن التدبيرات الأمنية الشديدة بالميدان تثبت استعداد النظام لشن حملة اعتقالات واسعة بين صفوف الإخوان، يرد العشماوي على هذا الزعم بقوله “لم ارتح لهذه النظرية لأن حياة عبدالناصر كانت على المحك، ولم يكن ليغامر بها”، ثم يقول إنه “تصرف فردي قامت به مجموعة قد ذهبت بها الحماسة إلى آخر المدى، ولم تعد قادرة على الانتظار أو التحكم مع الشحن المستمر ووجود السلاح بين أيديهم فلم ينتظروا أمرا ولا خطة، وبهذا يكون موقف هنداوي دوير، رئيس منطقة إمبابة في ذلك الوقت والذي أصبح بحكم التنظيم الجديد متحكمًا في أفراد النظام التابعين له وأسلحتهم، قد أعطى الأمر ورسم الخطة.
أما محمود عبداللطيف فقد كان من جنود النظام المدربين، ولكنه كان – وقبل كل شيء – بسيطا ينفذ الأمر فقط، فلم يفكر في تفاصيل الموضوع، ويعلق العشماوي على هذه النظرية بقوله “وأنا شخصيا أرتاح لهذا الرأي الذي يتفق مع حالة التفسخ والضياع التي كان فيها أفراد الجماعة في ذلك الوقت”.
مراجع وأسانيد:
1- الإخوان المسلمين والتنظيم السري – الدكتور عبدالعظيم رمضان (ب يدي اف) – من ص 9 إلى ص 29
2- التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين (مذكرات علي عشماوي) ب يدي اف – من ص 115 إلى صفحة 118
3- الإخوان وعبدالناصر – تأليف الدكتور عبدالله أمام (ب يدي اف)- من ص 117 إلى ص 138
4-جمال عبدالناصر وجماعة الإخوان المسلمين (رسالة ماجستير) – الباحث : تامة يونس – جامعة محمد خيضر “بسكرة “- من ص 77 إلى ص 80
تعليق واحد