في ذكرى وفاته.. “يوسف شاهين” حالة من الوهج لن تتكرر
يُعد المخرج يوسف شاهين أحد الأصوات المتفردة في السينما المصرية وأحد رموزها أيضا، وأكثر السينمائيين المصريين إثارة للجدل، كما أنه واحدا من الذين يمكن وصفهم دون مبالغة بـ”المخرج المؤلف”، حيث إن لقطات ومشاهد أفلامه تجسد وتعبر عن رؤيته بشكل حقيقي وتعكس شخصيته الفنية.
وتكشف أي قراءة لأي مشهد من مسار شريط الفيلم “الشاهيني” عن شخصية مبدع حقيقي شغوف بالسينما، وتمثل تجربة مشاهدة أحد أفلامه حالة من انعاش العقل ودفعه لطرح الأسئلة النقدية دون الإمتثال لحالة السكون الفكري، وحازت عدة أفلام من أعماله على جوائز في مهرجانات محلية ودولية.
يوسف شاهين وبداياته السينمائية
لأسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، ولد يوسف جبرائيل شاهين، في يناير من عام 1926 بمدينة الإسكندرية تلك المدينة الكوزموبولتانية التي شهدت طفولته وصباه، والتي تعلق بها كثيرا، والتحق يوسف بعد حصوله على تعليمه الابتدائي بكلية فيكتوريا الخاصة التي نال منها شهادة البكالوريا، ثم سافر إلى أمريكا لمدة عامين لدراسة السينما.
أخرج “جو” كما كان يحب أن ينادي بعد عودته فيلم “بابا أمين” عام 1950، وكان أول أفلامه، وقد اعتمد فيه على أسلوب الفانتازيا وكان أسلوبا جديدة تماما على جمهور السينما المصري والعربي، حيث يتناول الفيلم حياة وعودة شخص بعد موته، وقد ظهر في مشهد من فيلم “إسماعيل ياسين في الطيران”.
وفي عام 1951، أخرج فيلم “ابن النيل”، كما ظهر في فيلم “باب الحديد”، وقام بدور “قناوي”، وأيضا في أفلام “فجر يوم جديد”، و”حدوتة مصرية”، و”اليوم السادس”، و”إسكندرية كمان وكمان”، وفيلم “ويجا” من إخراج تلميذه خالد يوسف.
مخرجين أثروا في شاهين
تأثر يوسف شاهين بالمخرج المسرحي الأمريكي إيليا كازان، كما ذكر المخرج سمير سيف في إحدى المقابلات، حيث قال إن “شاهين” تعلم من المسرحي الأمريكي كيف يكون صاحب أسلوب بصري متفرد، وهو ما برع فيه، حيث تؤكد تكوينات صوره ورسمه لطريقة حركة الممثل امتلاكه أسلوبا بصريا متميزا.
وكشف سمير سيف، أن “كازان” أحدث انقلابا في فكر شاهين السينمائي، وهو ما ظهر في فيلمه “جميلة بو حريد”، الذي كان بمثابة نقطة تحول في وعي شاهين السياسي، حيث إن الأفلام التي أخرجها شاهين قبل عقد الستينات مثل “شيطان الصحراء”، و” صراع في الوادي”، و”صراع في الميناء”، و” ودعت حبك”، و” نساء بلا رجال “وغيرها مثلت رؤية شاهين وأفكاره المنحازة للفقراء والساخرة من الأغنياء، والتي كانت قريبة من الميوعة الفكرية حيث لم يكن وعيه ناضجا بما فيه الكفاية.
المحاكمة والمنع
تعرض “جو” كالعديد من المبدعين لبعض المضايقات نظرا لما عرف عنه من انتقاد لممارسات الدولة، وبسبب خلافاته مع بعض رجال الدولة، واضطر إلى السفر خارج مصر من عام 1964 وحتى عام 1968، وعاد إلى مصر بعد وساطة الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي، وعبر عن موقفه النقدي من دولة ناصر في العديد من أفلامه وخاصة في فيلم “العصفور” الذي أخرجه عام 1973، وتناول فيه أثر الهزيمة بعد حرب 1967.
وتعرض فيلمه الروائي القصير “القاهرة منورة بأهلها” عام 1991 إلى المنع والحجب نظرا لانتقاده اللاذع لظروف الحياة في فترة الثمانينيات، وهي الفترة التي زاد فيها نفوذ المتطرفين الدينيين، وتحولت الدولة إلى ساحة مواجهة أمنية بين التيار الديني والشرطة، وقدم رؤيته لأسباب التطرف.
ويعد فيلم “المهاجر” عام 1994 الذي تعرض بسببه إلى المحاكمة هو أبرز موقف خاضه وتعرض له، حيث إن اصطدامه لم يكن بشكل مباشر مع أجهزة الدولة بل كان مع التيار الديني و أفكاره الرجعية التي سعى إلى سيادتها في الشارع، وقد أثار الفيلم لغطا كبيرا حين عرض في دور السينما المصرية.
مسيرة حافلة كللت بالجوائز
قدم شاهين طوال تاريخه 37 فيلما سينمائيا، كان من أبرزها أفلام “صراع فى الوادى، صراع فى النيل، باب الحديد، بياع الخواتم، الناصر صلاح الدين، عودة الابن الضال، إسكندرية ليه، إسكندرية كمان وكمان، المصير، المهاجر، سكوت هنصور، إسكندرية نيويورك، هى فوضى”، إضافة إلى خمسة أفلام قصيرة هى ” كلها خطوة – القاهرة منورة بأهلها – انطلاق – سلوى – عيد الميرون”.
حصل “شاهين” على العديد من الجوائز، منها جائزة التانيت الذهبية من مهرجان قرطاج السينمائي عن فيلم “الاختيار” عام 1970، وعلى جائزة الدب الفضى من مهرجان برلين السينمائى عن فيلم “إسكندرية ليه” عام 1979، كما حصل على جائزة أفضل تصوير من مهرجان القاهرة السينمائى عن فيلم “إسكندرية كمان وكمان” عام 1989.
وحصل فيلم “المصير” علي جائزتين إحداهما من مهرجان أميان السينمائى الدولى عام 1997، وجائزة الإنجاز العام من مهرجان كان السينمائى فى نفس العام، وذلك في احتفال المهرجان بعيده الخمسين، وحصل فيلم “الآخر” عام 1999 على جائزة “فرنسوا كاليه” من مهرجان كان السينمائى، وفي عام 2006 تم منحه رتبة ضابط فى لجنة الشرف من فرنسا.
وبمناسبة الاحتفال بمئوية السينما المصرية، اختارت اللجنة الفنية التي شكلها مركز الفنون التابع لمكتبة الإسكندرية مجموعة من أفلام يوسف شاهين لتكون ضمن أهم 100 فيلم مصرى روائى طويل، وشكلت أفلام شاهين التي تم اختيارها أكبر قائمة أفلام لمخرج مصري ضمن المائة فيلم.
الدأب والإصرار على النجاح
تميز يوسف شاهين بالدأب والإصرار على النجاح، حيث كان يمتلك شخصية قوية هائلة وجبارة تعرف مسارها بدقة ولم تستسلم لسيادة ذائقة فنية سطحية استهلاكية، فكان حضوره لافتا طوال مسيرته التي حفلت بالعديد من الأفلام الدالة على عظمة إبداعه، وهو ما يؤكد أن الموهبة فقط لا تصنع مبدعا عظيما يملك من الأدوات والحرفية ما يؤهله ليكون مبدعا حقيقيا، دون شرط التمتع بشخصية تملك الدأب والإصرار على النجاح ومواجهة الصعاب.
ويري الكاتب إبراهيم عيسى، أن المخرج يوسف شاهين كان لديه عزيمة وتصميم “ولديه قدرة على التعامل والتحايل مع الواقع والظروف والمتاعب ومنفتح على الغرب ويستفيد منه، وقادرعلى التعامل مع كل الأجيال ومع موظفين وعمال السينما، إضافة إلى أنه كان منظما بشكل كبير”.
شاهين والموسيقى
شكلت الموسيقى والغناء ملمحان أساسيان من ملامح سينما يوسف شاهين، فقد تعامل خلال مسيرته الفنية مع عدد كبير من الملحنين والمطربين، وشارك بشكل مباشر فى اختيار أغانى وموسيقى أفلامه التى تخدم على رؤيته وفكرته للفيلم.
ويعد المطرب محمد منير أكثر المطربين الذين شاركوا فى أفلام شاهين بالغناء والتمثيل، حيث شارك في “حدوتة مصرية – اليوم السادس – المصير”.
ولشغف “شاهين” بالموسيقي لحن بنفسه أغنيتين هما “حدوتة حتتنا” في فيلم “اليوم السادس” والتى قام بأدائها محسن محى الدين، وأغنية “قبل ما” من فيلم “سكوت هنصور” التى غنتها لطيفة، كما كان يحرص شاهين على أن يكون بناء فيلمه السينمائي مليئا بالموسيقي والغناء.
بدايات شاهين الواقعية
يمكن بوضوح رؤية مشوار شاهين السينمائي خلال مرحلتين: إحداهما مرحلة نمو وعيه الاجتماعي، والثانية المرحلة التي ظهر فيها جليا تعمق وعيه السياسي، ثم اتجاهه نحو الذاتية.
وحينما ظهر تيار الواقعية في خمسينات القرنِ الماضي، وكان المخرج الكبير صلاح أبو سيف، أبرز الأوفياء المعبرين عن هذا التيار سينمائيا، وتبنى يوسف شاهين هذا الاتجاه حيث ظهر جليا في أفلامه التي أخرجها أواخر الخمسينات، كما في فيلم “الأرض” الذي أخرجه عام 1969، المثال الأكثر تعبيرا عن هذه الاتجاه فيلم “الاختيار” عام 1970.
وبعد ظهور موجة السينما الجديدة التي كان فرسانها خيري بشارة ومحمد خان وعاطف الطيب، اتجه شاهين إلي البحث عن تجربة سينمائية جديدة فلجأ إلى الغوص في ذاتيته، حيث قدم رباعية سينمائية يتحدث فيها عن نفسه محافظا فيها على العناصر والتيمات السينمائية المشتركة بينه وبين أبناء جيله حيث المشاعر المشتركة والأفكار المتقاربة إلى حد ما فقد كان يعرض في أفلامه الذاتية بشكل ما قصة وطن بتطلعاته وطموحاته، بآلامه وانكساراته، وانتصاراته.
وعبر “جو” عن جيل الأربعينيات المصري الذي عاش توترات الحرب العالمية الثانية، وتأثيرها السياسي علي وعي هذا الجيل، في فيلم “إسكندرية ليه” الذي أخرجه عام 1978 والذي يعد أهم أفلام هذه الرباعية.
وأكمل رباعيته الذاتية في “حدوته مصرية – إسكندرية كمان وكمان – إسكندرية نيويورك”، وهي الرباعية التي لم يستطع مخرج عربي آخر أن يقدم مثيلها من حيث جرأة الشكل والتناول والطرح الذي يصل حد تعرية الذات بشكل شبه كامل، أو التنوع الأسلوبي.
جماليات سينما يوسف شاهين
لم تلتفت مدرسة “السينما الخالصة ” التي تبناها عدد من السينمائيين إلي الموسيقى أو المونتاج أو الحوار بقدر اهتمامهم والتفاتهم إلى الكادر السينمائي وتصميم الصورةِ السينمائية، لكن يوسف شاهين كان مهتما بكل عناصر الصورة السينمائية، وهو ما جعل بنية الفيلم “الشاهيني” مميزة عن أفلام المخرجين الآخرين.
وتميزت أغلب أفلام يوسف شاهين بتصوير العديد من الصراعات النفسية التي استخدم فيها شاهين ببراعة أدوات فنية متعددة، فقد استخدم القطع الحاد، والتقطيع المكثف لإبراز تلك الصراعات، كم وظف الكادرات بشكل فني، ووظف الإضاءة لإيضاح ما تعانيه بعض شخوص أفلامه من أبعاد نفسية كما في فيلم “الاختيار”، كما استخدم الكادرات الواسعة في مقابل الكادرات الضيقة.
ويعد مشهد الوداع في فيلم “اسكندرية ليه ؟” عند الباخرة، بمثابة تحفة بصرية أثبتت صدق اختيار شاهين للمونتيرة العبقرية رشيدة عبدالسلام، كما أن استخدام الحوار التلقائي بشكل مكثف في مشهد الاعتصام في “إسكندرية كمان وكمان” يؤكد ذكاء شاهين عندما يريد أن يستخدم الحوار بقصدية، كما استخدم الرقص والأداء الحركى فى عدة مشاهد.
ويعرف الكثير ممن دخلوا في صداقات مع يوسف شاهين أنه شخصية قلقة متمردة، عقلاني وعاطفي في نفس الوقت، صاحب ابتسامة طفولية وضحكة يبدو منها سخريته من العالم وقوانينه الحاكمة وكل ما يقيد حرية البشر، وهو ما يمكن رؤيته في كل صورة ومشهد من أفلامه حيث انصهرت تلك الروح مع إبداعها السينمائي
تلاميذه
أنجب “جو” عشرات الأبناء الأوفياء، وهم تلاميذه الذين عملوا معه خلال مسيرته الفنية كمساعدين للإخراج بدءا من حسين كمال، وعلى بدرخان، مرورا بداوود عبدالسيد، وعاطف الطيب، ويسرى نصر الله، وخالد الحجر، وخالد يوسف التلميذ الأكثر وفاءً لمعلمه، انتهاءا بساندرا نشأت، ومنال الصيفي.
وفاته
أُصيب نزيف في المخ، ونقل إلى مستشفى الشروق في القاهرة في 16 يونيو عام 2008، ودخل على إثره في غيبوبة، ثم نقله تلميذه وصديقه المخرج خالد يوسف في طائرة خاصة إلى فرنسا للعلاج، لكن خطورة حالته أجبرت الأطباء على ضرورة إعادته إلى القاهرة حيث توفي فجر يوم الأحد في 27 يوليو 2008، في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي، ودفن جثمانه في مقابر الروم الكاثوليك في مدينة الإسكندرية معشوقته الأولي.
اقرأ أيضا
تعليق واحد