في ختام «عمارة البلد».. خبراء ومتخصصون يقدمون الإجابة: ما بدائل الهدم داخل المدينة القديمة؟
ختام حملة عمارة البلد هوية لا تستحق الهدم
تصوير: أحمد طه
ضمن ختام فعاليات حملة «عمارة البلد هوية لا تستحق الهدم» أقيمت، أمس، ندوة بعنوان «تراث المدينة» والتي نظمها موقع «باب مصر» بمبنى قنصلية بالقاهرة.
الندوة التي قدمها الصحفي محمد شعير، رئيس تحرير موقع «باب مصر»، استضافت كلًا من الدكتورة جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني بجامعات باريس، والدكتور عباس الزعفراني، عميد كلية التخطيط العمراني الأسبق، والدكتور مصطفى الصادق، الباحث في تاريخ الجبانات، والدكتورة أمنية عبد البر، المهندسة المعمارية والمرممة.
الدكتورة جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني تحدثت عن بعض المشاهدات بين مدينتي القاهرة وباريس. وتحديدًا القاهرة الخديوية. تقول: “إذا كنا نعتبر أن من بنى القاهرة القديمة أصله «حلواني» إذن فمن بنى القاهرة الخديوية هو في الأصل «فرنساوي». فكثير من أحياء القاهرة الخديوية خططتها مهندسون فرنسيون، كما أن هناك العديد من المهندسين المعماريين الفرنسيين قد ساهموا في معمار المدينة. إذ أشرفوا على عملية تصميم العمارات السكنية في كلًا من باريس والقاهرة. وهذا ما نلاحظه بالنسبة للتشابه بين النمطين المعماريين واللمسات الفنية المستخدمة في باريس والقاهرة”.
تأثيرات متبادلة
وتضيف جليلة: “بسبب هذا التشابه ظهرت العديد من العناصر المعمارية والتأثيرات المتبادلة من مصر القديمة. إذ انعكس ذلك بالفعل على العناصر المعمارية التي تزين الميادين العامة في باريس. بالإضافة إلى انتقال هذه التأثيرات لأسماء الشوارع هناك. فكثير من أسماء الشوارع جرى تسميتها بأسماء مصرية. نجد مثلًا أنه في باريس يوجد ميدان وممر يحملان اسم القاهرة، وشارع باسم «أبو قير» وآخر باسم «النيل». وهذا دليل على وجود تأثيرات متبادلة بين المعماريين الفرنسيين ومدى إعجابهم بمدينة القاهرة خلال تلك الفترة”.
خلق رأي عام مجتمعي
وتكمل: قضية تراث منطقة وسط البلد بالنسبة إليَّ يختلط عادة فيها الذاتي بالموضوعي، وهي تتعدد عبر مستويات متعددة. بداية بالمستوى المعيشي، والمهني، والأكاديمي. فقد حرصت على رصد التغيرات والتطورات التي جرت داخل القاهرة وباريس. إذ أعمل دائمًا على توثيق تراث المدينتين في محاولة مني لخلق رأي عام مجتمعي للحفاظ على هذا التراث. أما على المستوى الأكاديمي والمهني فأعمل على نقل المعرفة وخلق جيل قادر في التعرف على تراثه. أما على المستوى المجتمعي فنشر الوعي بقيمة التراث أصبح ضرورة ملحة في هذه الفترة.
اعتداءات مستمرة
وبخصوص مقترحاتها للقاهرة قالت إن القاهرة الخديوية لابد أن يتم تحسين الفراغ العام داخلها من خلال إنشاء محاور للحركة. فضلًا عن ضرورة إعادة الترام للمدينة، وتشجيع الناس على التنقل والحركة باستخدام الدراجات كونها صديقة للبيئة. كما ينبغي ترميم وإعادة استخدام بعض المباني داخلها. فقد تعرضت وسط البلد في الثلاثين عامًا الأخيرة للعديد من التحولات ففي تسعينيات القرن الماضي بدأت عمليات ترميم للمباني العامة داخل وسط البلد وظهرت اتجاهات حقيقية للحفاظ على المدينة. والفترة ما بين زلزال 1992 وحتى قيام ثورة 2011 يمكن أن نطلق عليها اسم العصر الذهبي للحفاظ على تراث وسط البلد.
لكن ما بعد 2011 فيمكن أن نطلق عليه لفظ «عصر الظلمات». إذ تبدل حال المدينة وسيطر الباعة المتجولون عليها. كما حدث بين عام 2014 و2018 صحوة أخرى في إعادة إحياء المنطقة وتحسين فراغها العام لكن للأسف تعاني المنطقة من عام 2018 وحتى الآن مآساة حقيقية، فقد تبدلت المدينة بشكل كامل، وجرى الاعتداء عليها. وانتشر الباعة الجائلون مرة أخرى داخل شوارعها.
وتكمل «جليلة»: في المقابل فداخل باريس جرى إعادة ترميم وبناء نوتردام في زمن قياسي فنجاح تجربة ترميم نوتردام كان بفضل تحمس الرعاة العالميين. إذ إن هناك الكثير من المؤسسات التي ترعى التراث. هذه المؤسسات موجودة بالفعل في البلدان الأوروبية المتقدمة، منذ عصر النهضة، لأن هناك اهتمامًا كبيرًا بالحفاظ على تراث المدن. كما أن هناك دور مهم يقع على منظمات المجتمع المدني، هذه المنظمات مهمتها هي رصد كافة المخالفات والاعتداءات على التراث. وهذا ما نتمنى أن يحدث أيضًا في السنوات المقبلة داخل القاهرة.
أهمية المناطق الخضراء
الدكتور عباس الزعفراني عميد كلية التخطيط العمراني الأسبق تحدث من جانبه عن أهمية التشجير داخل المدينة قائلًا: “لسنوات طويلة كانت هناك نقاشات مفتوحة حول أهمية الحفاظ على التراث وتعظيم الاستفادة منه لكن فجأة وبدون مقدمات طرحت أسئلة مغايرة حول مدى أهمية الحفاظ على التراث. بل ظهرت الكثير من الأصوات التي تنادي باستبداله بأنماط جديدة”.
ويضيف: في بداية القرن الحالي بدأنا التفكير بشكل جدي في أهمية زيادة المناطق الخضراء الموجودة داخل القاهرة وتشجير شوارعها. لكننا تفاجئنا في السنوات الأخيرة أنه بدلًا من زيادة نسب المساحات الخضراء أنه جرى إزالة الموجود منها واستبدالها بكافيهات. فعندما طرح مشروع القاهرة 2050 صدمت لأنني عرفت أن غرض المشروع هو إزالة الجبانات والمقابر غير المسجلة في الآثار وتحويل أجزاء منها لفراغات عامة ومحاور مرورية. وهذا ما حدث مؤخرًا.
ويكمل «الزعفراني»: خلال عملي في لجنة الجبانات طرحت حلولًا لتحويل المياه الجوفية الموجودة داخل منطقة الجبانات واستخدامها في عمليات ري الأشجار وزيادة جمال المنطقة. لكنني واجهت معارضة من البعض، وهنا قررت الانسحاب من اللجنة وخسرت المعركة لكنني أرضيت ضميري بعدم المشاركة في هذا المشروع.
إعادة التفكير
وعن أهمية التشجير داخل المدينة. يقول: “عمليات التظليل داخل المدينة تساهم في تقليل معدلات درجات الحرارة. كما أن التشجير يلقي بظلاله على المباني، وهو أمر يساعد في تقليل الأحمال على التكييفات داخل المنازل. وهناك حسابات تقول إن فاتورة الكهرباء يمكن أن تنخفض بمعدل من 50 إلى 100 جنيه شهريًا إذا تواجد الشجر أمام العمارات. وبالتالي قد لا نكون مضطرين لتخفيف الأحمال. كما أن زراعة الأشجار المثمرة داخل العمران نقطة كارثية”.
هذه الثمار يتم تلويثها بسبب انتشار عوادم السيارات، فضلًا عن فرص إصابة السكان بسبب محاولات رمي وقطف الثمار من جانب السكان والمارة بطرق عشوائية. قد ينتج عنها إصابات خطيرة. لذلك يمكن توفير أشجار منتجة للأخشاب داخل المدينة. فضلًا عن أن تشجير المدينة يساهم في توفير المليارات. فالقاهرة تعاني من ظاهرة تسمى بالـ«جزر الحرارية» وهي ظاهرة ينتج عنها زيادة في معدلات درجات الحرارة في الصيف داخل القاهرة عن محيطها بنحو 6 درجات مئوية كاملة. وهي أمور تدفعنا جميعًا لإعادة التفكير في تشجير المدن مرة أخرى.
محاولات توثيق
الدكتور مصطفى الصادق المهتم بتاريخ وتوثيق الجبانات تحدث من جانبه عن تنوع الأنماط المعمارية داخل جبانات القاهرة. إذ رصد خلال الندوة عمليات الهدم التي جرت داخل منطقة المقابر خلال السنوات الأخيرة. يقول: “لم يعطونا أي فرصة لتوثيق هذه المدافن من الداخل فقد تبنوا الهدم ومنعوا أي محاولة للتوثيق. والمشكلة أنه يتم عادة رفض أي عملية تسجيل لهذه المقابر في الآثار رغم أن قانون الآثار لعام 1983 يجيز تسجيل الرفات البشرية”.
ويكمل «الصادق»: على أرض الواقع فهذا لم يحدث. فخلال عام 2020 بدأت عمليات إنشاء محور جيهان السادات، وخسرنا في المقابل العديد من المقابر الهامة مثل مقبرة عالم الآثار عليّ بك بهجت، ومدفن الفنان أحمد عبد القدوس، وإحسان عبد القدوس. وفي عام 2021 تم البدء في عمليات تطوير صلاح سالم من محور جيهان السادات وحتى الفسطاط بطول 6 كيلو مترات. حيث جرى تحويل المنطقة لمنفعة عامة ومنها جبانات المجاورين، وباب الوزير، وسيدي جلال، وسيدي عمر، والطحاوية، والسيدة نفيسة، والإمام الشافعي!
ويضيف: يمكن الاستفادة من منطقة الجبانات بدلًا من هدمها. فقد تم حذف العديد من المقابر ذات الطراز المعماري مميز خلال الفترة الأخيرة تمهيدًا لهدمها. وبالفعل تم تسوية العديد من المقابر والأحواش وتسويتها بالأرض، وهذه المناطق تنتظر الهدم خلال الفترة المقبلة!
عمليات صعبة
الدكتورة أمينة عبد البر المهندسة المعمارية تحدثت عن بداية تعاملها مع المدينة القديمة والتي بدأت في عام 2003. تقول: “دائمًا ما كنا نعمل على المباني المسجلة في عداد الآثار من خلال المنح الدولية المعنية بحماية التراث وتوثيقه. لكن بشكل عام فعملية الحفاظ على التراث المسجل معقدة وصعبة وتحتاج لكثير من الجهد. لأننا كمجتمع مدني لا تقدم لنا سوى المنح الدولية. وقد استطعنا من خلال المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث إقناع وزارة الآثار بتوفير مبنى أثري. وهو بيت الرزاز بهدف إعادة استخدامه مرة أخرى. هذا البيت الذي بناه السلطان قايتباي في أواخر القرن الـ15، وخلال عام 2020 فكرنا في ترميم المنزل بعد انهيار أجزاء منه”.
وتكمل «أمنية»: رغم أنه يوجد داخل المدينة العديد من المباني التراثية القديمة إلا أنه يمكن إعادة التفكير في استخدامها واستغلالها بصورة جيدة والتفكير في طرق لجذب السكان المحليين. فهذه المناطق التاريخية تحمل قيمة مضاعفة؛ لذلك يجب إعادة التفكير والاستفادة من هذه المنازل.
اقرأ أيضا:
«دوريس أبو سيف» في القاهرة.. عن الفن الضائع والمدينة التي تأكل نفسها
عن السينما والفن وتوثيق المدينة في ختام حملة «عمارة البلد»
ننشر الصور الفائزة في مسابقة التصوير في ختام حملة «عمارة البلد»