عندما صرخت نعمات أحمد فؤاد: جريمة فوق هضبة الهرم
وقائع معركة حدثت منذ 46 عاما..وانتصرت فيها الصحافة
كان عام 1977 حافلا بكافة الأحداث في مصر. فقد بدأ بانتفاضة الخبز في يناير والتي أطلق عليها النظام انتفاضة الحرامية، وفي منتصف العام اختطفت الجماعات الإرهابية الشيخ الذهبي. وقد انتهت عملية الاختطاف بقتله في مأساة عكست حجم ما وصل إليه النظام وقتها، وانتهى العام بزيارة السادات لإسرائيل فيما عرفت تلك الزيارة بالمبادرة.
الشيخ الذهبي
وفي شهر يوليو 1977 وتحديدا في السادس من يوليو وفي ظل انشغال الشعب المصري بتداعيات اختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف. كتبت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد (1924-2016) كلمة قصيرة في جريدة الأهرام بعنوان “مدينة سياحية عند الهرم” تقول فيها: “كثر الحديث عن القرى السياحية، والمدن السياحية وهو حديث طال شوقنا إليه. بما نملك من كنوز للتاريخ وكنوز الطبيعة على هذه الأرض. ولكن هذا لا يعني أن يفكر أحد في بناء هرم زجاجي عند الهرم أو هرم آخر من أي نوع وحجم. لا يعني أن تدك الحفارات الأرض حول الهرم أو على مقربة منه وتعرضه للخطر، لا يعني أن يدك صخب المدن السياحية الصمت الجليل المشحون بالرؤى والمعاني في الهضبة التي تحج إليها الدنيا.
أن أصحاب الأموال غير أصحاب الحضارة. ولهذا لا يدخل في حسابهم التاريخ ونفائسه وعمر هذه الأمة ورحلتها الطويلة عبر الزمان. لقد غضبت الصحف الفرنسية لما يحاك لهرمنا من أفكار تمس حرمته وتشوه طابعه وطابع المكان حوله وهو جزء منه. كان “بتري” رجل الآثار الإنجليزي يعلم عمال الحفر في مدينة قفط أن ينقبوا عن الآثار بالمنفاخ ليكشفوا التراب عن أرض الكنوز بنفخة هوا أو نفحة هوى.
فمن القسوة في رأيه التعامل مع هذه الأرض النفيسة بضربة معول. ترى كيف تكون نظرة الدنيا إلينا إذا تركنا الحفارات والمدكات تمتهن الهرم باسم الانفتاح والفندقة؟”.
الطلقة الأولى
كانت تلك الكلمة القصيرة التي لم تتعد المائة والستون كلمة بمثابة الطلقة الأولى لمعركة كبيرة اشتعلت لمدة غيرة قصيرة. وقد كتبت الدكتورة نعمات فؤاد كلمتها القصيرة بعد أن زعمت وزارة السياحة أن هضبة الأهرامات ليست إلا مالا خاصا للدولة. مثلها في ذلك مثل منطقة رأس الحكمة. وعلى أساس هذا الزعم استصدرت وزارة السياحة قرارا من رئيس الجمهورية بتخصيص عشرة آلاف فدان من هضبة الأهرامات وعشرين ألف فدان من منطقة رأس الحكمة للاستغلال السياحي.
تساؤلات بلا أجوبة
على أثر هذه الكلمات اتصل فورا رئيس مجلس إدارة شركة مصر لتنمية السياحة بالدكتورة نعمات فؤاد. راجيا منها أن ترى المشروع على الطبيعة علها تغير رأيها. وبالفعل تم تحديد الموعد وذهبت إلى مقر الشركة لاستقصاء الحقيقة على أرضها. ومضت تتصفح الكتالوج لتفاجئ أن المباني ستكون على الطراز الأندلسي وتساءلت:
– كيف يقوم طراز أندلسي إلى جانب الطراز الفرعوني؟
– هل وافقت هيئة الآثار على قيام مجمع سكاني ومدينة سكنية في هذا الحرم؟
– هل الذي وافقت عليه هيئة الآثار مشروع سياحي أم مشروع إسكاني؟
– كيف يصبح الصمت الجليل المشحون بالرؤى مكانا للصخب واللهو الليلي بعد قيام المدينة السكنية؟
– هل مباني المشروع تتداخل في خط الرؤية عند التصوير الجوي للهرم؟
أسئلة كثيرة لم تتلق عليها جوابا مباشرا. بل وصل الأمر للتهديد والتلميح بأن الطراز الأندلسي الذي لم يعجبها سوف يبنى على نسقه قصرا كبيرا فخم يتوسط المشروع وسيكون قصر الدولة!!
بعد أربع ساعات من النقاش غادرتهم الدكتورة نعمات أحمد فؤاد وهي أكثر إصرارا على معارضة المشروع.
هضبة الأهرام
وفي اليوم التالي للزيارة الموافق 13 يوليو 1977 كانت صحيفة الأخبار -وللمفارقة- تكتب عنوانا في الصفحة الأولى يقول “أخطر مؤامرة تخريب عرفها تاريخ مصر”. ولكن لم تكن قضية هضبة الأهرام هي المقصودة فقد كان العنوان يقصد مخططات الجماعات الإرهابية التي اختطفت الشيخ الذهبي. وكتبت الدكتورة نعمات في نفس العدد مقالها الثاني في صفحة الرأي للشعب وكان المقال بعنوان “أرفعوا أيديكم عن هضبة الأهرام”.
كتبت فيه: “لقد فجع المثقفون في مصر والعالم المتمدين حين أذيع نبأ إزماع إقامة مدينة سياحية على هضبة الأهرام. نحن نتمنى عشرات المدن السياحية وفي الصحراء بالذات وخاصة العواصم ولتشيع الحياة في الصحراء المصرية لتخدم كل شبر من الأرض. أنه هدف وواجب وحق ولكن هضبة الأهرام لا.. لأكثر من سبب وأكثر من اعتبار”.
وراحت الدكتورة نعمات فؤاد تعدد في مقالها أسبابها الوجيهة للاعتراض ومن تلك الأسباب: “أن هضبة الأهرام ليست ملكا لشركة أو محافظة أو وزارة. بل هي ملك للهرم وللتاريخ وللحضارة الإنسانية. ملك للأمة بأجيالها الماضية والحاضرة والمستقبلية فلا يملك أحد كائنا من كان أن يبيع ويشتري في هذا الحرم التاريخي المصري. وأن الأمم الكبيرة تحرص على قديمها فلا يسمح بقيام الحديث إلى جوار القديم ذي الطابع الخاص. وأن دخول الحفارات لمنطقة الأهرام يستشعر تأثيرها على البعد بما تخلفه من اهتزازات دقيقة لها خطر على المدى الطويل. وكذلك وجود المبدأ في حد ذاته خطير فالمباني وإذا توخت البعد اليوم فلا ندري غدا من يروق له الاقتراب بالبناء من الهرم أو التسلق عليه”.
وتستشهد بمقولة للدكتور محمود فوزي: “أننا بحاجة في موجة الانفتاح إلى استيراد الخجل نغطي به وجوهنا لبيع الآثار مرة وتشويه الهرم مرة أخرى”.
قناة سويس أخرى
وتواصل الدكتورة نعمات أحمد فؤاد كتابة مقالاتها في صحيفة الأخبار. وفي يوم 11 أغسطس تكتب مقالا بعنوان “هضبة الأهرام قناة سويس أخرى امتيازها 99 سنة!!”.
كتبت فيه: هضبة الأهرام المزمع إقامة مدينة سياحية عليها تؤرق الآن الإنسان المصري المدرك لكارثة شركة قناة السويس وقت إنشائها والإجحاف الذي لحق بمصر من شروطها. وعلى الشعب صاحب الأرض أن يناقش الدقائق حضاريا أولا. ووطنيا ثم جغرافيا. ولا أقول سياحيا لأني أرفض رفضا كاملا الفندقة في حرم الأهرام.
وتتابع الدكتورة نعمات سرد الحقائق المفزعة أمام القارئ. وأولى تلك الحقائق أن الشركة قد حصلت على حق انتفاع بمساحة قدرها أربعة آلاف فدان في هضبة الأهرام. وتؤكد على أن البلاد العربية الشقيقة لا تسمح بامتلاك متر واحد من الأرض للغرباء فما بالكم من أربعة آلاف فدان. وتختتم حديثها بأن امتياز 99 سنة هو بيع مقنع ومعناه ثلاثة أجيال ينظرون ويتمزقون حسرات كما حدث من أجل القناة.
الصفقة
“لو قابلت إنسان وأخبرك أن خمسة آلاف فدان أي واحد وعشرين مليون متر تباع في قفر أو صحراء جرداء بسعر المتر 23 مليما. وفي الربع الأخير من القرن العشرين وبعد أن ارتفع كل شيء في الدنيا أضعافا بعد حرب أكتوبر. لو قابلت إنسان وألقى إليك هذا الخبر هل كنت تصدقه؟ هل كنت تغضب منه لأنه يسخر أو يستخف؟ ما رأيك أن هذا الخبر صحيح. بل أدهى من هذا وأمر أن الصفقة هي هضبة الأهرام. ثلاثة أفراد كنديون هم بيتر مونك ودافيد جيلمور وجرين سيلد، أسسوا شركة باسم “شركة جنوب الباسفيك”. وجاءوا مصر وقد خططوا لاقتناص هضبة الأهرام وشاطئ رأس الحكمة. وجعلوا رئيس مجلس إدارة الشركة “الدكتور صلاح عبدالوهاب” وهو وكيل وزارة السياحة الذي يحمي المصالح المصري أو المفروض كذلك”.
هكذا تحدثت الدكتور نعمات أحمد فؤاد عن أبطال الصفقة المشبوهة. وفي نفس الوقت تنشر صحيفة الأهرام خبرا عن أن محافظة الجيزة تعتزم إنفاق أربعة ملايين جنيه لتوصيل مرافق المياه والصرف والكهرباء للمدينة السياحية على هضبة الهرم. المحافظة تصرف على المرافق لمدينة “بيترمونك” مع أن العقد يلزم الشركة بالمرافق وبرغم أيضا أن محافظة الجيزة بها مناطق أولى بتلك المرافق مثل إمبابة وغيرها. وتنشر الدكتورة نعمات ما كتبت المجلة الكندية الاقتصادية عن بيتر مونك:
.”Munk was the first man to be given cart blanche to trifle with the pyramids”
“بيتر مونك أول رجل يعطى تفويضا على بياض كي يعبث بالأهرام”.
إنهم يبيعون الهرم
بعد توالي مقالات الدكتورة نعمات، كتب الدكتور جمال الدين محمد مرسي مقالا بجريدة الأخبار عنوانه “انهم يبيعون الهرم.. جريمة فوق الهضبة يجب أن تتوقف”. كان المقال ناريا صارخا في وجه كل من يحاول الاشتراك في هذه الجريمة فكتب: “هنا في مصر يبيعون الهرم، يبيعون أرضه ومحرابه، يبيعون هضبته ومعبده، يبيعون متعلقات أعظم أثر حضاري في العالم على الإطلاق. هنا يقتحمون على الهرم عزلته ويضيقون عليه الخناق، هنا يبيعون هضبة الأهرام لشركة سياحية أجنبية مشتركة. أن هضبة الأهرام جزء من الهرم ذاته، فالهرم لم يتم بناؤه على هذه الهضبة عبثا أو لهوا ويجب أن يظل كل ما حول الهرم فارغا صامتا خاليا. حتى تظل القدسية الحضارية متمثلة في هذا المعبد القديم العتيد وحتى لا يعكر صفو هذا المحراب أي لهو أو عبث”.
ويستمر الدكتور جمال مرسي في مقاله وملمحا بشكل صريح إلى ضلوع النظام القائم في تلك الجريمة فيكتب: “أن الانفتاح لم يشرع ليكون غرضه الأساسي أن تمتلئ جيوب الأجانب بالذهب بغض النظر عن الأضرار التي قد تلحق بمصر. أن هضبة الأهرام ليست ملكا لموظف غافل أو عزبة يتصرف فيها. ولكنها ملك لمصر وأجيال مصر وتاريخ مصر وأقولها بأعلى صوتي أوقفوا هذه الجريمة”.
هل يعلم مجلس الشعب بما يجرى؟
وفي يوم 29 أغسطس1977 تكتب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد مقالها الرابع بعنوان “هل يعلم مجلس الشعب بما يجري فوق هضبة الأهرام؟”. تستنكر في المقال ظهور إعلانات عن المشروع في صحف بيروت مثل مجلة الحوادث البيروتية. وتتساءل: “إن الإعلان في بيروت له معان كثيرة، هل هو هروب من مصر؟ هل هو تحايل على ركن العلانية؟ من في بيروت يهمه الأمر؟ اللهم إلا هواة امتلاك الشقق الأندلسية. ما علاقة بيروت بالموضوع؟ أم في أرض مصر؟ هل الموضوع حضاري أم تجاري، مصري أم بيروتي؟ وفي نهاية المقال توجه حديثها إلى مؤسسات الدولة:
يا مجلس الشعب هذه قضية القضايا
الرقابة الإدارية
يا ديوان المحاسبة
أدركوا مصر..
يا وزارة الداخلية دعك من لصوص الملاليم أو حتى الخزائن. أن هرم مصر وتاريخها يسرق الآن في الظلام أو في وضح النهار.
ليس انفتاحا بل انذباحا
ليس انفتاحا بل هاوية
تقسم أرضنا وتباع في الخارج؟
أين نعيش بل لماذا نعيش؟
أنه أشد فداحة من جميع ألوان الاستعمار.
رد وزارة السياحة
بعد الضغط الإعلامي الذي تسبب فيه مقالات الدكتورة نعمات فؤاد كان لابد من رد رسميا من وزارة السياحة. وبالفعل أرسل المهندس”محب رمزي ستينو” وزير السياحة بيانا ينشر في صحيفة الأخبار في نفس المكان الذي تنشر فيه الدكتورة نعمات فؤاد مقالاتها. ونشر في الرابع من سبتمبر 1977 ولم يأت البيان بجديد ولم ينكر وقائع. بل كان التركيز الأكبر على الأرباح المزعومة التي ستجنيها مصر من امتياز مدته 99 سنة.
ولم ينكر أن المشروع سكنيا بجانب كونه سياحيا، ولم ينكر سوى أن المباني ليس لها علاقة بالطراز الأندلسي وترد الدكتورة نعمات على البيان ردا سريعا في السابع من سبتمبر بمقال بعنوان: “هذا العقد يجب إلغاؤه بعد هذا الانحراف من السياحة إلى السكان”. تفند في المقال كل حرف كتبه الوزير وتنشر إعلانا مصورا عن المشروع نشر في مجلة المصور يثبت بالصور أن المباني على الطراز الأندلسي.
اكتشاف آثار فوق هضبة الأهرام
كان القدر كريما أيضا مع حملة الدكتورة نعمات فؤاد. فبعد شهرين من حملتها نشرت جريدة الأهرام في صفحتها الأولى يوم 15نوفمبر 1977 خبر اكتشاف آثار فرعونية خلال الحفر في هضبة الأهرام. ويقول الخبر أثناء قيام شركة هضبة الأهرام بأعمال الحفر بالبلدوزر لتمهيد الأرض لبناء فنادق وقرى سياحية على الأرض التي خصصتها الدولة للشركة. تم اكتشاف مجموعة من الآثار منها مقابر فرعونية ترجع إلى عهد الأسرة السادسة والعشرين. وبذلك قرر محافظ الجيزة وقف العمل في هذه المنطقة وتشكيل لجنة لتقييم الآثار المكتشفة. ويدخل الفنان صلاح جاهين أرض المعركة ويساهم برسوماته بالضغط على الدولة فيرسم رجلين منهما سائق البلدوزر الذي حطم الآثار وهو يقول: “وأنا كنت ح اشم على ضهر أيدي أن منطقة الهرم فيها آثار؟”.
اللجوء إلى القضاء
لجأت الشركة لرفع دعوى قضائية ضد الدكتورة نعمات فؤاد وضد جريدة الأخبار التي نشرت فيها المقالات. مدعية أنها أساءت إلى سمعتها وطالبت الشركة بتعويض قدره 51 جنيها. وكانت المرة الأولى التي مثلت فيها الدكتورة نعمات أمام القضاء وتطوع للدفاع عنها كثيرون من رجال القانون ورفعت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد قضية أمام مجلس الدولة ضد الشركة. وتضامن معها الأستاذ الدكتور حلمي مراد عضو مجلس الشعب، والدكتور أحمد جامع، والدكتور جمال الدين محمد مرسي، والأستاذ أحمد حسين المحامي ورئيس حزب مصر الفتاة سابقا. كما قدم المستشار ممتاز نصار عضو مجلس الشعب استجوابا عن هضبة الأهرام.
ووقف وراء القضية الأستاذ مصطفى مرعي ووضع خطوط الدفاع مع الدكتور محمد عصفور الذي أعد عريضة الدعوى وحمل عبء الدفاع القانوني وصياغة مذكرات الدفاع.
وقامت الحكومة بإلغاء المشروع وإنهاء العقد بين الطرفين دون الرجوع للطرف الآخر لتنقل الشركة الأجنبية القضية للتحكيم الدولي. وبعد مراحل طويلة من النزاع تغرم مصر مبلغ 27 مليون دولار كتعويض للشركة.