«عزالدين نجيب».. سيرة راعي الثقافة الثائر من وحي مذكراته
«عزالدين نجيب واحد من جيل المثقفين المصريين الذين ولدوا على مشارف الحرب الثانية. وكان عليهم أن يصطدموا في بداياته اليافعة بواقع يمتلئ بالأحلام الوردية، ثم يختم بالإجهاض الشرس والقاسي. ليس صدفة إذا عرف هذا الجيل المعتقلات والسجون والمنافي، وبرغم هذا قال كلمته ببسالة نادرة وتحمل فوق طاقته ودفع ثمن إخلاصه بما يؤمن به».
بهذه الكلمات لخص الكاتب الراحل صلاح عيسى في مقاله “المثقف في أتون الصراع” مسيرة الفنان التشكيلي والأديب والناقد عزالدين نجيب، الذي غيبه الموت، الجمعة الماضية، عن عمر ناهز 83 عاما بعد صراع مع المرض.
سيرة فنان وناقد وأديب
ولد عزالدين نجيب في 30 إبريل 1940 في مشتول السوق بمحافظة الشرقية، في أسرة تعمل في مجال التعليم والزراعة. تخصص في التصوير الزيتي ودرس في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة بين عامي 1958 و1962. نشر قصصه القصيرة في جريدة المساء وشارك في نقاشات ومناقشات أدبية وفنية في رابطة الأدب الحديث ونادي القصة. ثم اشتهر بأعماله التشكيلية المميزة والمتنوعة، حيث استخدم تقنيات الرسم الزيتي ببراعة وابتكار.
عكست لوحاته تجربته الشخصية ورؤيته الفنية للعالم من حوله. بدءا من أول معرض له عام 1964 بقصر الأنفوشي. كما كتب العديد من المقالات والمقالات النقدية التي تناولت قضايا الفن والثقافة وأثرت في المشهد الفني والثقافي في العالم العربي.
بدأت مسيرته بتخصصه في الفن التشكيلي، وأصبح واحدا من الرعيل الأول الذي أسهم في إرساء قواعد وأسس الثقافة الجماهيرية، وكان من مجموعة الرواد الذين أشرفوا على أول خمسة قصور للثقافة في مصر في منتصف الستينيات.
المثقف في أتون الصراع
أسس قصر ثقافة كفر الشيخ في الفترة من عام 1966 إلى عام 1968، وتم تعيينه كمدير للقصر. في عام 1968 وحتى عام 1976، تم تعيينه مديرًا لقصر المسافر خانه ومراسم الفنانين في حي الجمالية بالقاهرة.
شهدت تلك الفترة صدامه الشهير مع الجهات الثقافية والأمنية، الذي انتهى بتدمير مرسمه ولوحاته وفصله من وظيفته. في عام 1979، عاد إلى عمله بناءً على قرار قضائي. ثم أسس مركز الجرافيك في وكالة الغوري، وتولى المراقبة العامة للجرافيك وصب البرونز. لم تتوقف جهوده عند هذا الحد، حيث أسس مجمع الفنون في مدينة 15 مايو وتم تعيينه مديرًا عامًا للمجمع.
ورغم جهوده الفنية والثقافية، لكنه دخل السجن أكثر من مرة على مدار ما يزيد عن 10 سنوات. ووجد عزالدين نجيب في الزنزانة تجربة ملهمة أكثر من خارجها، حياة أخرى، رغم ظلمتها لكنها ألهمته لرسم العديد من اللوحات بعد خروجه معبرا فيها عما مر به خلال مرات سجنه.
بدأت علاقته بالزنزانة في مطلع يناير 1972، اشترى نجيب كتبا من معرض القاهرة الدولي للكتاب، وأتى بها إلى مرسمه بقصر المسافر خانة، قبل أن ينقلها إلى منزله فيما بعد.
ساعده عم بدير – خفير الآثار – في حمل الكتب، ثم تفاجئ بوجود ضيوف، واتضح أنهم مباحث، دار في ذهنه عدد من الأحداث السابقة، مثل مظاهرات طلبة الجامعات، واعتصام الطلاب، وانتهى لقاء الضيوف بذهابهم معه إلى منزله وتفتيشه وضبط عدد من الكتب الأدبية البعيدة عن السياسة ثم سجنه.
وجد في السجن عامل تفجير لطاقة المقاومة، وتحرير الأرواح. وبحسب كتابه “رسوم الزنزانة” الصادر عن هيئة قصور الثقافة، سرد نجيب التجارب القاسية والملهمة في الوقت نفسه.
السجن.. تجربة ملهمة وصداقة العمر
ومن السجن انطلقت صداقات استمرت طوال العمر. وبدأت صداقة عزالدين نجيب وصلاح عيسى بين جدران السجن بليمان طرة، في الستينيات، التقيا أكثر من مرة وبدء الحديث بينهما في ليلة باردة، بدد حديثهما وحشة السجن.
كذلك صداقة نجيب بالشاعر والكاتب الراحل حلمي سالم، الذي عرفه لأول مرة في سجن القلعة عام 1972. وتم حبسهما بسبب الاشتراك في الحركة الطلابية المصرية. كان سالم في زنزانة كمال خليل. وكان معهم ثمانية من المثقفين من بينهم الشيخ إمام، واحمد فؤاد نجم، وصلاح عيسى، ومهدي الحسيني، ومنذ تلك اللحظة نمت صداقة قوية بينهم.
ويقول حلمي سالم في مقاله “واحة عز” المنشور بكتاب “الكلمة.. الريشة.. الموقف” لعزالدين نجيب: زار سالم مرسم عزالدين بالمسافر خانة، ووكالة الغوري، وكتب عن لوحاته قصيدة أسماها “تحولات الضوء والظل” عام 1975. ووصفه: “كان دائما عزالدين يدفع ثمن صلابته وثمن انتمائه غير الملوث”. رغم تعدد وصفه بين الفنان والأديب والناقد، أحب عزالدين صفة الفنان، بحسب حوار قديم مع عزة مشالي.
مسار وطموح
لم تؤثر مرات السجن على شغفه بالفنون والأدب، لكن نظر إليها من منظور مختلف. وعلى حد وصفه في كتاب “رسوم الزنزانة” غيرت تجربة ليمان طره حياته، ومسار طموحه ومستقبله. ورأى أن الدرجات العلمية الأكاديمية باتت شكلا فارغا. وذلك بالتزامن مع إلقاء القبض عليه قبل عقد امتحان دبلوم الدراسات العليا بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة بعدما أمضى عاما للدراسة.
وعقد امتحان خاص به بمفرده بعد خروجه من السجن وجاء ترتيبه الأول على الدفعة. لكن بعدها ألقى بفكرة الدراسات العليا خلف ظهره، وانغمس بقوة في الإنتاج الفني والأدبي والنقدي بجانب العمل.
راعي الفنون
ومن عام 1992 إلى عام 1999، أسس الإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية في وزارة الثقافة. وتم تعيينه مديرًا عامًا لهذه الإدارة، وكذلك تم تعيينه وكيلا للوزارة في نفس المجال. بالإضافة إلى ذلك، في الفترة من عام 1994 إلى عام 2000، أسس وترأس مجلس إدارة جمعية “أصالة” التي تهدف إلى رعاية الفنون التراثية والمعاصرة.
في عام 2000، صدر قرار من وزير الثقافة يعينه رئيسا للإدارة المركزية لمراكز الإنتاج الفني قبل أن يتقاعد في نفس العام. وشارك في أكثر من معرضا دوليا بمختلف دول العالم، ومن بينها العراق، تونس، الإمارات، الكويت، فرنسا، ألمانيا، يوغسلافيا، إيطاليا، روسيا، اليونان، قبرص، المجر، بلغاريا.
وحصل على جوائز من وزارة الثقافة في التصوير الزيتي. واقتنى متحف الفن الحديث بالقاهرة 30 لوحة من أعماله من كافة مراحله الفنية. وواحدة من أعماله بمتحف نيودلهي، واقتنى المتحف العربي للفن الحديث 4 من لوحاته. كما نشر مقالاته النقدية في عدد من الصحف المصرية والعربية، ومن بينها، روزاليوسف، المنار، الهلال، الحياة الدولية، اليوم السعودية، العربي الكويتية، دبي الثقافية، عالم اليوم، صوت الكويت، الأهالي، أدب ونقد، أخبار الأدب، القاهرة، الوفد.
وصدر له العديد من المؤلفات النقدية، من بينها كتاب “فجر التصوير المصري الحديث”، وموسوعة الفنون التشكيلية، والأنامل الذهبية، وستائر الضوء، وفنانون وشهداء، والتوجه الاجتماعي للفنان المصري المعاصر. وأنشودة الحجر 1999، والإبداع والثورة وغيرها.
بالإضافة إلى المؤلفات الأدبية، من بينها، المجموعات القصصية عيش وملح، والمثلث الفيروزي، وأغنية الدمية، ومشهد من وراء السور، ونقطة صغيرة قرب السماء، ونداء الواحة، وروايات المسافر خانة، ودبيب العقرب، والصامتون، وأعماله الأكثر شهرة “مواسم السجن والأزهار”، و”الكلمة.. الريشة.. الموقف”، و”رسوم الزنزانة”.
اقرأ أيضا:
نهاية قرية الفخارين بالفسطاط.. تاريخ يُمحَى بدون قرار رسمي