«طبيخ الصعايدة».. مطبخ «ما قبل الحداثة» في صعيد مصر
يتناول الشاعر والكاتب درويش الأسيوطي في كتابه «طبيخ الصعايدة»، الذي صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطعام وأنماط التغذية الشعبية في صعيد مصر الأوسط. يتكون الكتاب من ثلاثة فصول الأول منها يستعرض الطعام في التراث الشعبي، والثاني يتناول الموسمية والادخار وتخزين الحبوب، أما الفصل الثالث فيتطرق فيه لأنواع ووصفات مختلفة من طبيخ الصعايدة وأدوات المطبخ.
النمط الغذائي
التغيرات الاجتماعية والثقافية للصعيد مع بداية القرن العشرين كانت الدافع الأساسي لكتابة الأسيوطي هذا الكتاب، حيث أصبح سكان القرى من المزارعين فقط، بعد أن أتاح لهم التعليم والتصنيع الفرصة أمام أبناءهم امتهان مهن أخرى، فصار منهم المعلمون والأطباء، والمهندسون والمحامون، وغير ذلك من المهن، إضافة إلى ما حدث لهم من تأثيرات خارجية بسبب اختلاطهم بالأجانب، وهو ما أحدث تغيرات في القيم والعادات والتقاليد وأنماط الحياة المختلفة، ودخول العديد من الطبخات والأطعمة غير المصرية، والذي كان من نتائجه اختفاء بعض الأكلات والوصفات المصرية.
كما يتناول الأسيوطي منطقة صعيد مصر الأوسط التي تضم ثلاث محافظات هامة هم: المنيا وأسيوط وسوهاج، والتي تشكل إقليما تراثيا واحدًا، وهو أكثر مناطق مصر فقرًا، ما جعل سكان الصعيد غير شرهين للطعام، ويكتفون منه على مائدتهم بصنف واحد أو صنفين عند استقبال الضيوف أو على موائد الإفطار في رمضان والمناسبات كالأعياد، وقد اعتمدوا في توفير طعامهم حتى منتصف القرن العشرين على ما يزرعون، وما يتوفر في بيئتهم من طيور وحيوانات وأسماك، وحبوب وخضروات.
الفصل الأول
يتناول الفصل الأول من كتاب “طبيخ الصعايدة” الطعام في التراث الشعبي، مستعرضًا لبعض الأمثال الشعبية التي تم ذكر الطعام فيها ومنها:
مِنْ كَلْ عِيشْ الْكَافِرْ.. حَارَبْ بِسِيفُه
وهو مثل يدلل على أن من اعتمد على الآخر في متطلبات حياته ومنها الطعام سوف يحارب معه وبطريقته، إما مضطرا أو من باب الواجب، حيث إن المصري لا يخون ولا يخدع من أكل معه العيش ولو بالملح.
اللِّي يِسْتَنَّى وَكْلْ غِيرُه.. ياطُولْ جُوعُه
يحث هذا المثل على العمل والاجتهاد من أجل توفير الاحتياجات الأساسية ولا ينتظر الفرد غيره كي يقوم بذلك نيابة عنه حتى لا يتعرض للجوع.
فَرِّقُوهْ يِفُوحْ.. كُلُوهْ يِرُوحْ
ويشير المثل إلى أهمية التآذر والتكافل، و أن ما يؤكل من الطعام هو ما يضيع و لا يبقى له أثر، أما ما يبقى فهو ما نعطيه للآخرين.
يا مِشْتَهِينُهْ بِدَلْ مَا تْفَرِّقُوهْ.. أقْعُدُوا جَنْبْ الْحِيطْ وكْلُوهْ
يحث المثل على من يشتهي ما بيده من الطعام أن يشبع حاجته أولا قبل أن يخرجه كصدقة لغيره من الفقراء، أو هدية للأصدقاء.
ولأن الخبز هو الطعام الرئيسي في الصعيد فيكثر وروده في الأمثال الشعبية، وعادة ما تعبر الأمثال عنه بلفظة (العيش) ومن أهم الخطوات التي يستخدمها المصري في صنع العيش هي غربلة الغلة والحبوب والمقصود منها استخراج الحصوات الطينية منها، ويستخدم فيها “الغربال” وهو ما أتى ذكره في الكثير من الأمثال:
الْبَحْرْ.. غِرْبَالْ الْخَايْبِهْ
وهنا يحث المثل السيدات التي لا يجدن استخدام الغربال أن يذهبن للبحر والمقصود به النيل، حيث تقوم السيدات بوضع الحبوب في مقاطف من سعف النخيل، ويترك في الماء الذي يقوم بإذابة الحصوات الطينية.
مِنْ حَمَدْ الله على النِّخَالِهْ.. بَارَكْ لُه فِي الدَّقِيقْ
يدعو المثل للقناعة وأن في حمد الله على القليل يزيد من بركة الشئ.
اللِّي ع يَاكُلْ فِ عِيشْ غِيرُه.. سِنَانُه مِنْ حَدِيدْ
يطالب المثل الشخص إذا ما كان ضيفا عند أحد، أن يأكل دون شره، وإذا حكم في أموال الناس أن يتعفف ولا يأكل منها إلا بالحق.
كُلْ عِيشْ حَبِيبَكْ تُسُرُّهْ.. وكُلْ عِيشْ عَدُوَّكْ تُضُرُّهْ
يشير المثل إلى أن من يحبك يسره أن يطعمك، أما عدوك فيرى في طعامك مضره له.
قَالْ إيه أحْلَى م العَسَلْ.. قَالْ الْمِشْ اللِّي بِبَلاَشْ
ليس هناك أحلى ولا أفضل من العسل، لكن المثل يدلل على أن المش المجاني الذي لا يكلف الفقير شيئا هو بالتأكيد عند الفلاح أحلى وألذ من العسل.
الفصل الثاني
يتناول الأسيوطي في هذا الفصل كيف لجأ المصريين إلى تخزين الغلال والحبوب التي تعتمد في الأساس على المواسم الزراعية حسب المناخ، واستخدامها فيما بعد في غير موسمها حيث تستخدم في الطعام وإطعام الحيوانات والطيور أيضًا، أو كتقاوي زراعية للموسم الزراعي الجديد، أو لبيعها في غير موسمها حيث تزيد أسعارها، وتتم عملية تخزين تلك الحبوب في مكان جاف، يكون بعيدا عن متناول الطيور والحشرات والقوارض، وبمعزل عن التلوث والعطن، ويتم التخزين فيما يعرف بالصوامع جمع صومعة والخوابي جمع خابية، والحواصل جمع حاصل والدواوير جمع دور، والمطامر.
خبز الصعيد: تستخدم الحبوب في صناعة الخبز بالصعيد، والذي يعد المكون الأساسي في طعام أبناء الصعيد ويلزم لإعداده مجموعة من المراحل والأدوات ومنها: العجن وأدواته، ثم الخبيز والأدوات المستخدمة، وعرض للمواقد المختلفة.
ويستعرض أنواع الخبز بالصعيد وطرق تصنيعها مثل:
خبز الْبِتَّاوْ: والذي يُصنع من دقيق الذرة وكان الخبز الرئيسي في مصر حتى منتصف القرن العشرين.
خبز أو عيش القمح: والذي يُصنع من دقيق القمح.
العيش المرحرح: الذي يصنع من دقيق الذرة أو مخلوط الذرة والقمح أو مخلوط القمح مع الشامي أو مخلوط دقيق الشعير وبعض اللبن.
الرغيف الشمسي: والذي يلزم لخبزه أن تترك الأرغفة على مقارص دائرية في الشمس لفترة حتى تمام التخمير، ثم يخبز في الفرن.
المِخَمَّرْ: ويضم المخمر مجموعة من المخبوزات مثل (القرص، المنون، الفايش، الشريكة) وجميعها تقوم على عجينة واحدة هذه العجينة تتكون من خليط من دقيق القمح واللبن والسمن البلدي، وتختلف تلك المسميات من منطقة إلى أخرى.
الملفوف وعيش السِّن: وتستخدم في تصنيعه الردة وهي التي تنتج بعد نخل دقيق القمح أو الذرة.
وينهي الكاتب الفصل الثاني بطرق تخزين الخضروات والفاكهة والأسماك والألبان والطرق المختلفة لصناعة الجبن وتخزينه.
الفصل الثالث
يقول الأسيوطي: يعتمد المطبخ الصعيدي على ما تنبته الأرض وما يربيه الصعيدي في بيته من حيوانات وطيور، وما يجود به النيل من أسماك، وتتنوع الأكلات بتنوع المواد المستخدمة في الطبخ، وقد يأخذ الطعام الواحد أسماء قد تختلف باختلاف القرى والمناطق، لكن تظل هناك مجموعة من الأطعمة تطبخ في كل القرى ومنها:
الأطعمة التي تعد من حبوب القمح:
الفريك: وهو من الأكلات الشهيرة بالصعيد ويصنع من القمح الأخضر، ويضاف الفريك لبعض المأكولات أو يطبخ منفردا ويسمى “دشيشة”، ويعد الاستخدام الأساسي للفريك في حشو الطيور المذبوحة كالحمام والفراخ والبط.
البليلة: وهي طبخ حبوب القمح الجافة عن طريق سلقها وإضافة السمن والسكر واللبن والقشطة.
الكشك: وهو من الأكلات الهامة والشعبية بالصعيد، وينكون من حبوب القمح واللبن، ويتم طبخة إما بإضافة البيض أو مرق اللحوم.
المخروطة: وهي عبارة عن عجين مكون من البيض والدقيق واللبن، يفرد العجين بواسطة النشابة ويقطع قطع صغيرة تسوى على البخار، ثم يضاف إليها اللبن والسكر.
الرشدة: وتتشابه كثيرا مع المخروطة ويمكن تناولها حادق أو حلو.
الحريرة أو العصيدة: وتعد من الأكلات الفقيرة بالصعيد ويستخدم فيها دقيق الذرة، وهي من الأكلات سهلة التحضير فقط يضاف الدقيق إلى الماء المغلي مع التقليب المستمر، وبعد النضج يضاف السمن البلدي والعسل أو البلح.
فطير المرق أو الفطير الأبيض: وهو عبارة عن عجين الماء ودقيق القمح يفرد بالنشابة ويسوى بالفرن، لكن يتم إخراجه وهو لين من الفرن ويتم طيه على شكل مثلث ويتناول مع مرق اللحم.
المفتلة: وتتكون من دقيق القمح ودشيش القمح، وتعجن المفتلة ثم توضع على الحصير لتجف عل هيئة كرات صغيرة الحجم، وهي من الأصناف التي يمكن تخزينها، ويعاد طبخها عن طريق السلق في الماء المغلي أو اللبن، ويضاف إليها السمن والعسل والسكر.
الفوره: وهي نوع من الشوربة وتقدم للسيدات بعد الولادة مباشرة، وهي عبارة عن فطير مجفف ومقطع يسوى في الماء ويضاف إليه السمن والعسل الأسود.
المفروكه: هي فطير من دقيق الذرة ويشبه تصنيع الحريرة السابقة.
الفولية: وهي أكله يتم طبخها بواسطة الفول المجروش، ويوضع في الماء المغلي وبواسطة المفراك يتم فركه حتى يصبح غليظ القوام، وبعد النضج يضاف إليه الثوم المحمر.
العصيره: وهي من طبيخ الفقراء وكانت تطبخ أيام المجاعات قديمًا، حيث يتم عصر الأوراق الخضراء لبعض النباتات بعد سلقها بواسطة اليد مثل أوراق اللفت أو السلجم أو الْقَرْيْ والجِّلْبَانْ ويتم أكلها.
الشلولو: وهي من الأكلات سريعة التحضير وتتكون من الماء والملوخية الجافة وفصوص الثوم.
وينهي الأسيوطي كتابه مع عرض لبعض أنواع المشهيات أو المخللات وطريقة تصنيعها.
درويش الأسيوطي
درويش الأسيوطي من مواليد قرية الهمَّامية التابعة لمركز البداري محافظة أسيوط، شاعر وكاتب مسرحي وسيناريست وباحث في التراث الشعبي، عضو لجنة التراث الشعبي غير المادي بالمجلس الأعلى للثقافة، له العديد من المؤلفات منها: أشكال الموال الشعبي في مصر، المشايخ والقديسون في التراث الشعبي، مجمع الأمثال الشعبية وغيرها من المخطوطات في مجال التراث، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1992.
تعليق واحد