«طب وثقافة وناس»: تفكير متقطع في البديهيات
في منتصف الثمانينات تسلمت شهادة التخرج من عميد الكلية الدكتور فاروق عزت، أحد أساطير الجراحة في كلية طب المنصورة. لم أعد أتذكر هل كانت الشهادة –كبيرة الحجم والمصنوعة من ورق مقوى- مطوية يلفها شريط ملون. كرسائل الملوك في العصور الغابرة، أم كانت مفرودة في ظرف بني كبير.
ما أتذكره، أنه بعد تبادل التهاني وانتهاء الفرح، عدت إلى البيت حاملا شهادتي العزيزة. فتحتها وقرأت ما فيها: في الوسط في أعلى الشهادة جامعة المنصورة، كلية الطب: بعد الاطلاع على نتيجة الامتحان تقرر منح فلان الفلاني، المولود في قرية كذا، بمحافظة كذا….،سنة…. شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة بتقدير كذا لعام 1985.
**
هل كنت سعيدا؟! لا أعرف ولا أذكر، أذكر أن أمي بكت، وأنني شاركتها هذا الفرح الحزين فمن دخلت كلية الطب لإرضائه مات وأنا في السنة الدراسية الأولى. فلم ير ابنه بالمعطف الأبيض، ولم يمسك بيده هذه الشهادة الكبيرة التي حلم بها نيابة عن الجميع وعني. لم يكن هذا المشهد البطيء هو السارق الوحيد للفرح. كان هناك لص آخر، لم يكن شخصا لأكرهه، أو لأواجه بغضب، سرقني نشال كبير اسمه اللغة.
توقفت طويلا عند منح.
في معجم المعاني الجامع وجدت ما يلي: منح يمنح منحا، فهو مانح، والمفعول ممنوح. منحه الجائزة وغيرها: أعطاه إياها، وهبها له، وجاد به عليها. ومنحه الدابة ونحوها: أي أقرضه إياها لتعمل له عملا ثم يردها.
هذه الكلمة أزعجتني وأوقفتني بالفعل في تأمل بغيض. فهذه الشهادة التي حصلت عليها وحصل عليها مئات وآلاف قبلي وسيحصل عليها غيرهم كثيرون بعد سنوات كثيرة من الدرس والتحصيل والجري بين المدرجات والمعامل وعنابر المرضى منحة تجود بها لجنة ما. مجمع من آلهة في أوشحة سوداء، وليست حقا أصيلا مدفوع الثمن.
فهذه الشهادة ليست جائزة، وليست دابة أقضي بها غرضي ثم أعيدها!! تحتوي منح هذه على قدر من التعالي يليق بالملوك، أو بسلطة أوتوقراطية، تملك المنح والمنع. ولولا أن هذا المنح جاء بعد الاطلاع على نتيجة الامتحان لسقط ما بقي في النفس سوى قدر ضئيل من الشعور بالاستحقاق.
**
إذا كانت مفردة سيئة السمعة كـ”منح” هذه تركت في النفس غصة. إلا أن دهشتي من الجمع بين الطب والجراحة في الشهادة-كأنني كنت أراها للمرة الأولى- مازالت حتى هذه اللحظة حاضرة. لم أتوقف طويلا عند جواز عطف الكل (الطب) على الجزء (الجراحة)، ولكني توقفت طويلا أمام السؤال. إذا كانت الجراحة فرعا من فروع الطب، فلماذا لم توضع الفروع الأخرى في التعريف بالشهادة كأن تقول: بكالوريوس في الطب والجراحة والنساء والتوليد والعظام. إلخ.
بعد شهور قليلة بدأنا العمل في المستشفى الجامعي وحاولت إقناع نفسي أن الطب تعني الأمراض الباطنية، والجراحة العامة تضم تحت جناحها جراحات تخصصية كثيرة. وبهذا المعنى يكون الطب والجراحة، هما العامودان الرئيسيان في شهادة الطب هذه، وبذا يجوز الجمع بينهما في الشهادة التي تحتفظ بها وزارة الصحة في الملف الوظيفي.
لم تكن الإجابة مرضية تماما، لكن ساعات العمل الطويلة والمليئة بالمفاجآت المفرحة والمؤلمة كانت كفيلة بإزاحة السؤال إلى الوراء. لكن حدث ذات مرة أنني كنت أعد سيرتي الذاتية باللغة الإنجليزية لغرض ما. وكتبت في خانة الشهادة: bachelor of medicine أي بكالوريوس الطب، فنبهني واحد من الزملاء الكبار وقال لي هي تكتب اختصارا هكذا: MBBCh.
قلت وماذا يعني هذا الاختصار، فقال تعني بكالوريوس الطب والجراحة. قلت: هذه الحروف أكثر مما ينبغي، فإذا افترضنا أن M هي اختصار Medicine وأن B هي اختصار Bachelor. فماذا تختصر ch، وما الذي تختصره الـB الثانية. لم يقل لي لا أعرف لكنه قال: اكتب وأنت ساكت.
كتبت ما قاله لي جاهلا ومرغما، لكنني سألته سؤالا بدا لي مفاجئا وبدا له نوعا من السخرية: لماذا يرتدي الأطباء معطفا بيضاء. فنظر لي باستنكار قائلا: بديهيات!!
**
أين تذهب القصص التي لم نكتبها، وأين تذهب الحكايات التي لم نروها، وأين تذهب الأسئلة التي لم نجد لها إجابة مرضية في وقتها؟
ربما تجد القصة أو الحكاية من يكتبها بعد حين. وربما تجد الأسئلة من يجيب عليها في وقت ما، أو على الأقل يعيد طرحها فتظل الحكايات والأسئلة صاحية تؤرق من يطرح السؤال ومن يبحث عن إجابة ما.
بعد سنوات طويلة من التذكر والنسيان. التذكر الذي يأتي غفلة عندما تطلع على شهادة تخرج أمريكية المصدر فتجد إنها ليست بكالوريوس الطب والجراحة ولا حتى بكالوريوس الطب فقط. بل دكتوراه في الطب MD أو Doctor of Medicine .MD التي تعني في بلادنا وبلاد أخرى كثيرة الدكتوراه التي نحصل عليها بعد التخرج بسنوات طويلة ويسبقها الحصول على الماجستير.
لماذا هذا الاختلاف، أو لماذا هذه الفوضى؟ الكثير من الأطباء وأنا منهم بالطبع لا نعرف من تاريخ مهنتنا سوى النذر اليسير. النذر الذي لا يرضي عقلا فضوليا أو عقلا المفروض أنه تربى على البحث في أسباب الأمراض وطرق علاجها المختلفة، كيف لهذا العقل أن يسكت عن التفكير في المهنة التي يمارسها؟
بالبحث عن إجابات الأسئلة التي أعادت الممارسة الطويلة طرحها. وجدت أن الجمع بين الطب والجراحة في شهادة التخرج هذه له حكاية طويلة جدا، سأحاول اختصارها: يعتقد الباحثون في تاريخ الطب أن الجراحة بدأت قبل التداوي من الأمراض بالأعشاب والتعاويذ والرقى السحرية.
**
ويبدو هذا منطقيا، فإنسان ما قبل التاريخ، أو إنسان العصر الحجري القديم والحديث، عالج إصاباته الظاهرية مثل الجروح الناتجة عن مطاردة الحيوانات الكبيرة في البراري، والكسور التي تنتج عن الحركة والجري والمطاردة، قبل أن يكتشف الزراعة والقدرة الشفائية لبعض النباتات التي تنمو في البيئة المحيطة. فالجراحة أقدم من الطب.
وعندما اكتشف الإنسان الزراعة وتدجين الحيوانات التي أضفت على الحياة قدرا لا بأس به من الاستقرار، ووفرة في الغذاء والوقت أيضا، فعرف تقسيم العمل، وتقسيم الناس إلى طبقات. فانقسم العمل إلى نوعين: عمل ذهني وعمل يدوي. وبدا له أن التداوي بالأعشاب والرقص حول النيران والتعاويذ والرقي الذي يمارسه الشامان أو الكاهن أو الساحر أرقى من جبر الكسور، وفتح الخراريج. وتضميد الجروح باعتبارها عمل يدوي أقل قيمة ومكانة من العمل الذهني.
وستجد في قسم أيبوقراط المؤسس للطب الغربي الحديث ما يفيد أنه سيعالج الأمراض أما الجراحة فسيتركها لمن يقوم بها. القائمين على الجراحة في ذلك الوقت كانوا من العبيد الذين يقومون بتدليك المصارعين والقادة العسكريين ويعالجون جروحهم في المعارك.
والكلمة التي يوصف بها هؤلاء الجراحون كانت تعني حرفيا: نازعو السهام من الأجساد. وفي الترجمات العربية لكتب الإغريق الأوائل ترجمت الكلمة الدالة على الجراحة بـ”صنعة اليد”. ستجد هذا في كتابات ابن سينا وابن خلدون على سبيل المثال. وستجد أيضا أن أول ما استخدم كلمة الجراحة بمعناها الذي نعرفه الآن هو الجراح الأندلسي العظيم أبوالقاسم الزهرواي في كتابه الشهير: التصريف لمن عجز عن التأليف.
**
وفي العصور الوسطى الأوروبية كانت هناك طائفة تعرف بالجراحين الحلاقين. وكان لهذه النقابة أو الطائفة شعار خاص بها ككل الطوائف وكان لها قديس يحميها. وكان القديس الراعي لهذه الطائفة الأخوين كوم ودميان، الدمشقيان، شهداء المسيحية الأوائل وكانت مهمتهم الأساسية علاج الجروح والإصابات.
وعندما أسست كليات الطب الأولى لم يكن تعليم مبادئ الجراحة جزءا من منهاجها. ولم يكن يسمح للجراحين بدخول كليات الطب أصلا. لأن التدريس كان يتم باللغة اللاتينية المقدسة والتي لا يستطيع أو لا يحق للجراحين الفقراء والجهلاء تعلمها. والكلمة التي تعني الجراحة في اللغة اللاتينية التي هي مصدر المصطلحات الطبية كلها هي كلمة مكونة من مقطعين: cheir ومعناها يد، والمقطع الثاني: ergos وتعني يعمل أو يصنع، والمصطلح كله يكتب هكذا: cheirourogia أي صنعة اليد، أو ما نعرفه اليوم بالجراحة. وعندما سمح للجراحين بدخول كليات الطب في القرن الثامن عشر أو ما حوله.
بدأ تقليد إنجليزي بمنح المتخرجين شهادة تخرج مكتوب فيها: بكالوريوس الطب وبكالوريوس الجراحة أو Bachelor of Medicine and Bachelor of Cheirourogia التي نختصرها بـMBBCh وتختصرها دول أخرى إلى MBBS حيث S اختصار surgery البديل الإنجليزي للأصل اللاتيني. يبدو أن كل الدول التي كانت خاضعة للتاج البريطاني في زمن الاستعمار تبنت أو فرض عليها أن تسير في ركب الإنجليز. وتبقى الشهادة نفسها دليلا على استمرار التبعية للمحتل بعد أن رحل.
**
الغريب أيضا أن هذه الشهادة لا تعطي من حصل عليها أن يستخدم كلمة دكتور في تقديم نفسه ولا في الوثائق الرسمية. فدكتور تعني الحاصل على درجة الدكتوراه وليس من تخرج في كلية الطب فقط، وهذه حكاية أخرى. أما لماذا يحصل الخريج في كلية طب أمريكية على Doctor of Medicine فهذا يعود إلى أن العديد من المؤسسين لمنظومة الطب الأمريكي تعلموا في إسكتلندا وكانت كلية طب إسكتلندا تمنح نفس هذه الشهادة!!
السؤال الثاني الذي ظل يلح عليّ والذي ظهر لي فجأة في أوائل التسعينات من القرن الماضي حول بالطو الأطباء الأبيض. فوجدت إجابته مؤخرا. كان الأطباء حتى القرن التاسع عشر يرتدون ثيابا سوداء اللون كالرهبان وسائر رجال الإكلريوس.
لم يكن المرضى بحاجة إليهم إلا في لحظات الموت الأخيرة. كما يحتاجون إلى كاهن يتلقى منهم الاعتراف الأخير ويمنحهم الغفران. لم يكن الأطباء نذر حياة بل نذر موت!! وفي نهاية القرن التاسع عشر، ومع النجاح الباهر للمختبر واكتشاف البكتريا والتطور الكيمياء. استعار الأطباء بالطو المعمل الأبيض، كنوع من التميز والإحساس العالي بالقيمة والنقاء.
وفي سنة 1910 تقريبا أصبح البالطو الأبيض الزى الرسمي للأطباء والجراحين، الجراحون الذين كان لهم السبق في ارتداء البالطو الأبيض في غرفة العمليات. ومنحهم بالبالطو الأبيض الملطخ بالدماء سمة الجزارين أو العاملين في مسلخ.
**
بعد قليل تخلى الجراحون عن الأبيض في غرفة العمليات، وارتدوا بدله زرقاء أو خضراء بأكمام قصيرة. ويقال إن هذين اللونين ينعشان الرؤية ويمدان المخ البشري بقدرة أكبر على التمييز بين الألوان خاصة اللون الأحمر للدماء.
كان يظن أن البالطو الأبيض يرمز للطهارة والنقاء والتعقيم. لكن اتضح أن هذه المعاطف البيضاء تحمل قدرا هائلا من ميكروبات المستشفيات، فتخلص الأطباء منه في الألفية الجديدة. وأصبح العاملون في المستشفيات يرتدون ألوان مختلفة وغريبة، فمن الوارد أن تجد في غرفة العمليات جراحا بثياب حمراء أو سوداء. ومن الوارد أن تلتقي ممرضة ترتدي الأصفر أو البمبي، أصبحت المستشفيات مهرجانا صاخبا من الألوان. لم يعد البالطو الأبيض حاضرا بقوة بل بنطلون وقميص مقفول بكم قصير هذا الزى يسمونه سكراب scrap، هو نفسه زى التعقيم ودخول العمليات.
وأصبح مألوفا أن تجد الجميع أطباء وجراحين وممرضات وممرضين يرتدون هذا الزى ويتجولون به في السوبر ماركت أو في الشارع، ينقلون الميكروبات من الداخل إلى الخارج وبالعكس. سلاما على الأبيض الزاهي في عنابر المرضى، وسلاما على الأزرق السماوي في مسرح العمليات.
اقرأ أيضا
«طب وثقافة وناس»: ماذا نفعل بكل هذه الاستعارات الحزينة