«طب وثقافة وناس»: الأبطال ليسوا دائما في الواجهة
بعد التخرج في كلية الطب واستلام الشهادة الكبيرة بقليل، وصلني من إدارة الكلية خطابين أحدهما يقترح وظيفة معيد بقسم التشريح، والثاني يقترح وظيفة معيد بقسم الصحة العامة. تعاملت مع الخطابين بلامبالاة -لم يعقبها الندم إلا بعد عمر طويل. وقلت لنفسي بتعال غريب: لم أدخل كلية الطب لكي أصبح مدرسا.
الحقيقة أنني لم أعرف لماذا دخلت كلية الطب أصلا. كنت طالبا متفوقا طوال الوقت. لكنني لم أكن أعرف بالضبط ماذا أريد أن أكون، ولست استثناء في ذلك. فالعديد ممن دخلوا كلية الطب دخلوها دون رغبة حقيقية، ربما نزولا عند رغبة الأهل، أو لأنهم حصلوا على مجموع كبير في الثانوية العامة فاستخسروا مجموع درجاتهم المرتفع في كليات أخرى.
**
وبالمقابل هنا كمن كان يعرف منذ الطفولة الباكرة، أو على الأقل يتم تجهيزه وتربيته، باعتباره طبيب المستقبل. لكن لو سألت هذا الشخص نفسه: لماذا تريد أن تكون طبيبا؟ ستجد أن الإجابة ترتبط بطبيعة الحراك الاجتماعي والثقافي أكثر من ارتباطها بفهم شخصي حقيقي للرغبة نفسها.
حتى في سنوات الدراسة الأولى لا يطرح أي من الأساتذة هذا السؤال علينا. تحتاج الدولة والمجتمع الأطباء، مثلما تحتاج إلى مهندسين ومحاسبين، ومدرسين وضباط. لكنهم في كلية الطب لا يشرحون لنا معنى الطبيب ودوره، ولا يقولون لنا ما هو الطب الذي ندرسه.
هناك من يدخلون كلية الطب لأن المهنة تراث وإرث عائلي، وهناك من يدخل كلية الطب بهدف بسيط كعلاج الناس وتخفيف آلامهم وهؤلاء قلة متصوفة. وهناك من يدخلها بطموح الصعود الاجتماعي وفق معايير المجتمع للنجاح المادي المعروف اختصارا بخمسة عين: عروسة، عيادة، عربية، عمارة، ثم عزبة: قليلون يحصلون على الخمسة، وكثيرون لا يحصلون حتى على عين واحدة. باختصار يدخل الكثيرون كلية الطب ويتخرجون منها، بدون أن يعرفوا بالضبط ما هو الطب؟ ومن هو الطبيب؟
**
بهذه الدرجة من الترهل والغموض يدخل الناس كلية الطب ويتخرجون منها، ومثلما تتحكم درجات الثانوية العامة ومكتب التنسيق في مستقبل الطلاب، يتحكم مجموع درجات بكالوريوس الطب في تخصص الطبيب ومستقبله المهني. سواء في المستشفيات الجامعية أو المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، وسواء كان الطبيب الجديد يحب هذا التخصص أم لا.
وبشكل عام تتربع الجراحات على قمة الهرم، تليها النساء والتوليد، الأطفال والأمراض الباطنية، حتى نصل إلى المرتبة الأخيرة، أو أقل التخصصات قيمة من وجهة نظر الأطباء والجمهور على حد سواء. فهل لهذه التراتبية أو الطبقية التي تحكم التخصصات الطبية المختلفة ما يبررها في طبيعة المؤسسة نفسها؟ هل تملك ثقافة المجتمع ونظرته إلى الطبيب عموما الأثر نفسه على “طبقات الأطباء”؟
في هذه اللحظة بالذات أتذكر ما قاله لي واحد من أساتذتي الكبار: لم يقتنع أهل قريتي أنني أصبحت جراحاً إلا بعد افتتحت عيادة خاصة بي وأجريت بها الكثير من العمليات، وهو مالم أفعله إلا بعد حصولي على درجة الدكتوراه بأربع سنوات. هل تساعدنا اللغة في فهم الواقع؟ أم نستعين بالتاريخ؟ أم بكل هذا معا.
**
لغويا اشتقت كلمة Medicine من كلمة Medicus والتي تعني physician والمشتقة بدورها من physic، أو فيزيقا، والتي تعني العالم الطبيعي أو دراسة الطبيعة. والعالم الطبيعي هنا هو kaliknios والتي تعني حرفيا: المريض في سريره، والتي اشتق منها مصطلح إكلينيكي أو السريري. وphysician هو اللقب الذي يحمله طبيب الأمراض الباطنة إلى اليوم. في مقابل لقب آخر أقل حضورا: internist والتي تعني باطني أيضا.
أما (مديكّس) والتي اشتقت منها (مديسين)، فتعني طبيب، وترتبط اشتقاقيا بالطب. كما يرتبط الرسم بالرسام، والنحت بالنحات، والكتابة بالكاتب. الجذر اللغوي اللاتيني والإغريقي لمديكس هو ميد (Med)، فتعني التفكير العميق واتخاذ القرار المناسب. ومنها أيضا اشتقت كلمة Meditation وتعني التأمل.
وقد عرف أيبوقراط الطب بأنه فن استخدام الحواس الخمس. إذن حددت لنا اللغة دور الطبيب كشخص يستخدم حواسه الخمس في التفكير في أحوال المريض. بل وحددت مكان الطبيب بجوار المريض الراقد في سريره، من أجل اتخاذ القرار المناسب في مريضه، واقتراح العلاج المناسب لما يعاني منه. بهذا المعنى لا ينطبق هذا الوصف على بروفيسور متبحر في تشريح الجسم البشري، أو على بروفيسور متألق في علم وظائف الأعضاء، أو الكيمياء العضوية.
**
رغم أنهم جميعا تخرجوا في كليات الطب وعملوا لسنوات طويلة في تدريس تخصصهم هذا لطلاب طب يعدون بالآلاف. وينطبق هذا الوضع على شخص آخر تخرج في كلية الطب وتخصص بعد التخرج في الباثولوجيا الإكلينيكية، والتي تعنى بفحص الأنسجة المستأصلة من جسد المريض.
هو يتعامل مع العينات التي ترسل إلى مختبره، ليفحصها تحت عدسات تكبر الخلايا آلاف المرض. لكنه لم يقف بنفسه إلى جوار المريض، لم يفحصه، ولم يعاين الورم بنفسه، ولم يستأصله أيضا. ورغم الدور المحوري الذي يقوم به في تحديد خطوات العلاج، وتقرير مصير المريض. لكنه ليس صاحب القرار، ليس الرجل الأول في هذه الرواية، وليس البطل في نظر الجمهور.
حتى في نظر زملائه الجراحين: هو رجل الظل، السنيد المجهول، الذي يدل البطل أحيانا على الطريق الصحيح، والقرار الأصوب. هو يعمل بالفعل لمصلحة المريض. لكن المريض لا يعرف سوى من وضع السماعة على صدره، واستمع لضربات قلبه وصوت أنفاسه، أو من جس أورامه بيده، وشق بطنه بالمشرط، واستأصل العلة من مكمنها البعيد.
**
المؤكد أنني لم أعرف المعنى اللغوي الدقيق لماهية الطب والطبيب قبل دخول كلية الطب ولا أثناء الدراسة ولا بعد التخرج إلا بسنوات طوال. لكن هذا المعنى اللغوي نفسه استقر في الثقافة التي تحكم الناس، وأنا واحد منهم. هكذا يرى الناس أن الشخص يدخل كلية الطب ليصبح طبيبا، ليصبح الرجل الأول في رواية مرضاه، ليصبح صانع المعجزات، إذا لم يكن هو المعجزة نفسها.
يعلمنا تاريخ الطب أن مصطلح “الطبيب الكبير” لم يظهر إلا في القرن التاسع عشر، ويقصد به الطبيب الذي وقّع الكشف الطبي على أكبر عدد من المرضى في زمانه، أو الذي أجرى أكبر عدد ممكن من العمليات الجراحية، والذي علم أكبر عدد من الطلبة في كلية الطب ومن الأطباء حديثي التخرج.
وفي بلادنا وزماننا يطلق وصف الطبيب الكبير على من افتتح عيادة فخمة، في حي تجاري شهير، تكتظ بالمرضى، فينتظرون دورهم في الكشف على سلم العمارة رغم الفيزيتا العالية. هنا حيث يفرض السوق سيطرته على معايير النجاح، يتراجع العلم والتعليم الجاد. وتختم صورة الفخامة المستعارة على العقل والروح.
**
صحيح أن عددا من الأمراض تم وصفها في القرن التاسع عشر على يد عدد من الأطباء الكبار، فحملت هذه الأمراض أسماءهم إلى الآن، وأن عددا كبيرا من الآلات الجراحية ابتكرها جراحون كبار، فحملت أسماءهم أيضا. لكن الإسهام الأكبر في تحسين صحة الناس، وإطالة أعمارهم لم يكن نتيجة للفعل الطبي المباشر لهؤلاء الأطباء الكبار. فاكتشاف البكتريا والتطعيم، والتعقيم، ووسائل الصرف الصحي لم يكن من عمل الأطباء وحدهم.
لم يكن لوي باستور طبيبا من الأساس بل كيميائيا حصل على شهادته في العلوم بعدما اختبر الفشل أكثر من مرة. ولم يعرف الناس ألكسندرفيلمينج كطبيب يجول بين أسرة المرضى. بل كباحث في معمل الكائنات الدقيقة، ولولا اكتشافه المفاجئ والمدهش للبنسلين لما ذكره أحد.
لم يعلمنا أحد أن جائزة نوبل في الطب هي أصلا جائزة في الفسيولوجيا- أولا- والطب. ولم يقل لنا أحد أن عدد الجراحين، أو الأطباء الواقفين على يمين المريض النائم في سريره، الحاصلين على هذه الجائزة لا يقارن بعدد من حصلوا عليها من الباحثين في المختبرات والمعامل.
ليس من الضروري، ولا من الطبيعي، أن يحصل كل الباحثين في المختبرات على نوبل في الفسيولوجيا والطب. أو أي جائزة أخرى، لكنه ليس من الطبيعي أيضا أن يظلوا مجرد أبطال في الظل.
**
في مقال سابق سألت: هل تعرف ييلاباراجادسوبيراو؟ لا يتمتع سبويراو بشهرة كلود برنار مؤسس علم وظائف الأعضاء، ولا شهرة فيلمينج مكتشف البنسلين، ولا واطسون مكتشف حلزونة الدنا، لكن هذا الفقير الهندي المولود في مدراس في الثاني عشر من يناير ١٨٩٥يستحق أن يدخل كتاب الطب من بابه الكبير.
عاش ييلا طفولة تعيسة، فقد أخويه الأكبر والأصغر في أسبوع واحد جراء إصابة لعينة بالتهاب معوي استوائي قاتل. بمساعدة أصدقاء العائلة البراهمية أكمل تعليمه في كلية طب مدراس.
ومثل غيره من الهنود استجاب لدعوة غاندي التي تدعو لمقاطعة البضائع الإنجليزية. فارتدى “الخادي” أو الزى الهندي التقليدي في قاعات الدراسة وحجرة العمليات. مما أثار غضب أستاذه الإنجليزي، فمنحه شهادة أقل من البكالوريوس الذي يستحقه. كضحية مثالية للطب الإمبريالي فشل بشهادة تخرجه التعيسة أن يحصل على وظيفة طبيب في صحة مدراس، وبعد طرق الأبواب والمحاولات الجادة حصل على وظيفة مدرس تشريح في كلية الطب الأوروفيدي (الطب الهندي التقليدي) بمدينته العريقة.
**
أدهشته الإمكانات العلاجية للطب المحلي، ويبدو أنه كان يتمتع بعقلية بحثية، فحاول تحديث الطب التقليدي. لكن عمله لم يكتمل. وبمساعدة من أحد المؤسسات الخيرية الهندية، ومساعدة جادة من والد زوجته المستقبلية، شق طريقه إلى بوسطن.
والتحق بكلية طب هارفارد، حيث أكمل دراسته وأبحاثه. وفي سنة 1930 أكتشف مع زميله ” سيروس فيسك” مادة ال ATP مصدر الطاقة الحركية في العضلات.
وخلال نفس العام حصل على درجة الدكتوراه، ورغم ذلك لم تمنحه هارفارد وظيفة طبيب في مستشفاها الجامعي!! وفي الوقت نفسه كانت كراهية فيسك واحتقاره لهذا الهندي البراهمي. الفقير الانعزالي تشعل في نفس حريقا هائلا، فأتلف ما استطاع من أبحاث زميله، وأخفى ما لم يستطع إتلافه.
**
بعد قليل حصل على وظيفة في باحث في معامل ليدريل التابعة لأمريكان سيناميد (اشترتها شركة Wyeth سنة 1994ثم استولت عليها الشركة العملاقة فايزر فيما بعد). في هذه المعامل القديمة طور سبويراو طريقة لتكوين حمض الفوليك، استنادا إلى أبحاث الإنجليزية لوسي ويلز في الهند، وهو الحمض المستخدم في نوع محدد من أنواع فقر الدم.
وفي المعامل، وبالتعاون مع سيدني فاربرـ اليهودي الناسك في معمل أبحاث الدم بقبو مستشفى الأطفال– تمكن من اكتشاف وتخليق عقار Methotroxate الذي فتح الطريق أمام العلاج الكيمائي للسرطان عموما، ولسرطان الدم على وجه التحديد. وتحت إشرافه تمكن باحثون آخرون من تطوير عدد من المضادات الحيوية الأقوى من البنسلين.
على الرغم من هذه الاكتشافات العظيمة لم يحصل سوبيراو على نوبل ولا على غيرها من الجوائز، حتى في المؤتمرات العلمية لم يكن يسمح له باعتلاء المنصة. وبينما حصل شريكه في علاج اللوكيميا على معهد لعلاج السرطان يحمل اسمه (Dana-Farber Cancer institute) أصر الجميع على بقائه-حيا وميتا- في الظل!! في التاسع من أغسطس سنة 1948توقفت عضلة قلبه ومات. وفي رثائه قال واحد من الكتاب: ربما لما تسمع من قبل عن ييلاباراجادسوبيراو، لكن لأنه عاش ذات مرة ستعيش أنت عمرا أطول.
اقرأ أيضا
«طب وثقافة وناس»: تفكير متقطع في البديهيات