"طابور في مدينة الشمع!" قصة قصيرة لــ أحمد طوسون
لم ينتبه له أحد من قبل بين زحام المحتشدين، فليس فيه ما يميزه عن الآخرين ليلفت انتباهنا إليه، مجرد تكرار جديد لجيش من الموظفين.
في نهاية كل شهر يتراصون في طوابير طويلة أمام ماكينة صرف النقود لسحب رواتبهم.. ترى بعضهم فلا تعرف إن كان معك في نفس الديوان أم جاء من مصلحة أو هيئة حكومية أخرى تنتشر دواوينها الوظيفية في المنطقة، وتجمعهم ماكينة صرف النقود أول كل شهر.
المديرون يتمتعون بمزية خاصة لا يحصل عليها غيرهم.
بمجرد حضورهم يفسح لهم الطابور طريقا مباشرا إلى ماكينة صرف النقود دون أن يعترض أحد، حتى صار شكلهم مألوفا للكافة.
لا فرق بين مدير في مصلحتك الحكومية أو بين مدير يعمل في جهة حكومية أخرى.. تواطؤ جمعي جمعنا باستثناء المديرين من القواعد والقوانين المنظمة للطابور مهما طال أو قصر.
يمر المدير من بيننا مصحوبا بنظرات التقديس والإعجاب.. والغضب والنقمة والكراهية، ويغادر دون أن يجرأ أحدنا على التمتمة والاعتراض أو مص الشفاه بصوت مسموع، فلكل مدير عيونه المزروعة بيننا والقادرة على نقل ما توسوس به النفوس لأصحابها.
لكن في هذه المرة، حين حضر المدير، سمعنا صوتا مدويا:
– إنت رايح فين.. مش فيه طابور؟!
ألتفتنا جميعا ناحية الصوت، الذي بدا لشبح يجرب صوته في الفراغ، نبحث عن صاحبه ونتأمل ملامحه.
هل يعرفه أحد؟!.
سألنا أنفسنا دون أن نحصل على إجابة قاطعة.
كان يشبهنا جميعا، واحد من مئات أو آلاف الموظفين الذين يؤكدون قاعدة التكرار والتماثل، ويجيدون الابتسام دائما كدمى شمعية في وجه رؤسائهم ومديريهم.
ألتفتنا ناحية الصوت، سألنا وهرعنا بنظراتنا ناحية المدير الذي وقف ثابتا في مكانه للحظة رمق فيها صاحب الصوت مثلنا، قبل أن يواصل طريقه إلى ماكينة صرف النقود – دون مبالاة- ويسحب نقوده وينصرف!
ليعود الطابور إلى صمته وعاداته الشمعية من جديد.
بعد ساعة وأكثر جاء مدير آخر، سلك الطريق نفسه، وسمعنا الصوت نفسه يزعق بحدة أكبر:
-احنا هنقف هنا طول النهار وهما براحتهم!
وقبل أن يسمح لنا بالالتفاف والالتفات ناحيته، خرج الشبح عن الطابور وهرع ناحية المدير وأمسك به في محاولة منعه من الوصول إلى ماكينة الصرف.
– لن يصرف أحد إلا بالدور!
قال كلماته وسط شهقات الاندهاش والترقب.
ظل المدير برهة صامتا بفعل الصدمة، يبحث عن طريقة مجدية في السيطرة على شعوره بالضيق واستعادة هيبته التي سقطت أمام طابور الأشباح الشمعية.
– أنت مجنون!
صاح المدير وهو يزيحه عنه بعيدا بمساعدة بعض الأعوان.
صار هرج ومرج ولغط، وانفرط عقد الطابور، ولم يعد أحد مهتما بالوصول إلى فوهة ماكينة الصرف وصرف راتبه، بقدر اهتمامه بمتابعة ما يحدث وتحليله والنقاش حوله.
في الديوان الحكومي صرنا نتابعه جميعا بنظراتنا وهو يمر في الطرقات، كنبوءة قادرة على التحقق.
نحسده على تلك الثقة التي تسكن في عينيه، والغضب الذي سكن تجاعيد جبهته ووجهه، وأزاح ابتسامته الشمعية بعيدا..
ونتلهف إلى أول الشهر ليجمعنا به طابور آخر.
أحمد طوسون، عضو لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضو اتحاد كتاب مصر، وعضو أمانة مؤتمر أدباء مصر. شارك بالعديد من المؤتمرات والورش الأدبية، ونشرت أعماله بأغلب الصحف والمجلات الأدبية المصرية والعربية، أصدر ثلاثة روايات “مراسم عزاء العائلة” فى2006، و” تأملات رجل الغرفة” فى 2011، و” رقة القتل” فى 2015، و” فتاة البحر” مجموعة قصصية 2011
كما أصدر 11قصة قصيرة للأطفال منها ” حكاية صاحب الغزلان ” و” حكاية خير البلاد ” ، و” أحلام السيد كتاب ” ، و” السلاحف يمكنها أن تطير “، و” دجاجات زينب”، و” جهاد تذهب إلى المدرسة ”
حصل على العديد من الجوائز ومنها جائزة القصة لدول جنوب البحر الأبيض المتوسط التي نظمها إقليم لجوريا الإيطالي عام 1996 / 1997،جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة في القصة القصيرة عام 1997،جائزة العقاد الأدبية في القصة بمناسبة مئوية العقاد للعام 1997،جائزة المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة في الرواية للعام 2001 / 2002،جائزة إذاعة BBC ومجلة العربي 2009،جائزة الدولة التشجيعية في رواية الفتيان عام 2012 عن رواية “أحلام السيد كتاب” ، وجائزة اتحاد كتاب مصر في المجموعة القصصية عن مجموعة “فتاة البحر”
تعليق واحد