«صاروخان».. الرؤوس التي أعجبته والرؤوس التي أتعبته
في الحادي عشر من أكتوبر عام 1936 أصدر محمد التابعي بالاشتراك مع محمود أبوالفتح وكريم ثابت جريدة المصري. وكانت جريدة يومية تصدر على مبادئ الوفد المصري كما كتب في افتتاحية العدد الأول. حيث كتب الثلاثة بيانا موقعا بأسمائهم وبدأ البيان: «على مبادئ الوفد المصري تصدر جريدة المصري ولا نريد أن نتقدم للقراء ببرنامج نسوق فيه الوعود، فإن لنا من ماضينا في حلبة الجهاد الوطني وميدان العمل الصحفي ما يكفل قيام هذه الجريدة الجديدة بواجبها الوطني والصحفي كاملة إن شاء الله».
واتخذ محمد التابعي نافذة يومية يطل بها على القراء بداية من العدد الأول بعنوان “حديثي اليوم” كتب في العدد الأول: “كان من نصيبي أن أقدم هذه الجريدة إلى القراء، ذلك لأن هناك تقليدا محترما يقضي بأن تقدم كل جريدة نفسها. وفي أول عدد منها بمقال طويل أو قصير والمقال المذكور يبدأ عادة بنداء يوجهه الكاتب إلى قرائه الأعزاء. ثم يتلو النداء قسم ويمين ويختم المقال بقسم ويمين وفي ظل القسمين يسوق الكاتب ألف عهد ووعد إلى قرائه وليس أقل هذه الوعود شأنا أن تبذل الجريدة دمها في خدمة القراء. ولكنني مع الأسف لم أسمع حتى اليوم عن قارئ واحد لبى النداء ودفع الخمسة مليمات وسار مع الكاتب إلى الأمام مغمض العينين لأن القارئ في مصر زبون صعب الرضاء”.
ثم يتابع قائلا: “لكن” المصري “ليس في خاطره أن يتلو بين يدي القارئ قامة طويلة من العهود والوعود، لأن المصري وأصحابه يعرفون قيمة هذه العهود والوعود وأن قارئ اليوم مؤمن لا يلدغ من كاتب مرتين. ووعد واحد فقط هو الذي نتقدم به إلى القراء أن نحاول ما استطعنا أن ندخل على المصري دائما لونا من روح العصر الذي نعيش فيه. عصر السرعة والاختزال والقصد إلى الهدف من أقصر طريق”.
صاروخان في جريدة المصري
انتقل صاروخان للعمل في جريدة المصري من أول أعدادها مع التابعي وذلك بالتزامن أيضا مع عمله في آخر ساعة. وكان ينشر له كاريكاتيرا في افتتاحية كل عدد بالإضافة إلى الرسومات الداخلية للجريدة. وفي العدد الثاني للمصري كتب صاروخان مقالا على مساحة صفحة كاملة بعنوان: “الرؤوس التي أعجبتني والرؤوس التي أتعبتني”. يتحدث فيه عن ذكرياته مع بعض السياسيين في مصر والفارق بين كل شخصية عندما رسمها والمفارقات الطريفة فيما بينهم. ومن تلك الشخصيات مصطفى النحاس وحافظ عفيفي وحسن صبري وأحمد لطفي السيد وإسماعيل صدقي وتوفيق نسيم، وكذلك شخصية المصري أفندي.
يبدأ مقاله البديع قائلا: “عندما أحاول اليوم وبعد أن قضيت نحو تسع سنوات وأنا أعمل كرسام في أهم المجلات المصرية ومع أرشق المحررين قلما وأخفهم روحا – عندما أحاول اليوم أن ألقي نظرة إلى الوراء أشعر أن المرحلة التي قطعتها كانت مملوءة بالتغيرات المفاجئة والمعقدة أحيانا. ولكنها كانت في الوقت نفسه متنوعة ومسلية وغنية بالتفاصيل.
ولكن في حياتي كرسام وهي في ذاتها حياة صعبة كان الضحايا في معظم الأحيان هم أنفسهم الذين سهلوا عليّ عملي. كان هناك دائما وزير أو وزيران يتحملان بصفة خاصة كل النقد اللاذع وكل السخرية التي تفنن فيها كل منا المحرر والرسام. وتعاونا على رشق الوزير بها مستعينين في ذلك بالحوادث الجارية.
ولهذا أرى واجبا علي أن أتقدم بالنصيب الأوفى من الشكر إلى هؤلاء السادة أنفسهم فكم مرة جلسنا نفكر في صورة وقد خمل خيالنا. وكم من مرة أعيانا التفكير وكاد يدركنا اليأس بسبب فقر الحوادث الجارية. وإذا بالفرج يهبط علينا من حيث لا نقدر وإذا بأحد هؤلاء السادة يتقدم إلينا من حيث لا يشعر بالفكرة الرائعة والرسم اللاذع. وكانت تكفينا في ذلك كلمة تبدو منه أو تصريح ما أو سهرة هنا أو نزهة هناك!”.
أحمد لطفي السيد
ثم يبدأ صاروخان بالحديث عن أحمد لطفي السيد وهو في الترتيب أول ضحايا صاروخان. فيكتب عنه: “في مقدمة هؤلاء السادة أهمية ولقد كان ترتيبه الأول أهمية بين ضحايانا هو أحمد لطفي السيد فهو الذي فاز بأكبر نصيب من قسوة ريشتي كرسام”.
إسماعيل صدقي
ويتحدث عن إسماعيل صدقي قائلا: “والابتسامة الدائمة مهما كانت الظروف هي الصفة المميزة لصاحب الدولة إسماعيل صدقي. فصدقي باشا يحتفظ دائما بابتسامته الخبيثة الماكرة مهما كان الموقف الذي يجد دولته نفسه فيه. وهو الرجل الذي ينظر من أعلى إلى كل شيء ويسخر من كل شيء وهذه صفات يمكن دائما إبرازها وهي ليست بالشيء القليل عند رسام الكاريكاتير الفكاهي.
توفيق نسيم
وصاحب الدولة توفيق نسيم باشا الرجل الصامت، ومن هنا الرجل الذي يحتقر الدنيا. يمتاز بثقل وترهل جسمه وخصوصا بشفتيه المطبوعة عليهما مرارة دائمة. فدولته من أولئك الأشخاص الذين ابتسامتهم نفسها هي غالبا ابتسامة حزينة كأنما هم يعيشون أبدا في حالة ضجر وتبرم بالحياة”.
حسن صبري والببغاء
ثم ينتقل صاروخان للحديث عن حسن صبري وكيف أن التابعي أوحى إليه أن يرسمه دائما برفقة ببغاء لغرامه بالكلام الكثير غير الموفق. فيكتب قائلا: “والآن أقدم لكم شخصية أنا مدين لها بصفة خاصة بالشكر الجزيل. وأقصد سعادة حسن صبري باشا ولقد أوحى غرامه الشديد بالكلام – الكلام غير الموفق- أوحى إلى الأستاذ التابعي فكرة هي أن تصحبه دائما في الرسم ببغاء. واعترف أنا أن هذه الفكرة كانت موفقة جدا ولقد التصقت هذه الصفة بسعادته وأصبح لا يرى في أي رسم إلا وهو مصحوب بهذا الببغاء.
ولكن الشيء الذي بالغت فيه وأبرزته أنا بصفة خاصة كان شكل رأسه البيضاوي المستطيل فلقد تطور رأسه على ورق الرسم حتى أصبح بمرور الأيام أشبه بقمع السكر وفي آخر خصلة من الشعر مدببة. حتى لو أننا رسمنا اليوم حسن صبري باشا من غير أن نعطي رأسه هذا الشكل الخاص لما عرف سعادته أحد من القراء”.
محمد محمود.. اليد الحديدية
وأما صاحب الدولة محمد محمود باشا فقد كانت حياته السياسية مملوءة نوعا ما بالنشاط. كما أن عهد وزارته تميز عن عهود سواه بالشيء الكثير من التجديد الذي لم تألفه مصر قبلا. ولعل نشاط دولته السياسي هو السبب في أن محمد محمود باشا هو أحد الساسة المصريين الذين تحن إليهم أكثر من سواهم ريشة الكاريكاتير. وأما شكل دولته – إذا استثنينا شفتيه فليس فيه كثير أو قليل مما يستوقف نظر الرسام. ولقد كانت عبارته المشهورة “أنا وحدي” وتصريحه الذي لا يقل شهرة بأنه سوف يحكم “باليد الحديدية” حملني هذا وذاك على أن أخلق له هذه اليد الحديدية المشهورة التي لازمته دائما تقريبا في جميع رسومه ولم تغادره اللهم إلا بين الفترة والفترة لكي تنزل على رأس الصحافة والصحفيين.
مصطفى النحاس
أما زعيم الأمة المحبوب دولة النحاس باشا فإن ذقنه بصفة خاصة هو التقسيم المميز له والدال على أن صاحب هذا الذقن رجل ذو خلق متين وإرادة لا تقهر. ولقد ساعدنا هذا الذقن في الألف صورة وصورة كاريكاتورية التي رسمناها للزعيم الكبير والتي تقبلها هو بنفس راضية”.
الرؤوس السهلة والرؤوس المتعبة
ثم يتابع صاروخان ذكريات عن الرؤوس التي رسمها وكم كانت هناك شخصيات سهلة في رسمها هناك شخصيات أتعبته. فيكتب: “ويطول القول لو عددت هنا كل الرؤوس والوجوه السياسية التي مرت من تحت ريشتي. ولكنني أريد أن أقرر بصفة خاصة أن العلاقات كانت دائما طيبة بين ريشتي وبين وجوه أصحاب الدولة والسعادة زيور باشا وحافظ عفيفي وعلى الشمسي والإبراشي باشا.
وأقصد بقولي “العلاقات الطيبة” أن ريشتي لم تعان صعوبة ما في نقل وجوههم وحالاتهم النفسية إلى أذهان القراء. ولكن – وآسفاه- إلى جانب هذه الوجوه الصديقة السهلة. هناك وجوه أخرى كم قاسيت منها الأمرين وكم عذبتني وكم شددت منها شعر رأسي غيضا!! آه من النقراشي باشا هذا الرجل الحلو الظريف الذي يقابلني دائما بلطف. لماذا يبخل على وجهه بشيء كاريكاتيري أنقله للقراء. وأحمد عبدالوهاب، الاقتصادي الكبير، تغالي في تطبيق قواعد الاقتصاد حتى على تقاسيم وجهه. فهو حريص على أن لا يترك شيئا منها يفلت إلى ريشة الرسام كأنما هي ملايين بيت المال”.
فترة القلق عند صاروخان
كانت فترة القلق الشديد لدى صاروخان هي الفترة التي تسبق تشكيل كل وزارة جديدة. فترة مضنية مرهقة للأعصاب يعيشها في شبه حمى من الشك والقلق ولا يستقر له عصب حتى يتم تشكيل الوزارة الجديدة، والتساؤلات تعصر رأسه: ترى ما هي الرؤوس أو الوجوه الجديدة. وكم بينها سيكون من الصنف السهل الخفيف الدم على ريشة الرسام وكم من الزمن سوق يمضي قبل أن يفهم هذه الرؤوس وتعتادها ريشته؟ لأنه لا الرأس ولا الوجه وحده يكفي من أجل رسم صورة ناجحة لشخصية ما. بل يجب أيضا أن يلم بالماضي السياسي لكل قادم جديد وعندها فقط تستكمل الشخصية الكاريكاتورية. ومن حسن حظ صاروخان أن التابعي والمحررين معه يمدونه دائما بكل المادة اللازمة وبكل تفصيل دقيق.
المصري أفندي أعظم شخصيات صاروخان
ثم يختتم صاروخان ذكرياته بشخصية المصري أفندي والتي يصفها بأهم وأثمن لقطة أو كنز عثرت عليه. فيقول: “لكن الذي أجده أهم وأثمن لقطة أو كنز عثرت عليه هي شخصية المصري أفندي. وكم قاسينا منه أنا والأستاذ التابعي. فهذا المصري أفندي من وراء مظهره البسيط المملوء صراحة وطيبة قد يبدو للناظر كأنه شخصية سهلة لا يمكن أن تسبب صعوبة أو تعبا. ولكن صدقوني أو لا تصدقوني لقد سبب لنا المصري أفندي تعبا كبيرا. فقد كان علينا أن نقرر أولا هل سيكون رجل بدين أو نحيف؟ له شوارب طويلة وغزيرة أو لا؟ وهل يجب أن يحمل في يده عصا أو مظلة أو ريشة يطرد بها ذباب مصر عن وجهه أو مسبحة؟ وهل طربوشه مائل إلى اليمين أو اليسار أو إلى الأمام أو مدفوع إلى الخلف.
وكان ذلك ذات يوم كما أذكر من أيام شهر مارس عام 1932 فقد قادني الأستاذ التابعي ذات صباح. وقال أنه يريد أن يخلق شخصية تشبه إلى حد ما شخصية جون بول عند الإنجليز. وطلب مني أن أفكر وارسم وأعرض عليه نتيجة التفكير. ومرت أيام والرسوم تتوالى من تحت يدي إلى أن عثرنا على الشخصية المطلوبة. وقلت أنا ماذا نسميه؟ وصمت التابعي بضع لحظات. ثم صاح فرحا: نسميه المصري أفندي، وتوالت الرسوم الكاريكاتورية للمصري أفندي وهو يتطور تحت يدي من يوم إلى يوم حتى انتهى إلى شكله الأخير الحالي. وهكذا ولد المصري أفندي وهكذا يعيش اليوم معنا جميعا”.
بعد الثورة تتوالى الرؤوس
انتهى صاروخان من مقاله لكن الرؤوس التي رسمها لم تنته. فكما رسم رجال عصر ما قبل ثورة يوليو رسم أيضا بريشته رجال وساسة عهد الثورة. ففي عام 1953 ذهب صاروخان إلى محكمة الثورة وقضى يوما كاملا هناك. ولم يكن وحده وإنما كانت معه ريشته الكاريكاتيرية وأوراقه البيضاء. وجلس صاروخان يتابع كل حركات المحكمة القضاة والمحامين والمتهمين والشهود. وتذكر شيئا لقد جلس في محكمة الثورة ليرسم القضاة وكان من بينهم أنور السادات. ولقد سبق لصاروخان أن رسم السادات ذات يوم وفي محكمة الجنايات وقت أن كان السادات متهما في قضية اغتيال أمين عثمان. وقرر أن يقارن بين الرسمتين الأولى عام 1947 والثانية عام 1953 ووضعهما جنبا إلى جنب في برواز.
صاروخان يرسم الرؤوس في محكمة الشعب
وبعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954 حضر صاروخان جلسات محكمة الشعب وشهد جلسة في محاكمة حسن الهضيبي وجلسة في محاكمة يوسف طلعت. وخرج صاروخان بعدها والحيرة معه.
يقول صاروخان: “لقد رأيت كثيرين منهم متهمين وشهودا، وأمسكت قلمي وحاولت أن أخطط الوجوه وارسم التعبيرات وأنا أحاول فيما ارسم أن أنفذ إلى الشخصية التي أرسمها وأدخل في أعماقها بل وأتقمص دورها طبقا لما يبدو من ملامحها. ولما بدأت ارسم أول واحد منهم كان الشر هو التعبير البارز على ملامحه والتعبير الخفي داخل شخصيته. وكنت أحس بقلق وأنا أحاول أن أتقمص شخصية الذي كنت حاول أن أرسمه. وبدأت ارسم الثاني وتكرر نفس الإحساس بالقلق، والثالث والرابع وهكذا. حاولت أن أبحث عن وجه واحد مريح فلم أجد، حاولت أن أنفذ خلال شخصية واحدة فكانت العقد المتراكمة تعترض طريقي.
وينهي صاروخان حديثه قائلا: “وخرجت اسأل نفسي ألم يكن فيهم رجل طيب واحد.. رجل ذو ملامح مستريحة لا يلعب الشر فوق تعبيرات وجهه ولا تتكدس العقد داخل قلبه؟”.
اقرأ أيضا:
برعاية «باب مصر»: اليوم.. افتتاح معرض صاروخان في بيت السناري