«شنطة سفر»: مين يشتري الورد مني؟
غالبا ما يحتوي برنامج الاجتماع أو المؤتمر الذي أسافر «على حسه» أو أيا كان على رحلات أو جولات سياحية أو الأكل في مطاعم محددة أو مشاهدة عروض محددة. وبالرغم من ذلك، فقد تعودت في رحلات العمل الكثيرة ألا أعود إلى مصر بعد انتهاء المهمة مباشرة، بل أعطي لنفسي فرصة ولو ليوم واحد حتى استكشف المدينة بنفسي، من خلال المشي والصعلكة في المناطق غير السياحية بها.
وهذا ما حدث عند زيارتي لمدينة صوفيا عاصمة بلغاريا مارس 2016. استقبلتني صديقتي ماجدالينا راجيفا بالورود في المطار وأخذتني بسيارتها إلى فندقي القريب من مقر المؤتمر والاجتماع. الشمس طالعة لكن الحرارة صفر. نتقابل أنا وصديقتي من كوستا ريكا كارولينا بيزارو الساكنة بفندق قريب من فندقي، ونتقابل مع باربرا فللر من النمسا، وهكذا، إلى أن نصل إلى مكان الاجتماع في طابور طويل. وقد أعدت لنا المضيفة (ودلعها ماجي) برنامجا ترفيهيا سياحيا موازي.
من أول قائمة طعام في أول مطعم طالعت فيها صور الأطباق التي يقدمها شعرت بأنني في مطعم مصري أصيل وأمسك بالنسخة الإنجليزية من المنيو. وكانت ماجي تقوم بترجمة مسميات المأكولات ومكوناتها ليختار كل منا طلبه. فإلى جانب بعض المسميات البلغارية لأكلاتهم الشعبية بمكونات قريبة من مكونات المطبخ المصري، فهناك الكباب والمسقعة والفليفلة والجلاش، واللي غالبا معاهم سلطة زبادي بالخيار والثوم.
***
أثار فضولي أن الأشجار في صوفيا مزدانة بوحدات زينة من الخيوط الصوفية الحمراء والبيضاء، في عدة أشكال، منها ما هو شكل الأسورة المضفرة، ومنها ما هو على شكل دميتين، إحداهما حمراء (أنثى) والأخرى بيضاء (ذكر). وعلمت أن هذه هي زينة المارتنستا (أو مسيرة الجدة) ويرتديها البلغاريون ويزينون بها الأشجار في هذا الوقت من العام حتى يظهر طائر اللقلق أو السنونو، أو تتفتح الأزهار على الأشجار، رمزا للترحيب بالربيع في الفترة من أول مارس حتى أول إبريل. وهذا الطقس معروف في عدة دول من دول البلقان. وقد علمت فيما بعد إدراج المارتنستا على قائمة لليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في عام 2017. وأخذتنا ماجي (كما نناديها) وصاحبتها المصورة والمخرجة ماريا دا شيفا في جولة سياحية على الأقدام في صوفيا لزيارة أهم معالمها.
وكعادة دول شرق أوروبا، فالمناطق الخضراء المفتوحة تتيح لكل الأعمار ومستويات السكان والسياح الاستمتاع بالمدينة بدون تذاكر دخول أو حد أدنى للطلبات، وما إلى ذلك. وفي وحول المناطق المفتوحة في صوفيا تنتشر السيدات المسنات، يشتغلن ويبعن المشغولات اليدوية من المفارش والفوط المطرزة، والكوفيات وأغطية الرأس والقفازات التريكو، والشيلان وغيرها. وفي أسواق البراغيث المنتشرة في المدينة، ينتشر بيع الأدوات المنزلية والأعمال الفنية، والمأكولات المحفوظة وشتلات النباتات وغيرها. ولفت نظري أن الطابع العام لتلك المبيعات يذكرني بروسيا. فقد كانت بلغاريا عاصمة يوجوسلافيا الاتحادية 1918-2006 والتي عانت القلاقل السياسية. وضمت صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا تحت رئاسة تيتو. أغطية الرأس الفرو والجلد، علامات ولوجوهات الأحزاب الاشتراكية، النقوش والأشكال، موزاييك ثقافي تاريخي لطيف.
***
وأثناء جولتنا، بدت لي الكنيسة الكبيرة كاتدرائية القديس ألكسندر نفسكي -والتي يعود بنائها إلى 1910، وفيها دهانات ذهبية وبخاصة على القبة وأبراج الأجراس. وهي غنية بالرخام الإيطالي، وأعمال فنية رائعة- وكأنها كنيسة البازيليك بمصر الجديدة. وأخذت أنظر لها من جميع الجهات لألاحظ الفروقات ولكي يذهب عني الشك. الكتل متشابهة، عدا الكتلة خلف المدخل. الطراز في مجمله بيزنطي مستحدث. لكن كنيستهم تطل على ميدان كبير، بحيث تظهر كتلتها مكتملة عن بعد، ويمكن الاقتراب منها أو الابتعاد عنها للتأمل والملاحظة والتصوير والدخول للزيارة أو للصلاة – خلافا للبازيليك. ولأن بلاد البلقان هم مسيحيون أرثوذكس، فكنائسهم حميمة بالنسبة لي. من حيث المسقط والكتلة والأشكال والرسومات والألوان.وقد أسميت هذه الجولة بجولة السبع كنائس، مثل تلك التي يقوم بها أرثوذكس مصر في أسبوع الآلام، فقد أخذتنا ماجي إلي كنيسة القديسة نيديليا والتي يعود بناؤها الأصلي إلي القرن العاشر. هدمت وبنيت عدة مرات، وهي من أجمل مزارات صوفيا. وقبل دخولها، اختلط علي توصيفها، ففيها مزيج من عمارة عصر النهضة الإيطالية والعمارة البيزنطية وتأثيرات بدت لي عثمانية. كما زرنا كنيسة القديس ريلا، الذي اختار العيش بمفرده مع الحيوانات البرية والمفترسة والطيور مفضلها على صحبة البشر، والذي انتشر عنه “صناعة المعجزات”.
وأخذتنا ماجي أيضا إلي كنيسة سان جورج، والتي يعتقد أنها أقدم مبنى في صوفيا. وقد بناها الرومان مثل الروتندا، وفيها عدد 22 لوحة فرسكو لـ22 رسول من أروع وأبدع الآثار الفنية في العالم. وأخذتنا ماجي أيضا إلى كنيسة بويانا خارج العاصمة. وبنيت في القرن العاشر، وتمت توسعتها في القرن الثالث عشر. بها أعمال فرسكو من أروع ما يكون، مما يجعلها من أهم المزارات الفنية. ومعماريا، فمسقطها مثل مساقط كنائسنا الشرقية (الصليب اليوناني)، بقبة كبيرة، وواجهات وحوائط غنية بالزخارف. ووجدت قديسينا المصريين كلهم مذكورين ومرسومين، سانت كاترين، سانت بربارة، أثناسيوس، وغيرهم. مما زاد من إحساسي بوجود خط خفي يربطني بالبلد دي وأهلها.
***
ولما زرنا متحفهم التاريخي، وجدت مصوغات ذهبية نوبية، ووجدت أجزاء من معابد نوبية! وعرفت أن ثمة رحلات تجارية قد حدثت بين البلدين في فجر التاريخ، وزادت في عصر نشر الديانة المسيحية. ثم تقاربنا (مصر وبلغاريا) بطريقة ما عندما أصبحنا كلنا رعايا الباب العالي لعدة قرون، ثم تقاربنا مجددا وقت صداقة تيتو وعبد الناصر وتشكيل مجموعة عدم الانحياز وما بعدها من سنوات الصداقة المصرية اليوغوسلافية. وقد انتابتني مشاعر مختلطة مشابهة عند زيارتي لمتحف تيتو في بلغراد (ولهذا حديث آخر).
كل دة في كوم وإحساسي بصديقتي ماجدالينا وماريا في كوم تاني. وأخذتنا ماجي نحضر معاها أحد تدريبات الغناء مع الكورال التي تشترك به، والذي يضم سيدات من أعمار متفاوتة، غير متخصصات، لكنهن محبات للغناء. ثم طالعتني ماجي بعدها بعدة سنوات لفيديو لهذا الكورال وهم يغنون في إحدى المناسبات الدينية التاريخية الهامة بالملابس القديمة. ومن المحلات المحببة والغريبة والمختلفة في صوفيا هو محل اسمه “عمراني” في قلب صوفيا لبيع الملابس من الجاكيتات والجينز والتي-شيرتات والشنط والأحذية والإكسسوارات من مواد معاد تدويرها وتعتمد تصميماتها على مفردات الثقافة الشعبية، والمنتجات كلها يدوية، ولهذا فالقطع جميلة جدا، ولكن فائقة الجودة.
وأود هنا أن ألفت النظر إلى الأسواق القديمة المنتشرة في صوفيا، وهي مباني هيكلية مغطاة والتي كانت إحدى علامات الحداثة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وارتبطت تلك الأسواق بتنامي المدنية والتقدم من الاهتمام بالصحة، والرقابة الصحية على الأسواق وسلعها، وضبط الأسواق في المدن. الدور الأرضي منها للمأكولات والمشروبات واللحوم والأجبان والأسماك، وغيرها، كما يوجد به عدة كافيتريات. والدور الأعلى أو الميزانين للإكسسوارات المنزلية والمفارش والفوط والتذكارات وبعض الملابس الرخيصة وغيرها. هذه الأسواق التي ننبهر بها عند زيارتنا للمدن التاريخية هي نفسها ما نفرط فيه هنا مثل سوق باب اللوق وقبله سوق العتبة وغيرهما.
***
وليست تلك التشابهات وهذا الدفيء الإنساني فقط هو ما يربطني بصوفيا، ولكن هناك شيء آخر، وهو مربى الورد! ففي إحدى جولاتنا، أخذتنا ماجي إلى أحد المحلات التي تبيع منتجات تجميل طبيعية من الورد “البلدي”. من الصابون للشامبو للزيوت المعطرة، للمنظفات، وغيرها، فالورد والصناعات المرتبطة به من ركائز الاقتصاد عندهم. وفجأة، ظهر لي برطمان مربي الورد، دعتني البائعة لكي أتذوق منه. وفي لحظة، عدت لسنوات السبعينيات، وشاهدت جدتي (وكان اسمها ورد!)، وهي مفترشة أرضية المطبخ في بيتها رقم 100 شارع طومان باي بالزيتون، وأمامها طشت كبير ممتلئ بالورد البلدي، و”باجور” جاز فوقه حلة كبيرة. كانت جدتي تقطف أوراق الورد البلدي زهرية وحمراء اللون، وتصنع لنا منه المربى. ومنذ وفاة جدتي، نسيت أمر مربى الورد، إلى أن وضعت البائعة تلك المعلقة الخشبية في فمي.
أما في اليوم الحر (من الأيام الإضافية التي منحتها لنفسي في صوفيا) صاحبتني ماريا دا شيفا إلى أحد مراكز الإبداع في الدور الرابع في أحد المباني العتيقة. معرض وملتقى مبدعين، ومكان للتدريب وبيع بعض المنتجات الفنية والمفروشات وإكسسوارات الديكور الفريدة. بالإضافة إلى مكتبة وكافيتريا واشتريت منه كتاب “حكايات شارعنا” والذي عقدت العزم أن اكتب نظيره القاهري في يوم من الأيام. وبعدها أخذتني جولة على الأقدام أيضا زرنا فيها “الكرافان سراي” (ما يشبه الوكالة في العصر العثماني) والذي تحول إلى منشأة حكومية.
***
وبينما كنا نتمشى ونتجاذب أطراف الحديث عن الصدف وعلاماتها في حياة الإنسان، وجدتها توجهني لكنيسة في شارع جانبي، وهي “مشدوهة”. لم يكن يظهر من الكنيسة إلا مدخلها، وقالت لي إن هذه الكنيسة مغلقة منذ سنوات. دخلنا، أخدنا شمع، نزلت ماريا الدرجات المؤدية إلى مكان الصلاة لتنتظر دورها في الحديث إلى القس أو ربما الاعتراف. وجلست أنا في المدرجات الخلفية في صمت.
جاءت لي راهبة تحثني أن أخذ دوري في الحديث إلى القسيس، ولم تكن تتحدث الإنجليزية، ولكننا تعاملنا بلغة الإشارة. فأخذتنني من يدي ونزلت بي إلى الجزء المقابل لمكان القسيس ومنتظريه، وأوقفتني أمام لوحة كبيرة بالحجم الطبيعي للقسيس القديم صاحب الكنيسة الأصلي. وأفهمتني أن هذه الكنيسة بنيت تحت الأرض زمن العثمانيين لتضليلهم. إذ كانوا يهدمون الكنائس، وأنه في عام ما، احترقت الكنيسة بأكملها ما عدا لوحة القسيس، وأعيد بناء الكنيسة على هيأتها الأصلية. وتم وضع اللوحة في هذا المكان، حتى يراها الزوار، ويصلون. وتركتني الراهبة وهي تشير لي أن أصلي أو أدعي، أو ابتهل أو أتأمل أو أي شيء.
وقفت، وتذكرت آخر حديث بيني وبين ماريا قبل انفصالنا داخل الكنيسة “لا شيء يحدث صدفة، ولا نقابل أحدا في حياتنا إلا لسبب ما”… ونسيت أين أنا، ورأيت شريط حياتي يمر في ومضات، وإذ بي أبكي وأبكى، ومقاطع من حياتي تمر أمام عيني، فلا أدري هل أبكي فرحا، أم حزنا، أم خوفا من المجهول القادم. وجدتني أحمد الله، واستغفره، وأدعوه أن يقود حياتي إلى ما يرضاه لي. استمريت في البكاء والتيه، حتى جذبتني ماريا إلي الخارج.
***
ولتهدئ من روعي، أخذتني إلى «بيت الشاي»، حيث قابلنا إحدى صديقاتها، وكان معها كتاب مصور عن أماكن نائية في بلغاريا تنوي ماريا الذهاب إليها لتصوير أفلام تسجيلية عنها. وبعدها أخذتني ماريا إلى مركز ثقافي آخر في منتصف أهم ميادين صوفيا. ميدان كبير منسق ومصمم للناس مثل كل الفراغات العمرانية كما يجب أن تكون للجلوس والمشي والترجل وافتراش الأرض. وبه أماكن للتجمعات والعجل والتزلج وغيرها، وبه تمثال كبير لتسار ليبراتور أو “القيصر المحرر” كان ألكسندر الثاني إمبراطور روسيا، وملك الكونغرس بولندا، والدوق الأكبر لفنلندا من 2 مارس 1855 حتى اغتياله في عام 1881.
وكان الإصلاح الأكثر أهمية الذي قام به الإسكندر كإمبراطور هو تحرير أقنان روسيا في عام 1861. وفي نهاية الميدان مبنى مجمع الثقافات والفنون، وبه تمثال الأحذية، صعدنا لسطح المبنى لمشاهدة بانوراما المدينة من تراسها المصمم لهذا الغرض. وحكت لي ماريا عن أيام تيتو، وتأثير الثقافة الاشتراكية على الحياة اليومية لليوغوسلاف. أما أنا، فمنذ خطت رجلي الميدان وأنا أشعر بطيف قاهرة الستينيات الناصرية: التصميمات، مواد البناء، ومع وصف ماريا لزى المدرسة الموحد بألوانه، القميص الأبيض، البنطلون الكحلي، الكرافتة الأستك، البليزر الرمادي. قفزت إلى مخيلتي صور مجاميع طلاب المدارس في أغنية الجيل الصاعد!
***
وبعدها، ذهبنا إلى منطقة المشاة بوسط المدينة في الجهة المقابلة لهذا الميدان، في انتظار صديق ماريا الإيطالي “لورنزو”. تمشينا وجلسنا لتناول آيس كريم وشرب القهوة، وناقشني لورنزو طويلا في نظريات بناء الهرم المتعددة. وكيف سبق المصريين القدماء العالم في وضع نظام قياس دقيق جدا، لم يخلف معهم في البناء لا سنتيمتر ولا زاوية واحدة. ووعدته بأن نستكمل هذا النقاش مع متخصصين بعد عودتي للقاهرة. ثم أهداني لوحتين مقاس A4 لمناظير ملونة قام برسمها وهي عزيزة عليه جدا، لكن حبه لمصر قد دفعه لكي يعطينيهما. بعدها، ذهبت لمكتبة الحي، ومكثت بها ساعات، بين القراءة والقهوة، وشراء ما تيسر من الكتب حتى آخر يورو، وحتى ما بقتش قادرة أشيل وكالعادة “ربنا يستر عالوزن في المطار”.
وعدت إلى الفندق، وودعنا بعض ماريا وأنا بالدموع. ولم تتوقف المراسلات بيننا إلى اليوم، أهاديها بأغنيات وائل الفشني. وتهاديني بموسيقى شعبية وأفلام من إخراجها. أما ماجي، فقد توطدت صداقتنا، فنسافر سويا، ونستأجر نفس الغرفة أو الاستديو، ونعمل سويا عبر النت. أصبحت ماجي ابنة خالتي المهاجرة التي تحمل لي في كل لقاء برطمانين مربي الورد.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: دماء ورمال في إشبيلية