سوق محطة مصر.. معلم تاريخي أعدمه البلدوزر
إزالة أقدم أسواق القاهرة من أجل إقامة جراج متعدد الطوابق ومطلع جديد لكوبري أكتوبر
تحت شعار التطوير الذي أصبح مرادفًا لاستباحة معالم القاهرة، اختفى معلم مهم من معالم القاهرة بين ليلة وضحاها، هو سوق محطة مصر، المجاور لمحطة القطارات الشهيرة بقلب المدينة، والذي يعود تاريخ تأسيسه للعام 1910، أي أنه تجاوز القرن بسنوات، لكن هذه السنوات لم تشفع له فتم هدمه منذ شهور قليلة لإقامة موقف متعدد الطوابق ومطلع جديد لكوبري 6 أكتوبر، في ظاهرة باتت متكررة في إزالة المباني التاريخية في القاهرة المعزية لإقامة أماكن انتظار سيارات وكافيهات ومقاهي، فالهدد لا يزال يطارد عمارة القاهرة من مختلف العصور، الأمر الذي يستحق الرصد والإدانة، وفي أضعف الأحوال تسجيل هذه المباني قبل أن تباد ويغيب كل أثر لها.
***
التصريحات الرسمية تعاملت ببرود مع إزالة مبنى يتجاوز عمره المئة عام ويشكل معلم تاريخي للمدينة، إذ كشفت عن أنه تم التضحية بالسوق في سبيل تطوير ميدان رمسيس، إذ تم التخطيط لبناء موقف متعدد الطوابق، عبر إزالة أرض الصوامع وموقف القللي القديم، بالإضافة لإزالة سوق محطة مصر لإنشاء مطلع جديد لكوبري 6 أكتوبر، وخلال الشهور الماضية تم رمي الخوازيق وتم وضع الأساسات.
وصرح اللواء إبراهيم عبد الهادي، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية في مايو الماضي، إنه تم إزالة سوق محطة مصر، في إطار مشروع تطوير ميدان رمسيس، وأنه جاري إزالة عقارين بالقرب من كوبري الليمون للتوسعة ضمن إنشاء مطلع جديد لكوبري 6 أكتوبر بالقرب من الموقف المزمع إنشاءه، على أن يضم الدور الأرضي سوق يضم المحال والباعة الموجدين بالميدان.
***
المدهش أن السوق الذي تم هدمه بأعصاب باردة وفي هدوء القتلة المحترفين، أقدم من سوق باب اللوق الشهير الذي بني بعد سوق محطة مصر بعامين (1912)، ولا تمتلك القاهرة الكثير من هذه النوعية من الأسواق القديمة، التي تعرف بالأسواق المسقوفة، التي تعد امتدادا لظاهرة تاريخية عرفتها المدن الإسلامية منذ قرون بعنوان البازار، والذي نراه في عدد من المدن الإسلامية مثل طهران وأصفهان وإسطنبول، وتتميز بكونها مبنى له مدخل وبوابة عليها اسم السوق وتاريخ بنائه، ثم تدخل إلى ساحة رئيسية تقسم على أربع جهات وبها شوارع داخلية تمتلأ بالمحال التجارية، وهي أماكن جذب سياحية في العديد من هذه المدن.
أما سوق محطة مصر المغدور، فكان يقع عند نهاية تجوالك بشارع السبتية قرب ميدان رمسيس، في مواجهة محطة مصر من جهة الجنوب الغربي، والذي مر على بنائه 114 عامًا، وكان من المفترض ضمه لهيئة الآثار المصرية لكونه يمثل حلقة مهمة من حلقات تطور مباني الأسواق في القاهرة، والتي تعود أقدم حلقاتها إلى العصور الوسطى، وربما يكون النموذج الأشهر هو خان الخليلي في القاهرة القديمة، لكن لا أحد أهتم بسوق محطة مصر، فالمبنى وصلت حالته في السنوات الأخيرة إلى حالة مزرية من الإهمال الرسمي، والتعدي من قبل أصحاب المحلات، فتحول البناء إلى ما يشبه الخرابة.
***
السوق القديم أصبح في سنواته الأخيرة في حالة يرثى لها، فبعد أن كان مقرا للبضائع القادمة من أقاليم مصر المختلفة، أصبح مهجورا من الداخل بعد أن احتل بائعي المأكولات الشعبية مدخل السوق المبني على الطراز الإسلامي، خصوصا طراز الوكالات المملوكية الذي يتكون من أربع جهات يتوسطها ساحة تستخدم في تنزيل البضائع، ويقسم السوق إلى جزئين السفلي لتخزين البضائع وعرضها، والأعلى مقر التجار وعقد الصفقات التجارية.
الهدف من السوق تمثل في خدمة النشاط التجاري المتولد عن موقع محطة مصر للقطارات، والتي تربط القاهرة بمختلف أنحاء القطر المصري، ويقال إنه استخدم فترة كسوق للخضراوات والفاكهة قبل نقل هذا النشاط إلى سوق غمرة، وهو أمر طبيعي لما يمثله موقع السوق من قرب من كوبري إمبابة حيث الأراضي الزراعية الممتدة في محافظة الجيزة والتي كانت تمد القاهرة بالكثير من احتياجاتها الغذائية من خضراوات وفاكهة، وكذلك قرب السوق من الامتدادات الزراعية شمال القاهرة والتي تتداخل مع الأجزاء الجنوبية من محافظة القليوبية.
وكان يمكن استغلال مبنى السوق بعد ترميمه وتجديده في النشاط الثقافي بخلق حيز بهذه المساحة يمكن استغلاله في الأعمال المسرحية وعقد الندوات والحفلات الموسيقية وخلق متنفس ثقافي وحضاري في منطقة السبتية والمناطق المجاورة والمحرومة من مثل هذا المتنفس، لكن يد المقاول كان لها رأي آخر، فبدل الاحتفاء والاحتفاظ بهذا المبنى التاريخي في القاهرة، والذي يمثل حلقة في تطور بناء الأسواق في تاريخ المدينة، ويوفر مساحة يمكن استغلالها في إقامة أماكن ثقافية بالتوازي مع إنشاء مجموعة من الأنشطة ذات البعد الاقتصادي داخل السوق من مقاهي ومساحات عمل وغيرها من أنشطة تدر الدخل مع الحفاظ على قيمة المكان وأصالته، بدل هذا كله تم التوقيع على قرار إعدام المبنى.
***
لم يشفع للمبنى ما يمثله من قيمة تاريخية، فتم التخلص منه بين ليلة وضحاها، إذ تم هدم السوق وإزالته في مايو الماضي، ضمن ما تقول الجهات الرسمية إنه أعمال التطوير الجارية بميدان رمسيس، وإزالة العشوائيات به، وإنشاء موقف متعدد الطوابق لتجميع كل مواقف الميدان لسيارات الميكروباص في مكان واحد، وإعادة تخطيط الميدان لإنشاء مطلع جديد لكوبري أكتوبر بالقرب من الموقف، وهو منطق أصبح حاكمًا لدى الحكومة المصرية التي تعلي من قيمة المشروعات ذات البعد الاستهلاكي على حساب الحفاظ على القيمة التاريخية والتراثية للكثير من معالم القاهرة.
التعامل باستهتار مع تراث القاهرة العمراني ومعالمها التاريخية، أصبح فصولا متواصلة، لم يكن هدم سوق محطة مصر إلا احد حلقات العرض المستمر في هدم معالم القاهرة دون أي منطق، ودون التوقف لبرهة بحثًا عن حلول تحافظ على المباني التاريخية مع الاستمرار في عمليات التطوير الجارية، لكن ما يجري حاليًا هو استسهال في التفكير، فيتم التضحية بالتراث التاريخي للمدينة مقابل مشروعات لا يمكن الجزم بجدواها على المدى البعيد، فالحديث عن بناء موقف متعدد الطوابق على جثة سوق محطة مصر والمنطقة المحيطة، يذكر المرء بالاحتفاء الحكومي بموقف الترجمان قبل سنوات، والذي تحول إلى شاهد ضخم على فشل التخطيط الحكومي.
اقرأ أيضا:
«الجبانات».. وقائع إبادة معلنة