رمضان المصري من طفولة القمر حتى يوم الوداع
يا رمضان يا صحن نحاس
يا داير في بلاد الناس
سوقت عليك أبوالعباس
لتبات عندنا الليلة
******
يا رمضان يا عود كبريت
يا حابس كل العفاريت
سوقت عليك أهل البيت
لتبات عندنا الليلة
******
هكذا يستقبل المصريون رمضان طفلا أو قمرا جنينا، خرج للتو من بطن السماء ليعلن القضاة العدول يوم ميلاده من هنا لا ينبغي التعامل مع رمضان بوصفه “شهرا كريما” فحسب. فقد اتسعت تجلياته بحيث لا يمكن حصره في خانة المفردات المتواترة في معجم المناسبات الدينية أو الاجتماعية. لكنه يبدأ ككل الكائنات الحية بالميلاد، مارا بالصبا والشباب إلى أن يصل للشيخوخة والرحيل.
من هنا فرمضان ليس حلية أو فانوسا يضاء كلما هلت الرؤية، لكنه يصور لنا دورة حياة مكتملة تبدأ بالرؤية: رؤية القمر “يوحا” حين يولد في كبد السماء ويطلع إليه العشاق والمحبون، ينتظرون هلته وإطلالته، يذهبون لرؤياه من الأماكن العالية ويمنح من يراه العطايا كمبشر بميلاد قمر يأتي ليزيح ظلام الجماعة. آتيا بمنظومة من العادات والتقاليد والتعابير والتحايا وعناصر الثقافة المادية.
كما يأتي بلغة تتحصن بالمحبة، السماح، فيخلى للجماعة مساحة تحكى فيها وتغنى وتنشد وتبدع على قدر ولد جاء لتوه كهدية من الله فتمتلئ به حصالة الخير، “فالقرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود” أو ربما تحويشة لمواجهة شر قادم.
رمضان المصري
إن رمضان المصرى رؤية وممارسة، يعيش بيننا أو نستقبله فينا ليتمصر، فكل ما يستلفت العين، وتنصت له الأذن، وتتشممه الأنوف يؤكد على مصرية رمضان، أو على وجه أكثر دقة انخراطه في معية الجماعة الشعبية بزيه المصري، فالسماء الولادة خصت جماعتنا بولد جميل اسمه رمضان، فالكل يتسابق في دعوته للمبيت ليلة واحدة في داره، وهم يسوقون الأولياء عليه ليسترضوه ويدعونه لمباركة المكان الذى سيبيت فيه.
يأتي إلينا وكأنه قد مارس طقس العبور من الدين إلي الجماعة الشعبية، فهي تسعد حينما يكون الدين يدا بيد مع ما تشربته الروح المصرية من إرث ثقافي هو العرق الذي حفظ لنيلها الفولكلوري بقاءه. فظل مستمرا يمزج بين العناصر بعد أن تصهرها روحه أو يستبدل أو يعدل، لكن يظل الدين جليا في الشعبي، والشعبي قادرا على الصمود .فليس غريبا أن تجد أغنية ليست رمضانية لكنها تؤكد الفكرة مثل:
يا طالع الشجرة
هات لي معاك بقرة
تحلب وتسقيني
بالمعلقة الصيني
والمعلقة انكسرت
يا مين يربيني
رباني عبدالله
وأنا زرت بيت الله
لقيت حمام أخضر
بيلقط السكر.
هكذا تتجلي شجرة الحياة لتحمل بين فروعها مزيج العناصر. وكأنها طراحة لأبقار ترضع المعرفة/ الخير/ الحق/ الجمال، ولما لا وهي ليست بقرة أسطورية كما يدعي البعض، أو خيالا شعبيا شطح عن مجراه المعتاد. إنها حتحور ربة السماء التي أرضعت حورس. وقد كانت ربة للأمومة والموسيقي والبهجة هكذا تقيم الجماعة الوصال بين الدين والسعادة لتواصل البحث عن الحق حينما ينكسر الوسيط “المعلقة انكسرت”. فيكون الملجأ عبدالله و زيارة بيت الله دون تحديد لطبيعتهما، لكنهما يتحددان في الدين برقة مداخله وحنوه كما تراه الجماعة لقيت حمام أخضر.. بيلقط السكر.
ليلة الرؤية
كان القضاة هم شهود الهلال، يشاهدونه ليعلنوا ميلاد شهر، علي دكة يقال لها دكة القضاة، لتصبح شاهدا من أعلي منطقة في جبل المقطم علي الرؤية. وكان الخليفة الفاطمي يتهيأ لاستقبال الهلال بملابس تليق بميلاد قمر. حينها يخرج من باب الذهب ومعه الوزراء بخيول سروجها مذهبة وفي أيديهم تلمع السيوف والرماح المذهبة والمفضضة، ليداعب الهواء راياتهم الحريرية الملونة، تصحبهم الموسيقى. وتكون الحوانيت قد أسلمت واجهاتها للزينات. هنا يبدأ ركب الاستقبال مارا من باب القصرين، إلي باب النص، و يا له من نصر للفقراء والمساكين حين توزع الهبات والصدقات والأفراح الصغيرة:
لولا البيت ده ما جينا يالله الغفار
ولا وقفنا ولا حـوينا يالله الغفار
حل الكيــس وادينا يالله الغفار
تـدينـا مـا تدينـا يالله الغفار
تدينا ميتيـن جنيـه يالله الغفار
ميتين جنيه مايكفونا يالله الغفار
ولا يودونا على بر الشام يالله الغفار
نجيب الخوخ ويا الرمان يالله الغفار
ونجيب زعاقة العصفور يالله الغفار
اللي تنادى ع الجسور يالله الغفار
وفي تطور لاحق كان المماليك يسمون ذلك يوم الارتقاب، بما يحمل من معاني الشوق والحنين تليق بغائب طال انتظاره. وهنا يستقبل بالمشاعل والفوانيس. أما الآن فإن الهلال قد صار في علب زجاجية تنوعت بين شاشات التلفزيون والكومبيوتر. وتواري خلف العمارات القبيحة، حين أرادوا له الظهور في مجموعة من العبارات التي تؤكد حضوره الرسمي البليد.
فانوس رمضان
إدُّونا العادة
لبده وزيادة
والفانوس طق طق
والعيال ناموا
ناموا ما ناموا
بعدها صاموا
وإدُّونا العادة
لبده وزيادة
لفتني تسمية الأخوة الأقباط لأسمائهم بفانوس، وهو اسم منتشر بينهم، فأعادني إلي النيروز الذي يؤكد البعض أنه عيد الربيع عند الفرس، طيب، وماذا يعني اسم ناروز عندنا غير الضوء. وها نحن نرى معظم فلاحي مصر وهم يطلقون علي كوة في البيوت الطينية اسم “ناروزه”.
فالفانوس قديم في مصر، قدم اكتشاف الشموع، قدم المعابد، قدم معرفة الإله، واكتشاف الضوء والظلمة، وتتبدي المصرية في ارتباط الشموع بالسبوع كطقس احتفالي. لكن الفانوس ارتبط بميلاد هلال ودولة في آن واحد حينما استقبل المصريون هلالهم ومعه المعز لدين الله الفاطمي الذي وصل القاهرة ليلا، فكان الاستقبال بالفوانيس والمشاعل أكان الفانوس حلما انتقاليا، مساحة ضوء بين زمنين، ليتحول فيما بعد إلي فانوس/ ضوء، يحمله الأطفال كأن كل واحد يحمل قمره، أو رمز الضوء:
وَحَوِىِ يَا وَحَوِى.. إيَّاحَا
وكمَانْ وَحَوِى.. إيَّاحَا
بِنْتْ السُلطانْ.. إيَّاحَا
لابْسَهْ الفـُسْتـَانْ.. إيَّاحَا
مِنْ بـِدْعْ زَمَانْ.. إيَّاحَا
أحْمَرْ واخْضَرْ.. إيَّاحَا
طرَابيشْ عَسْكَـَرْ.. إيَّاحَا
وِوَحَوِىِ يَا وَحَوِى.. إيَّاحَا
وبعد أن عبر تاريخا طويلا جاء الفانوس الصيني ليصدر إلينا مرة أخري أغانينا الشعبية. وكاد أن ينهي علي حرفة عريقة، ورمز مصري. فهل بمقدورنا أن نستعيد جزءا مهما من أرواحنا التى ضلت بعيدا، وأن نستعيد مع أطفالنا أغنياتهم وهم يحملون الفوانيس:
فانوسي أحمر
جميل منور
بابا جابهولي
من عم أنور
أنواره والعة
والشمعة والعة
يا رب أكبر
واصوم وأفطر
واجيب لماما
فستان مشجر
المسحراتي
من الفنون الشعرية المرتبطة برمضان؛ فن القوما، الذى اشتق مصطلحه من تريد المسحر لعبارته “قوما للسحور” ويعد ابن نقطة واحدا من أشهر المسحرين، وكذا فن الكان وكان. وهو فن شعرى، له وزن واحد، وقافية واحدة، لكن الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني.
وقد سمى بهذا الاسم لأنه في مبتدأ نشأته لم يكن ينظم فيه سوى الحكايات والخرافات والمنصوبات، والمراجعات. فكان قائله يحكى ما كان وكان. لكنه اتسع بعد ذلك ليضم المواعظ والرقائق والزهديات والأمثال والحكم، فتداوله الناس.
ويعرف الكان وكان في مصر بالزكالش نسبة إلى ابن نقطة وهو أشهر من برز في قوله، والزكالش نسبة إلى أنه كان “يزكلش” في الأسواق ـ أى يدور مغنيا ـ وكان يسحر الناس في رمضان. ويعرف هذا النوع من الفن بالبطائحى نظرا لتولع أهل البطائح به، وينظم بأربعة أقفال أو أغصان ولا يشترط أن تكون من قافية واحدة. غير أن يشترط أن يكون القفل الرابع مردوفا بحرف من حروف العلة.
وتسمى الأقفال الأربعة بيتا، ووزن الكان وكان من عروض المجتث، مستفعلن فاعلاتن، وهو يشارك فن الواو في وزنه، وإن ألزم الشعراء الواو بالجناس الكثيف المشفر بينما سنجد الكان وكان أكثر حرية في نظامه:
قم يا مقصر تضرع.. قبل ان يقولوا كان وكان
للبر مجرى الجواري.. (في البحر كالأعلام)
حينما تأخذك النشوة وأنت تسمع المسحر العظيم فؤاد حداد يقول: “حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال، وكل حته وشبر من بلدي .. حته من كبدي .. حته من موال .. رمضان كريم”، ستتأكد أنه سليل ابن نقطه الذي ترنم بفن القوما. ذلك الفن الذي اشتق اسمه من قول المغنين للتسحير في آخر كل بيت منه، بعد غناء الرمل أو الزجل: قوما للسحور، ينبهون به رب المنزل، ويذكرون فيه مدحه، والدعاء له، وتقاضيه بالإنعام، فانطلق هذا الاسم وصار علما له. وقد نظم فيه الغزل والعتاب الزهري. ومن نماذجه التي ذكرها صفي الدين الحلي في كتابه العاطل الحالي والمرخص الغالي:
حال الهوي مخبور/ يريد جلدا صبور يصون/ سرو والا / يبقي من أهل القبور من كان هواه مستور/يحظي برفع الستور/ومن هتك سر حبو/يمحي من الدستور. لكن يظل حداد علامة مصرية خالصة، كأنها يوقع علي البازة (مستفعلاتن /5 /5//5/5 — مستفعلاتن /5 /5//5/5) لتقوم الأرواح من غفوة الركون للقوالب التي انهكت شعرا.
أكان حداد يوقع نصه وهو يتسمع إلي ضربة الجلدة على البازة، حينما يقول المسحراتي: عز من يقول لا إله إلا الله، (تن تتن تن تن) محمد الهادي رسول الله، (تن تتن تن تن )، وأسعد لياليك، يا ابن فلان ((تن تتن تن تن) ليتواصل الإيقاع موقظا. أين المسحراتي؟ هل أصبح علي رأي المثل أمام سطوة الإضاءة والفضائيات “بيطبل في المتطبل”. لا بل يقاوم بقاءه قارعا البازة ومقرظا كل من يقول إنه لم يعد له فائدة، فنحن بحاجة إلى “مسحراتي” لا يكف عن دفق الوعى في أرواحنا طوال الوقت.
الأغنية الشعبية
نحن بحاجة حقيقية لجمع عادات وتقاليد وأغاني وصناعات وأطعمة رمضان، فهو جماع لها، والذاكرة ملآنة بالأغاني لكننا لسنا في معرض لذكرها. وإنما التنبيه بمنطق المسحراتي كلما استمعت إلى أغنية شعبية رمضانية ستجد يوحا أو وحوي أو إياحا أمامك، ينير لك الطريق إلى المعنى، إن أيوح هو القمر في اللغة المصرية القديمة، فالشهور القبطية قمرية أيضا، وأيوح ملكا للجميع، يستدعونه الأطفال ويغنون في جماعية مجلجلة:
طلعنا الجبل/ يوحا
قابلتنا قطيطه/يوحا
لقيت محجوب/ يوحا
راحت بو السوق/ يوحا
جابت بو حنه/ يوحا
حنت إيديها/ يوحا
حنت رجليها/ يوحا
الكعب التاني / يوحا
أحمر سلطاني/ يوحا
ضهري مكسور/ يوحا
يا بابور السكة/ يوحا
رايح علي فين/ يوحا
وتتواصل الجذور معلنة عن نفسها لتغني حالو يا حالو أليست العلاقـة قائمة بينها وبين هالو وبينها وبين الهالة. ففي المصرية القديمة هالا بمعني حلاوة. فالقرآن جائز بينها وبين مفردة الله وهي تعني السمو والرفعة والعلو. وكذا بينها وبين الحلاوة بمعني الجمال والاستحسان. لطغيان ثقافات أخرى على عناصرنا، مرة بإعادة تصديرها عبر وسائطها، وأخري عبر محوها، وثالثة بالانتصار عليها.
التوديع
رمضان في الكتاب بيمسح لوحه
فاضل تلت دقايق وتطلع روحـه
إن قراءة النص السابق تؤكد أن رمضان لم يبرح كونه طفلا أو صبيا يتعلم ويحفظ القرآن. يشاهده المحبون وهو يمحو اللوح ليودعنا، أو ربما ليكتب فوق لوحه من جديد حكاية أخرى لحياته وحياة من يعيشون معه وفيه. وتحدد الجماعة الزمن في ثلاث دقائق هي مدة طلوع روحه. وهو ما يجعل الوداع قاسيا، فكما يولد القمر، ينمو ويعيش بيننا عمرا قصيرا لكنه يعشق وداعه بما يليق بقمر مكتمل.
فالاكتمال قرين الموت، لا أوحش الله منك يا شهر الصيام.. يا شهر الخير والبركات. تتردد الكلمات مع الدموع: “رايح وسايبنا لمين يا رمضان.. عديت بسرعه وماشي مستعجل”. كأنها عدودة في شاب يافع ترك أهله، فالمصريون يمارسون طقس العبور من زمن إلي زمن، وبعضهم يقوم وهو يودعه بحمل بعض الصفائح ليدق عليها حتي يهرب الشيطان.
فرمضان سيرحل وسيفك الشيطان حبسه، هيهات يحلمون. فالشيطان أصبح في بيوتنا. وفي أوطاننا يمارس غزوه وسيطرته في زي الاستعمار الجديد. لكن أبناء البلد لا زالوا قادرين على المواجهة بالعمل رغم “العزول”. يغنون وهم يختتمون غناءهم الرمضاني بـ”الله حي” لتكون الجملة دافعهم للحياة والعمل والمواجهة: مَحَمَدْ قـَاعِدْ.. عَلىَ مَاكـَنِيتـُهْ.. بـِيْخَيَّط في بَدْلِيتـُهْ*.. لـُوُلا الـَعَزُوُلْ الخَالِي.. لانـُط واجـِيلـُهْ.. وانـَوَّرْ قـَنـَادِيلـُهْ.. اللهْ حَىْ.
اقرأ أيضا
«أكيدولا» أو جحا المصري في حلايب وشلاتين (1)