د. جليلة القاضي: جبانات القاهرة تراث عالمي.. والقانون يحميها (1-2)
أكثر من 35 عاما قضتها الدكتورة جليلة القاضي في دراسة تاريخه جبانات القاهرة، وعمارتها، وكانت صاحبة أول وأهم كتاب مطبوع عن تاريخ هذا الجبانات المستهدفة الآن بالهدم. لم تكتف بالدراسة، ولكنها خاضت العديد من المعارك لمنع هدم أيه جبانات داخل حيز القاهرة التاريخية، بل اعتبرت الدفاع عن هذه الجبانات بمثابة “واجب مقدس” فهي تراها امتدادا لثقافة المصريين القدماء والذين أولوا اهتماما للحفاظ على مقابرهم، كما تراها تعبيرا عن هوية مصر في كافة مراحل تطورها عبر التاريخ.
“باب مصر” يحاور جليلة القاضي أستاذ التخطيط العمراني بجامعة باريس، ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية (IRD) عن أهمية هذه الجبانات والخطوات القادمة التي سيتم اتخاذها في محاولة وقف تلك المحاولات.
حدثينا عن بداية مشوارك في الدفاع عن الجبانات داخل القاهرة؟
منذ 35 عام وأنا أعمل على دراسة الجبانات. فكنت أذهب لقرافة باب النصر لمسحها عندما كنت في مرحلة الحمل في ابني. وبعد أن وضعته كنت أذهب به إلى القرافات وكان لا يزال عمره عدة أشهر وقتها. فقد عاش ابني معي جميع تلك المراحل عندما قمت بعملية رفع لتلك الجبانات. ثم بدأت مرحلة جمع البيانات، وهي مرحلة صعبة للغاية. إذ إن هناك كم كبير من البيانات حول هذا الموقع التي قمنا بالإعداد عنها. فتخيل أن دراسة الموقع استمرت من سنة 1986 إلى سنة 1990. وبعد ذلك بدأت مرحلة الكتابة، ثم مرحلة النشر. وتلا ذلك معركة الصراع لبقاء الجبانات، فكل هذه المراحل عاصرتها، لذلك موضوع الجبانات هو “صلب” اهتمامي. فصحيح أنني مهتمة بالتراث سواء في مصر أو في العالم كله، لأني أتضامن مع أي تراث يهدد في العالم كله، ولا أملك أي تمييز في أشكال الدفاع على التراث المعماري أو العمراني.
بعد تعيينك في المركز القومي للبحوث في فرنسا وانتدابك لكلية التخطيط العمراني بالقاهرة.. لماذا استحوذ سكان الجبانات على اهتمامك وأجريت العديد من الأبحاث بشأنهم؟
كان ذلك سنة 1984، عندما عينت في المركز القومي للبحوث هنا في فرنسا، بعد أن انتهيت من رسالة الدكتوراه. وقد انتدبت للقاهرة سنة 1984 وتحديدًا في كلية التخطيط العمراني، وأردت وقتها القيام بأبحاث علمية لمناطق الفقراء، أو ما يمكن وصفه بـ”المستبعدين من قطاع الإنتاج الرسمي للمساكن”. وعندما انتدبت بكلية التخطيط العمراني كنت على علاقة بـ”الهيئة العامة لأبحاث الإسكان والبناء” ووقتها اهتموا بإعداد دراسة حول”سكنى الجبانات”. وفي ذلك الوقت وجدنا أن هناك حملات إعلامية تحاول تضخيم موضوع سكنى أحواش الجبانات. إذ قالوا وقتها إن قاطنيها تتراوح أعدادهم ما بين مليون إلى 2 مليون ساكن، في وقت لم يكن هناك أي أرقام حقيقية لهؤلاء السكنى من خلال أية دراسات.
لذلك قامت هيئة بحوث البناء بتحديد نقاط لدراسة هذا الموضوع. وبالفعل قمنا بالتعاون سويًا لتحديد حجم المشكلة ولوضع حلول لها. وفي سنة 1985 عندما بدأت الدراسة لم أكن قد زرت القرافة لمدة 15 عام، بسبب تواجدي خارج مصر. فقد كنت أذهب إليها وأنا صغيرة مع أسرتي وقد اعتدنا الذهاب إلى القرافة والمبيت داخلها. فطفولتي مرتبطة باللعب واللهو داخل النطاق الجغرافي للجبانات، وقد اعتدنا على هذا الأمر.
لكن عندما رجعت إلى مصر بعد 15 عام وجدت أن الوضع اختلف تماما عن السابق. وبدأت بالنزول إلى الجبانة الشرقية حول مجموعة برقوق وقايتباي، وانطلقت من هذه النقطة، واكتشفت أن هناك حي سكني متكامل يشبه الأحياء السكنية الموجودة بالقاهرة التاريخية؛ بكل خدماته.
قسمت السكن في الجبانات إلى نوعين بعد إجراء الدراسات والأبحاث.. حدثينا عنهما؟
مع تطور الدراسة بدأت أفهم أن هناك نوعين من السكن في الجبانات؛ النوع الأول هو السكن في الجيوب السكنية التي تقع حول المنشآت التاريخية، مثل منطقة عرب الصعايدة الواقعة حول مجموعة برقوق وقايتباي، والمنطقة الواقعة حول الإمام الشافعي والإمام الليث والتونسي. ووجدت وقتها أن هذه الجيوب السكانية من السهل تحديد عدد سكانها من خلال التعبئة والإحصاء.
أما النوع الثاني من السكن فهو السكن داخل المباني والأحواش المسيطر عليها من قبل “الترابية” لذلك يمكننا أن نعتبر أن الشريحة الأفقر في المجتمع المصري هم سكنى الأحواش والجبانات لكن لعدم قدرتنا على تحديد عدد سكان الأحواش. فقد كان معي فريق كبير من الباحثين بالمركز، وانضم إليهم بعد ذلك فريق آخر من كلية التخطيط العمراني.
وقمنا بعمل مسح كامل للأحواش كي نعرف عدد السكان، وتوصلنا بالفعل إلى أن عدد سكان هذه الجبانات حوالي 175 ألف ساكن في كافة مناطق الجبانات بأكملها، منهم 15 ألف ساكن في الأحواش. وهذا العدد لم يكن كبيرا مثلما زعم البعض في تلك الفترة.
واكتشفنا شيء أكثر أهمية من رصد أعداد سكنى الجبانات. إذ انتبهنا وقتها إلى القيمة التاريخية، والرمزية، والجمالية لهذه المناطق. لذلك قررنا أن تتناول دراستنا هذا الجانب المهم. وبدأنا نطالب بتقديم دراسات أكثر تفصيلا، كي تسجل تلك المناطق، لأنه لم يكن هناك جهاز للتنسيق الحضاري بعد. ورغم ذلك وضعت مناطق الجبانات سنة 1979 على قائمة التراث العالمي، وبالتالي أصبح هناك قانون دولي يحمي تلك الجبانات من أي اعتداء.
من وجهة نظرك متى كان أول اعتداء على هذه الجبانات؟
أول اعتداء تم على الجبانات كان عند تنفيذ طريق “صلاح سالم”. إذ حدثت وقتها عملية فصل للسيدة نفيسة عن نطاق الجبانة الجنوبية والإمام الشافعي من خلال تنفيذ طريق صلاح سالم. وقد أزيلت الكثير من الأحواش التي للأسف لا نملك أي إحصائيات عن أعدادها، لكن وقتها لم يكن هناك أي فكرة عن الحفاظ عن التراث. إذ لم تتبلور هذه الفكرة في ذلك الوقت على الإطلاق.
بالإضافة إلى أن ذلك تم في وقت لم تكن القاهرة موضوعة على قائمة التراث الإنساني، فطريق صلاح سالم بدأ بنائه سنة 1952، وكان هناك بالفعل تخطيطات أولية لهذا الطريق قبل ثورة 1952، وبالتالي عندما نفذ هذا المشروع لم يحتج أحد وقتها على المشروع، لأنه لم يكن الحفاظ على التراث المعماري والعمراني من ضمن اهتمامات الصفوة، أو الطبقة الحاكمة، أو حتى المثقفين في ذلك الوقت.
وكيف تصديت لهذا الاعتداء؟
نشرنا البحث على مراحل، وقد صدر الكتاب سنة 2000، لكن قبل ذلك نشرنا عدة مقالات حول هذا الموضوع، فأول مقال نشرته كان في الأهرام الاقتصادي، وكان ردا على وزير الإسكان وقتها حسب الله الكفراوي، والذي صرح في الأهرام. وقال: “إن هدم جبانات القاهرة سيتم بمباركة السماء” ووقتها لم يكن لي أية طريقة للنشر في وسائل الإعلام. لكني أرسلت المقال لصحفية في الأهرام الاقتصادي، والتي نشرته وخلال المقال تحدثت عن خطورة الأمر. وقد قرأ الكفراوي المقال واستجاب بالفعل واتصل بي لمقابلته، فذهبت إليه وقابلته، وعرضت عليه نتيجة الدراسة والاقتراحات التي بين أيدينا للحفاظ عليها.
وقد قدمت له اقتراحات حول سكنى الجبانات، وقد أخبرته أن هذه المشكلة ليست عصية على الحل أبدا، وأوضحت له أنماط السكن داخل تلك الجبانات. وقلت له إن الحل هو نقل سكنى الأحواش لأماكن قريبة. أما بخصوص الجيوب السكانية فقد قلت له إن هناك حلول أيضا لها.
وبعد الاجتماع رحب حسب الله الكفراوي بما قدمته من حلول ووجدته يقول: “إنتِ اشتغلتي في الهيئة هنا حوالي سنة ونصف روحي كوني فريق عمل داخل الهيئة وضعوا مخطط هيكلي واقتراحات”. فهذا الموقف وقتها كان عظيما أن يخرج من وزير إسكان، لأني وقتها لم أكن معروفة أبدا بالنسبة للكثيرين، لكنه استجاب للمقترح.
وبالفعل ذهبت لزملائي السابقين بالهيئة كي أكون فريق عمل، فهم كانوا أكبر مني سنا، وبالتالي لم يرحب أحد بي بسبب “الغيرة” فنسفوا المشروع بشكل كامل وقتها، إلا أن فكرة إزالة الجبانات لم تطرح مرة أخرى بعد ذلك.
وفي سنة 1990، قاموا بهدم جزء من جبانة باب النصر لعمل عملية توسيع للطريق، وللكشف عن سور القاهرة الفاطمي. وبالفعل قاموا بهدم جزء من هذه الجبانة الهامة، والتي لها طابع خاص جدا، فهذه المقابر صممت من الخشب وقد صدر لها قرار سنة 1932 بمنع الدفن فيها، فهي تمتاز بتنوع المقاصير بداخلها وبالثراء الفني والزخرفي، لذلك كانت تلك هي المحاولة الأولى لعملية هدم القرافة.
“من سنة 1990 إلى 2007” لم يتحدث أحد عن فكرة إزالة الجبانات بل تركوها تتدهور.. بم تفسرين مقولتك هذه؟
بالفعل كانت هناك محاولات اجتزاء الجبانات؛ حيث مع تفاقم مشكلة الإسكان زاد عدد سكنى الأحواش. وخلال نفس الوقت عندما نفذت شركة المعادي مجموعة المساكن في الأرض المقابلة لعين الصيرة، ألقت بكل “الرتش” في البحيرة. مما أدى لارتفاع منسوب مياه البحيرة، والتي تسربت إلى جبانات الإمام الشافعي.
لذلك حدث تدمير لأحواش ذات قيمة عالية جدا مثل: حوش السلحدار الذي هو بمثابة مدينة للموتى، بالإضافة إلى زحف المناطق العشوائية لهذه المقابر وتحديدا المنشآت الجنائزية الكبرى، فمجموعة قايتباي والتي تعد من أروع المجموعات بالنسبة للفن الإسلامي في العالم كله وقد امتد الزحف العمراني إليها هي الأخرى، والذي أدى لحدوث الكثير من التشوهات. سواء من خلال التكثيف من الجيوب السكانية والسكنى في الأحواش، أو من خلال ارتفاع منسوب المياه الأرضية.
واستمر الوضع هكذا إلى أن نفذت الأغاخان مشروع حديقة الأزهر، ووقتها تواصلت الأغاخان معي وأرادوا التعاون لتطوير الجبانة الشرقية والتي أرادوا أن تكون حديقة جنائزية. وأنا كنت قد وضعت في كتابي مخطط هيكلي للأحواش ذات القيمة والأماكن التي تحتاج لإعادة إحياء، بجانب اقتراح لكل منطقة وأنواع التدخل داخلها. إذ أردنا تحويل الجبانات إلى حديقة جنائزية، بجانب دراسة الفراغات العامة، وقد وضعنا باب النصر نموذجا من خلال وضعه كحديقة جنائزية.
وقتها كانت كان هناك مخطط فرنسي لتطوير القاهرة، وأدرجوا دراساتي ضمن مخطط مناطق الجبانات. لذلك تواصل الأغاخان معي، لتنفيذ المشروع، ولم يكتمل المشروع في نهاية الأمر.
إلى أن قابلت الأستاذ سمير غريب.. وكان وقتها رئيسا للجهاز القومي للتنسيق الحضاري. فقلت له إن المنطقة تحتاج لدراسات مكتملة.. نظرا لعدم اعتراف هيئة الآثار بأثريتها. بينما في الحقيقة أنه طالما هناك موقع أثري معين، فما حوله هي مواقع أثرية وفقا للقوانين الدولية والمحلية، والتي تشرح فكرة التعامل مع الموقع الأثري، لذلك هم دائما ما يتبنون تلك النبرة، لأنهم يعرفون أن العامة وجزء كبير من المثقفين لا يعرفون، الفارق بين الأثر والتراث.
وكم عدد الآثار الموجودة بالجبانتين الجنوبية والشرقية؟
هم حوالي 75 أثرًا مسجلين ضمن عداد الآثار. وهم يمثلون 15% من الآثار الإسلامية القبطية داخل مصر، وهو عدد ليس بالقليل بالطبع، فالمفترض أن لكل أثر منهم حرم خاص به. فلو نفذنا قرارات الحرم بواقع 500 متر حول كل أثر مثلما جرى العرف في فرنسا وجميع دول العالم. فهذا يعني أن المنطقة بالكامل ستكون محمية من أية اعتداءات أو محاولات تشويه، لذلك فالآثار لا تنفذ القوانين التي وضعتها.
وعندما عرضت الأمر على الأستاذ سمير غريب قاموا وقتها بإعداد دراسة لتحديد قائمة الأحواش. وأعتقد أن ذلك كان سنة 2009. وقد ذهبوا لمحافظة القاهرة والآثار، إلا أن الأخيرة لم تسجل أيًا منها ضمن عداد الآثار. لكن سجلت المنطقة كتراث.
إلى أن جاءت فكرة إقامة مشروع “أبراج نصير” بالقرب من قلعة الجبل. إذ أرادوا بناء تلك الأبراج وعندها بدأت الصورة تتضح لنا جميعا، لأننا أدركنا أن تلك الأبراج سوف تكون بداية الزحف على منطقة الجبانات. وعندها بدأت نغمة إزالة الجبانات من قبل هيئة التخطيط العمراني.. فنشرت مقال في مجلة “وجهات نظر” وذهبت للدكتور مصطفى مدبولي الذي رحب بي. وأهديته نسخة من كتابي.. وقال لي إنه يعي بضرورة الحفاظ على تراث القاهرة.
وقال لي إن رسالته للدكتوراه كانت عن القاهرة التاريخية. وأكد لي على أنه لن يحدث أي مساس بجبانات القاهرة.. لكن فوجئت بعد ذلك بفترة أن هناك مخطط 2050 والذي يحمل فكرة إزالة تلك الجبانات. فهذه كانت محطة أخرى من محاولات التخلص من الجبانات، خلال رحلتي الطويلة للحفاظ عليها.
غذا نواصل بقية الحوار
اقرأ أيضا:
د. جليلة القاضي: سأعود لمصر في حالة إعادة النظر في مخطط الجبانات (2-2)