خيري حسن يكتب: نهارك سعيد.. يا عم نجيب
(مصر القديمة ـ 2021)
كنا في شهر ديسمبر من ذلك العام عندما ذهبت مع صديق لزيارة مديره في العمل. الرجل كان يسكن في منطقة (شعبية- إن شئت الدقة- عشوائية) يُطلق عليها (عزبة خير الله) ـ تقع فوق صخرة جبلية مرتفعة بعض الشيء على حدود زهراء مصر القديمة. في الطريق تراجعت ـ لم أعرف وقتها أسباب لهذا التراجع ـ عن استكمال الزيارة معه. وقلت له: “أذهب أنت.. وسوف انتظر هنا على مقهى صغير بالقرب من محطة المترو.. وبالفعل ذهب. وبالفعل جلست!
على المقهى مر الوقت سريعا وأنا أحتسي الشاي وأسمع أحاديث، ومناقشات، ولعنات، وضحكات، وحكايات، رواد المقهى التي لا تنتهي عن الحياة، والبشر. والصحة، والمرض. والغربة والسفر.
ـ “تشرب إيه يا أستاذ” ؟ هكذا باغتني النادل بسؤاله الجاف والحاد!
ـ قلت بصوت هادئ تاه وسط الضجيج: شاي بالنعناع من فضلك!
بعد دقائق انتبهت إلى شاشة التلفزيون أمامي، فوجدت عليها الفنان يحيي شاهين (سي السيد) وأمامه الفنانة أمال زايد (الست أمينة). الصوت ضعيف لا يصل بسهولة إلى أسماعنا من شدة الضجيج بالداخل والخارج. بعد دقائق لاحظت حالة اندماج، وتركيز، غريبة، ومدهشة بين رواد المقهى الذين هم- هكذا تشير ملامحهم- من أبناء الريف، وقد نزحوا من قراهم بسبب الفقر بحثا عن لقمة العيش في العاصمة. هذه الحالة أمام الفيلم الذي كان- فيما أظن- (بين القصرين) تكشف، وتؤكد إلى أي مدى عشق الجمهور شخصية (سي السيد) خاصة وهو يعلن غضبه، ويرفع صوته، لحظة هجومه، واستجوابه وسؤاله الشهير للست أمينة وهو يقول لها: “يعني خرجت من البيت من غير إذني يا أمينة”؟
ورغم أن الفيلم أُنتج عام 1964؛ إلا أن حالة الاندماج، والتعايش، والتركيز التي رأيتها على وجوه رواد المقهى تدعو للدهشة، والتأمل، والعجب، وتؤكد على عبقرية نجيب محفوظ التي لا تحتاج إلى تأكيد.
***
هذه العبقرية هي التي جعلت إبداعه يستمر ويبقي ـ وسوف يستمر ويبقي.. ما بقيت الحياة!
بعد لحظات دارت في رأسي أفكار كثيرة، ومتنوعة، ومتتالية، ومتشابكة، لكن ظلت فكرة نجيب محفوظ (ككاتب صحفي ـ إذا جاز الوصف والمعني) تُسيطر على تفكيري وذهني، وأنا جالس في انتظار صديقي الذي ذهب ولم يعد حتى الآن!
(المقهى ـ بعد 30 دقيقة)
الفكرة التي سيطرت على عقلي هي تحويل مكتب نجيب محفوظ في الدور السادس بمؤسسة الأهرام إلى ما يشبه المتحف الصغير. هذا المكتب كان من قبل مخصص للكاتب الراحل توفيق الحكيم عندما كان الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس مجلس إدارة الأهرام ونجح ـ عن قناعة، وذكاء، ووعى ـ في أن يجعل الدور السادس بالأهرام يضم كبار الكتاب، وفي المقدمة منهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم. وبعد رحيل توفيق الحكيم في يوليو 1987 انتقل نجيب محفوظ إلى المكتب.
يقول نجيب محفوظ: “في الأيام التالية بعد إعلان الجائزة- جائزة نوبل- كانت أعصابي في أسوأ حالاتها، بسبب شدة الزحام وضيق البيت وعدم قدرته على استيعاب الزائرين. وما أن علما إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس التحرير بالأمر من الصحفي فتحي العشري، حتى أصدر قراره بفتح مكتب توفيق الحكيم، وتخصيصه لي كي أستقبل فيه الزوار والضيوف من مصر والعالم” إذن ما المانع في أن يبقى هذا المكتب يستقبل زوارا وباحثين ومحبي أدبَ نجيب محفوظ ليكون مزارا بعدما يتم جمع تراثه الصحفي، وصوره، ومقالاته، وحاورته في الصحافة المصرية والعربية والعالمية منذ أن أقنعه محمد حسنين هيكل بالعمل ـ ككاتب ـ في الأهرام. وهذا إذا حدث فمن المؤكد ـ بجانب المتحف الذي يحمل اسمه ـ سيضيف للصحافة بصفة عامة وللأهرام بصفة خاصة، ولمصر أيضا وهي تحتفل بذكرى ميلاد- كان هذا في العام الماضي) أديب نوبل الذي تفخر به العواصم العربية كلها وليست القاهرة فقط.
(المقهى ـ بعد 40 دقيقة)
كنت قد فرغت من كوب الشاي الثالث عندما اتصلت بالأستاذ عبدالصادق الشوربجي، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة والرجل مشكورا استمع للفكرة بكل اهتمام وترحيب ثم قال: “عظيم.. هذه فكرة رائعة والهيئة الوطنية للصحافة ستدعمها بكل ما لديها من تراث نجيب محفوظ، وسنقوم بتجميع كل إنتاجه وإبداعه من كافة المؤسسات الصحفية، ليتم وضعه بطريقة علمية، ومهنية، وبحثية، متطورة وحديثة في مكتبه بالأهرام- بعدما يتم إخلاؤه وتجهيزه- ليتاح البحث في أرشيفه لكل دارس أو باحث سهولة، ويسر، طالما أصبح كل هذا في مكان واحد وهو مكتبه التاريخي بالأهرام. وسأكون ـ إذا نجحت فكرتك ـ أول من يحضر حفل الافتتاح.
ثم قال بجدية واضحة في صوته أو هكذا فهمت: “ليس عليك الآن سوي الاتصال بالأستاذ عبد المحسن سلامة رئيس مجلس إدارة الأهرام ـ وهو صديق أعتز به ـ وتخبره بما دار بيني وبينك ثم تبلغني بما اتفقتما عليه حتى نبدأ في تحويل الفكرة إلى واقع عملي ليصبح المكتب مزارا صحفيا، وفكريا، وثقافيا، وأدبيا ومنبرا- من خلال الصحافة المصرية- نفخر به جميعاَ في الحاضر والمستقبل!
بعد دقائق أغلقت الخط ودفعت حساب المقهى وخرجت إلى الشارع سعيدا حتى أني اتصلت ـ وأنا فرحان بالطبع ـ بالصديق الدكتور محمد عبدالباسط عيد (الناقد الأدبي) أخبرته بهذه الخبر الرائع!
(الشارع ـ بعد 50 دقيقة)
في نفس الوقت بدأت محاولة الاتصال بالأستاذ عبدالمحسن سلامة حتى أخبره بما دار بيني وبين الأستاذ عبدالصادق الشوربجي لكن كل محاولات التواصل والاتصال به باءت بالفشل. حتى أنني ركبت المترو وقتها، ولم أنتظر صديقي على المقهى كما كان الاتفاق بيننا!
(نقابة الصحفيين- بعد أسابيع)
ذات صباح بارد في شهر يناير ـ أول هذا العام ـ التقيت بصديق ـ هو شخصية مرموقة في الأهرام ـ وتحدثت معه عن الفكرة وترحيب الهيئة الوطنية بها وفشلي في الوصول إلى رئيس مجلس إدارة الاهرام. احتسي الزميل الشاى أمامي ثم اشعل سيجارته وقال: “بقى أنت عايز الأهرام يحول مكتب نجيب محفوظ إلى مزار صحفي وثقافي”؟ قلت: نعم!
رد: “لن يفعلوا ذلك”!
ـ لماذا؟
“لأنهم يا صديقي قاموا في الفترة الماضية بنزع اسم توفيق الحكيم من فوق قاعة كانت تحمل اسمه في مبنى الأهرام الرئيسي، ووضعوا مكانه اسم مكرم محمد أحمد.. والذي يفعل ذلك لا تنتظر منه الاحتفال، والاحتفاء، بنجيب محفوظ”! قال ذلك ثم غادر كافتيريا النقابة حيث كنا نجلس سويا وهو يقول: “نهارك سعيد.. يا عم نجيب”! ثم التفت لي مرة أخرى وهو على باب الأسانسير. وقال: “متنساش.. أبقى ادفع حساب الشاي.. يا صديقي”!
ومنذ ذلك اليوم لم أحاول الاتصال بالأستاذ عبدالمحسن سلامة مرة أخرى. وتركت الفكرة في ذهني للزمن والتاريخ والقضاء والقدر!
(القاهرة ـ 2022)
في هذه الأيام ـ التي تحل فيها ذكرى رحيل نجيب محفوظ ـ كنت أتحدث مع الصديق الكاتب الصحفي محمد شعير وتطرق الحديث بيننا إلى هذه الفكرة التي طرحتها عليه. فوجدته يطرح عَلَى عدة أفكار أخرى رائعة، وتخدم نفس الهدف، حتى ولو اختلف المسار والمصير. قال فيها: “إن يصبح متحف نجيب محفوظ مركزا ثقافيا، لا يكتفي فقط باستقبال الزوار الذين تريد مشاهدة بعض مقتنيات أديب نوبل، ولكن أن ينتج معرفة خاصة بمحفوظ وبتاريخ الرواية العربية. بحيث يضم كافة طبعات أعماله المختلفة، والأرشيف الصحفي الخاص به، بحيث نصنع ما يمكن أن نطلق عليه (سياحة ثقافية) ويتاح ذلك للباحثين في عالم نجيب محفوظ الإنساني والصحفي والأدبي على أن يكون هذا في مكان واحد.
وهذا العمل- إذا تم- سينتج معرفة علمية، وعملية، كبيرة، ومفيدة، سواء عن نجيب محفوظ وإبداعه أو عن الرواية العربية”! قلت له: وهذا أيضا اقتراح رائع يخدم الثقافة المصرية والعربية وليس نجيب محفوظا فقط. لكن عندما علمت من محمد شعير أن اقتراحه هذه لم يجد من يستمع للفكرة، ويتجاوب معها، ويتحمس لها، قررت ألا أحاول مرة جديدة الاتصال بمؤسسة الأهرام واكتفيت ـ بمناسبة ذكري الرحيل ـ بالعودة إلى المقهى الشعبي في حي مصر القديمة للجلوس بين رواده من الناس الطيبين الذين كتب لهم ـ وعنهم ـ ومنهم ـ نجيب محفوظ فهؤلاء الناس الذين لم يعرفوه أديباَ ولا كاتبا، ولا صحفيا، ولا مفكرا، ولا فيلسوفا قد عرفوه ـ من خلال الشاشة ـ مصريا أصيلا، وإنسانا نبيلا، لذلك أحبوه، وتعلقوا بأعماله التي تحولت إلى أعمال سينمائية، وإذاعية ودرامية.
هؤلاء الناس ـ بكل بساطة وتلقائية وصدق ـ يرسلون له ـ فيما أعتقد ـ كلما شاهدوا الثلاثية (بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية) ـ في الصباح والمساء رسالة محبة يقولون فيها: “نهارك سعيد.. يا عم نجيب”!