«خط الصعيد»: الجذور التاريخية والتأثيرات الاجتماعية

تُعد ظاهرة «خط الصعيد» من أبرز الظواهر التي شكلت جزءا من تاريخ الجريمة في صعيد مصر، وارتبطت بشكل كبير بالتصور الشعبي والشائعات حول الشخصية الإجرامية. ولكن رغم تعدد الروايات حول أصل المسمى، إلا أنه يبقى هذا المفهوم محط اهتمام الباحثين والمؤرخين ممن يحاولون كشف جذوره التاريخية.
أصل مسمى الخط
يقول الشاذلي عباس، باحث تاريخي: “أصل مسمى “خط” جاء من محاكم الأخطاط نسبة إلى المسمى الجغرافي “خطوط الناحية” التي أنشئت عام 1871 بناء على طلب مجلس شورى النواب، وكانت مخصصة للفصل في القضايا الصغيرة وقضايا المواريث التي تنشب بين الأهالي في قرى صعيد مصر”.
وتابع: هذه المحاكم كانت مكونة من العمد والمشايخ. لم تكن محاكم الأخطاط موجودة في المدن والمراكز الكبرى، بل كانت المحاكم الشرعية والمدنية بديلا عنها. وكان كل من يمثل أمامها في أي قضية، حتى لو كانت مواريث، يسمى “خطاً”. ومع مرور الوقت، تحرف المسمى وأصبح يطلق على “عتيدي الإجرام”. وقد ركزت هذه المحاكم عمومًا على القضايا بعد شيوع الفوضى، وعصابات السطو وكثرة جرائم القتل.
وأكد عباس أن لفظ “خط الصعيد” أصبح مذموما لارتباطه بالشخصيات المجرمة التي تمتهن القتل والسرقة وكذلك المخدرات، وخروجها عن القانون. ويضيف، تاريخيا، أول من أطلق عليه “الخط” هو محمد منصور، أول “خط” في الصعيد، الذي ظهر في جبال درنكة بأسيوط وتم القضاء عليه في عام 1947، وقد جسدت قصته في فيلم “الوحش” بطولة الفنان محمود المليجي وأنور وجدي.
الطبيعة الجغرافية
وأشار عباس إلى أن الطبيعة الجغرافية لمحافظة أسيوط تختلف عن باقي محافظات الصعيد. فكثرة وجود الجبال بين القرى ساهمت في توفير ملاذ آمن للعناصر الإجرامية للاختباء فيها. كما تعتبر محافظة أسيوط من أكبر المحافظات في صعيد مصر، وكانت في السابق تضم محافظات سوهاج، وقنا، والأقصر. كما كانت مركزاً تجارياً كبيرا، وكانت أولى محافظات الصعيد التي تصدر مجلة إقليمية تحت مسمى “النزهة” عام 1886.
الثأر بين العائلات
من جانبه، يوضح اللواء إبراهيم صابر، الخبير الأمني، أن سبب ظهور العناصر الإجرامية الخطرة المعروفة إعلاميا بالخط هو الثأر المتجذر بين العائلات في قرى ومراكز أسيوط، مما جعل من الأسلحة النارية سوقا كبيرة مربحة. وبالتالي، ظهرت العناصر الإجرامية التي امتهنت تجارة الأسلحة النارية لبيعها للعائلات من أجل الانتقام فيما بينها.
ويقول: “من واقع خدمتي في محافظة أسيوط عندما كنت في جهاز المباحث في أحد المراكز، أستطيع القول إن الفقر يلعب دورا رئيسيا في انتشار تلك العناصر الإجرامية. هؤلاء يجدون في تجارة الأسلحة والمخدرات وسيلة سهلة وسريعة للثراء. فمحافظة أسيوط من أكثر محافظات الجمهورية من حيث نسبة الفقر. عدا المدينة واثنين أو ثلاثة من المراكز الذين يتمتعون بمستوى اقتصادي مرتفع. فمعظم مراكز المحافظة الـ11 تحت وطأة الفقر المدقع”. ويشير إلى أن تجارة الأسلحة النارية مربحة جدا. حيث وصل سعر بعض الأسلحة الخفيفة إلى نحو 250 ألف جنيه للقطعة الواحدة، وسعر الطلقة النارية حوالي 300 جنيه.
ملاذ آمن
ويتابع صابر: الطبيعة الجغرافية الوعرة في أسيوط، وتحديدا في القرى المتاخمة للجبال، جعلت من هذه المناطق ملاذا آمنا للعناصر الإجرامية. التي تجد في الجبال مكانا للاختباء ومقاومة الشرطة والقيام بعمليات السطو المسلح وتجارة المخدرات والأسلحة. علاوة على الحدود المفتوحة، حيث تحد أسيوط محافظات أخرى مثل الوادي الجديد وسوهاج، مما يسمح للمجرمين بالتنقل بسهولة والاختباء في مناطق مختلفة.
ونوه بأن تضخيم الإعلام ساهم في تضخيم صورة “خط الصعيد” وجعله شخصية أسطورية، مما زاد من شهرته وأثار الرعب في قلوب الناس. كما تناولت العديد من الأفلام والمسلسلات قصة “خط الصعيد”، مما رسخ الصورة النمطية في أذهان الجمهور.
محاكم الأخطاط
يقول الباحث والمؤرخ فتحي عبدالسميع: “هناك رواية تقول إن أصل مسمى “خط الصعيد” بدأ مع محمد منصور، أول “خط” في الصعيد. حيث كان اسم عائلته “سر الختم”، وتحرف حتى صار “الخط”، لكنها رواية غير موثقة. أما رواية محاكم الأخطاط فليست دقيقة أيضا، لأن محاكم الأخطاط كانت تنظر في القضايا البسيطة التي لم تصل إلى حد الإجرام”.
وأردف قائلا: “هناك نقص شديد في الدراسات البحثية التي تناولت موضوع “خط الصعيد”. لأن المؤرخين والباحثين لم يكونوا يأبهون به، فقد كانوا يرونه مجرد متمردين تحدوا السلطة فقضت عليهم. إضافة إلى أنهم كانوا دائما يتبنون رواية السلطة. فمثلا، قصة ياسين وبهية وأدهم الشرقاوي لها روايتان: رواية شعبية ترى فيهم أبطالا، ورواية السلطة التي ترى فيهم متمردين مجرمين. وكلا الروايتين يشوبهما عدم الدقة”.
وأكد عبدالسميع أن سبب الظهور المتكرر للخط في محافظة أسيوط يرجع من وجهة نظره إلى محمد منصور، أول “خط” صعيد ظهر من أسيوط. الذي جاء من بعده من حاولوا تكرار قصته وتقليده. فأصبح مثلا أعلى لمن يريد أن يتحدى السلطة أو يصبح بطلا شعبيا. وطالب أقسام علم الاجتماع في جامعات الصعيد بأن تتبنى دراسات بحثية معمقة حول ظاهرة “خط الصعيد” وتكرارها.