حيوا أهل الشام| الآنسة مي.. الأديبة الحسناء ألهمت الأدباء وماتت في مصحة نفسية
كان صوتها عذبًا، ليس معنى هذا أن أحدًا سمعها تغني، لكن المستمعين كانوا يخشعون لصوتها عندما كانت تخطب، فلا تكاد تسمع إلا همسًا.
لم تحظ أديبة بما نالته مي زيادة، فقد كتب عنها العقاد، وقلما امتدح العقاد أحدا، وألهمت الرافعي، هذا الأستاذ الذي اعتصره الوجد منها، وجبران الذي أسكنها فسيح أشواقه، ومنصور فهمي وطاهر الطناحي، وغيرهم كثير.
أسبغ الجميع على مي تقديره وأُطلق عليها النابغة، فكان لا يذكر اسمها إلا مسبوقا بهذا اللقب، والواقع أن اللقب كان حقيقة، فعندما كانت الجامعة الأمريكية تعلن عن محاضرة لها، لا تكاد تجد مكانا خاليا، حتى أنها ذات مرة استدعت أحد رجال المرور لينظم الدخول إلى القاعة، بسبب كثافة الحضور.
مي زيادة، أو ماري إلياس زيادة أو الآنسة مي، أو أديبة الجيل كما يصفها الشيخ مصطفى عبدالرازق، أو النابغة كما وصفها أدباء عصرها، ولدت في الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبناني وأم فلسطينية، أما الوفاة فكانت في 17 أكتوبر 1941 في بيروت بعد أن شغلت الناس.
واللغات أيضًا أحبت “مي”
كتبت مي في الجرائد والمجلات وألفت الكتب والرسائل، وألقت الخطب والمحاضرات، وجاش صدرها بالشعر أحيانًا، وكانت نصيرة ممتازة للأدب تعقد للأدباء في دارها مجلسًا أسبوعيًا لا لغو فيه ولا تأثيم، هكذا يصف الشيخ عبدالرازق.
أتقنت ماري اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية، بجانب تمكنها من العربية، وبجانب إجادتها الخطابة، فقد طوعت الفرنسية والإنجليزية، فأجادت الكتابة بهما على مستوى أقرب من إجادتها العربية، حتى قيل إن نثرها في اللغات الأجنبية أشبه بالشعر، حتى اللغات أحبت مي.
النابغة التي غلبت أباها
والد ماري من أهل كسروان بلبنان، أقام مدة في الناصرة بفلسطين، وهناك ولدت ماري، وتعلمت في إحدى مدارسها الابتدائية، ثم تعلمت بمدرسة عين طورة بلبنان، ومنها إلى مصر مع أبويها.
أسرة زيادة هي أسرة صحفية من لبنان، جاء أحد أعضائها إلى مصر لينشئ فيها صحيفة يومية باسم “المحروسة”، وما هي إلا فترات قليلة حتى بدأ نبوغ مي يصرف إليها الأعين، حتى غطى على مهارة أبيها إلياس زيادة نفسه.
قصة حب فاشلة
جاءت مي مع أبيها الى القاهرة، وهي بين الصبا والشباب، هربا من قصة حب طفولية لم تكلل بالارتباط، فجاء بها والدها ليأخذها من أجواء انتكاسة القلب، آملًا أن تجد ابنته الحالمة نفسها في القاهرة، وقد كان، وانطلقت مي بكل ما أوتيت من موهبة أدبية، فشغلت الألباب.
بعد وفاة أبيها ورثت مي الجريدة، لكنها لم تكن قادرة على إصدار صحيفة يومية، إلى أن تدخلت “الأهرام”، ومنحتها شقة من مبانيها القديمة في شارع علوي، مقابل بضع مقالات غير محددة بوقت.
في هذه الشقة الفسيحة أنشأت مي صالونها الأدبي، أشهر الصالونات الأدبية في الفترة بين العشرينيات حتى الأربعينيات، وهو الصالون الذي لم يبق أديبا في مصر لم يدخله زائرًا أو صديقا.
لم يكن أحد يستطيع أن يحلل من كان هذا الرجل الذي نال قلب مي، كما لم يجرؤ أحد من أولئك الأدباء أن يفرض نفسه عليها، دون الآخرين، الجميع في منطقة واحدة وعلى بعد واحد من قلب مي، لكن أين كان قلب مي.
رسائل جبران
“وأنت تسألين عن حالي وعن خاطري، أما حالي فهو مثل حالك يا ماري، أما خاطري فلم يزل في الضباب منذ اجتمعنا منذ ألف عام” كانت هذه جزءًا من رسائل جبران الكثيرة إلى مي، هذه الرسائل التي بدأت بـ”حضرة الأديبة الفاضلة” عام 1914 وانتهت بـ”محبوبتي الصغيرة” عام 1931، تلك السنة التي فارق فيها جبران الحياة.
الواضح أن مي كانت تُكن لـ”جبران خليل جبران” الشاعر والأديب اللبناني، عواطف جارفة، تختلف عما تكنه لباقي أصدقائها من الأدباء، هذا ما ظهر في الرسائل الكثيرة بينهما طيلة 15 عامًا تقريبًا، حتى رحل جبران وتركها تصارع الحياة بذوق بديع رفيع.
أحبها الرافعي وخاطبها في رسائل كثيرة، لكن قلبها كان معلقا بجبران تعلقًا عذريًا، ولما غلب الرافعي الوجد، الأستاذ الكبير كما تلقبه مي، كتب لها “والسلام عليكِ في أبدية جفاءك الذي لا ينتهي…” وانقطع عن صالونها الأسبوعي.
في المصحة النفسية
لم تكد ماري تستوعب فقد والدها عام 1929، حتى صدمها رحيل جبران بعد ذلك بعامين، فاعتزلت الناس، وانقطعت عن الكتابة والتأليف، حتى غلبها المرض عام 1936، وظلت في اضطراب عقلي لمدة عامين ثم تعافت، إلا أن المرض عاودها مرة أخرى فأودعت المصحة عنوة.
والواضح أن مي كانت تصارع بين الضغوطات التي خلقها إعجاب الناس بها، وغياب الحبيب عنها، وفقد والدها، كل ذلك هزّ مي، سلبها قواها.
ما إن تعافت من مرضها، حتى عاودها بعد عامين مرة أخرى، الأمر الذي دفعها أن تغلق أبواب صالونها ثم أبواب مسكنها، واختلت بنفسها وروحها.
في هذه الحالة النفسية السيئة التي كانت تمر بها جاء أقرباؤها من لبنان، وأدخلوها مصحة للأمراض العصبية عنوة، وهناك ماتت وحيدة منسية عام 1949، بعد ان كانت حديث الناس.
كان أول كتاب وضعته باسم مستعار (إيزيس كوبيا) وهو مجموعة من الأشعار باللغة الفرنسية، ثم وضعت مؤلفاتها (باحثة البادية) وكلمات وإرشادات، ظلمات وأشعة، سوانح فتاة، بين المد والجزر، الصحائف والرسائل، وردة اليازجي، عائشة تيمور، الحب في العذاب، رجوع الموجة، ابتسامات ودموع.
رحلت ماري إلياس زيادة “مي زيادة”، لكنها لم تمت، فأمثال مي لا يموتون، والواقع أنها لو لم تكن خلّفت غير ما ألهمت به الأدباء- ومنهم الرافعي وجبران- لكفاها.
الحديث عن مي زيادة يطول، لكن آثرنا الإيجاز، معتمدين على تلك المصادر:
حافظ محمود- عمالقة الصحافة- كتاب الهلال العدد 284 أغسطس 1974.
موسوعة الأعلام- خير الدين الزركلي، نسخة PDF
الشعلة الزرقاء.. مي وجبران- سلمى الحفار، وسهيل بشروني- مؤسسة نوفل- بيروت لبنان- ط2، 1984