حين رفضت طلب حرم الرئيس| حكايات أبلة فضيلة مع الإذاعة: الصوت له سحر
«العمل للأطفال أكثر نجاحا، يكفي أن تستمد رأي الجمهور فيك من أطفال صادقين، لا يشوب رأيهم زيف أو نفاق، يكتفون بسماع صوتك فقط. فيبدأ كل منهم في تخيل شكلك وسنك كأن لك ألف وجه في أذهانهم». هكذا وصفت الإذاعية القديرة الراحلة فضيلة توفيق (أبلة فضيلة) سبب إصرارها على الاستمرار في العمل الإذاعي على مدار خمسة عقود رفضت خلالها كل العروض التي قُدمت إليها للعمل بالتليفزيون ومن بينها طلب رئاسي.
روت الإذاعية الراحلة “أبلة فضيلة” كواليس نشأتها وتخصصها في الإذاعة، وفكرة احتراف برنامج للأطفال وغيرها من الكواليس خلف الميكروفون، في حوار تليفزيوني، حتى أصبحت أشهر من قدم برامج الأطفال في الإذاعة المصرية. على مدار نصف قرن حكت حواديت للأطفال عبر برنامج «غنوة وحدوتة» بالإذاعة المصرية.
من المحاماة للإذاعة
نشأت أبلة فضيلة في بيت ارستقراطي لأم تركية – ربة منزل – وأب مصري من أصحاب الأملاك، رفض العمل مكتفيا بإدارة أمواله التي ورثها عن عائلته. أما هي وأختيها كان الفن يسري في دمائهن، “فضيلة” تخصصت في الإذاعة، و”مُحسنة” احترفت التمثيل. أما الأخت الثالثة “يُسر” فهي مطربة سوبرانو في إيطاليا. وسرعان ما بزغت أسماء الشقيقات الثلاثة، بوصف كل منهن في مجالها “أيقونة لن تتكرر”.
تخرجت فضيلة في كلية الحقوق عام 1951، وكان ينبغي أن تقضي فترة للتدريب اختارتها في مكتب “حامد باشا زكي” للتدريب كمحامية. لكن فطرتها النقية لم تجعلها تستمر. وتقول: “في البداية حضرت سيدة لترفع قضية ضد والدتها فتعجبت وسألتها كيف تقفي ضد والدتك أمام القضاء”. وتابعت: “دي أمك اللي ربتك وكبرتك أوعي تعملي كده”.
وبالفعل استجابت السيدة لحديث فضيلة وانصرفت من مكتب المحاماة وتراجعت عن اللجوء لرفع قضية. فأخبر زميلها في المكتب حامد باشا زكي بما حدث وقال له: “الحق دي بتطفش الزباين!”.
حامد باشا
كان حامد باشا زكي مديرا للإذاعة حينها، وتحدث مع فضيلة وقال لها: “إنتي جاية تقفلي المكتب ولا إيه”. فأجابت: “بالطبع لا، لكن الإنسانية تحتم علي منعها من مقاضاة أمها”. فكان قراره باختيار مكان آخر مناسب لها، عارضا عليها العمل في الإذاعة.
وافقت فضيلة. إذ أن اختيار الحقوق والمحاماة لم يكن رغبتها من البداية، بل والدها، الذي فرض عليها دراسة الحقوق مثل شقيقها الذي أراد دراسة الحقوق ليصبح وزيرا: “هتكملي في الجامعة يبقى تروحي وتيجي مع أخوكي”.
لكن العمل في الإذاعة، أعاد إليها شغف فقدته منذ الطفولة. وروت هذا الموقف بأنه قديما كان يُوضع الراديو كبير الحجم في مكان مرتفع حتى لا يعبث به الأطفال الصغار.
لكن فضيلة كانت تجلب كرسي وتقف عليه، بحثا عن الشخص الذي يتحدث داخل الراديو. وتابعت مازحة: “شرح لي والدي ما هو الراديو والإذاعة وكيف يتحدث الشخص في مكان بعيد ونسمعه في منازلنا وأنه يتمنى أن يراني إذاعية مثلهم”.
أبلة فضيلة والإذاعة
بدأت فضيلة العمل في الإذاعة في الخمسينات وكان حينها مذيعتان فقط في الإذاعة وهن صفية المهندس، وتماضر المتكلمة جيدا بالإنجليزية ونُقلت لاحقا للبرنامج الأوروبي.
وجدت فضيلة أن وظيفتها أكثر لطفا من المحاماة. وقالت: “وظيفة ظريفة تمثل دوري في تغيير الأغاني، لكنها كانت برامج منوعة وكل ذلك لم نتطرق للعمل من أجل الأطفال”.
رغم صوتها الدافئ، لكن لم يخاطر ببالها يوما أن تقدم عملا للأطفال. وبدأ عملها للأطفال بالتزامن مع بدء عمل التليفزيون في مصر بين عامي 1959 و1960، كان “بابا شارو” الإذاعي الشهير الذي انفرد لسنوات بتقديمه برنامجا للأطفال، يستعد لتوليه رئاسة التليفزيون، فعرض عليها مدير الإذاعة بتقديم برنامج للأطفال.
لم تتخذ قرارا دون الرجوع إلى “بابا شارو” لطلب الإذن منه، وافق وشجعها، لكن بعد ذلك نشب خلافا مع الوزير فعاد بابا شارو للإذاعة. لكنه رفض تقديم البرنامج للأطفال من جديد، فرفضت فضيلة أن تأخذ مكانه وهو موجود.
لكنه شجعها قائلا:” لقد أصبحت من المغضوبين عليهم، إذا لم تقدمي أنت برنامجا للأطفال سوف يستعينوا بشخص آخر، أنا لسه حزين، استغلي الفرصة وتشجعي لأن صوتك سيحبه الأطفال”.
فكان طلب فضيلة إذا لم يكن حزينا كما قال فليقدمها للأطفال في أول حلقة. وتابعت: “هيسألوا عليك وهيقولوا مين دي اللي جت أخدت مكانه”. وعلى حد وصفها كانت نفوس المصريين قديما نقية. إذ أنها تأخذ مكانه الذي يحبه في العمل وتطلب منه تقديمها، وهو الأمر الذي لم يرفضه بابا شارو بل ظل داعما لها.
حين رفضت أبلة فضيلة طلب حرم الرئيس
لم تتخيل فضيلة أنها تستطيع النجاح بل والاستمرار في هذا النجاح على مدار خمسة عقود، قدمت في برنامجها مجموعة من الموهوبين مثل صفاء أبوالسعود، هاني شاكر ومدحت صالح.
“الإذاعة لها سحر” كان هذا السبب في رفض ظهور “أبلة فضيلة” عبر برنامج تليفزيوني. لأنه إذا قدمت الحكايات عبر التليفزيون فلن تدع للأطفال فرصة للتخيل وإطلاق العنان لخيالهم. ورغم كل العروض التي استقبلتها لتقديم برنامج تليفزيوني، لكنها لم تفضل ذلك ولم تحب الشهرة والأضواء والظهور على الشاشة.
الكل كان يبحث عن “أبلة فضيلة” من هي وما هو شكلها، كان مصدرا للعديد من الأسئلة ولم يقتصر الأمر على الأطفال فقط. بل الكبار أيضا ووصل الأمر إلى حرم الرئيس.
وحكت موقف مع السيدة سوزان مبارك خلال زيارتها لمبنى الإذاعة. وقالت: “حين حضرت حرم الرئيس لرؤية أبلة فضيلة، شاهدتني وأنا أتحدث مع الأطفال في مبنى الإذاعة. فقالت لصفوت الشريف الذي رافقها حينها في زيارتها: هي دي بقى أبلة فضيلة”.
وكانت تظن السيدة سوزان أن أبلة فضيلة ليست جميلة لهذا تعمل في الإذاعة. لكن حين شاهدتها قالت لصفوت الشريف: “أبلة فضيلة تروح التليفزيون”. إذ وجدتها جميلة وجاء اختيارها بالنقل ظنا منها أنها تكرمها. لكن كان رد فضيلة الرفض: “لا يا فندم أنا أحب الإذاعة”. وتدخل صفوت الشريف قائلا: “لما حرم الرئيس تقول حاجة نقول حاضر”، لكن رفضت أبلة فضيلة هذا العرض وتمسكت بموقفها في البقاء في الإذاعة.
واستكملت: “لم أحب الخروج من عملي في الإذاعة أبدا، أحببت الأطفال من مكاني. وهم أيضا أحبوني من صوتي، وأهاليهم أحبوني لتعلق الأولاد بي. كل ذلك من صوتي فقط لم أحب أن تتغير صورتهم عني”.
من يكتب حواديت أبلة فضيلة؟
كان التجديد أمرا مطلوبا خلال سنوات البرنامج الطويلة. واتسمت الحواديت بأنها غير مملة، مختلفة وكل يوم قصة جديدة وبمرور الأعوام كانت ملائمة لكل جيل. ويظل السؤال “من كان يكتب حواديت أبلة فضيلة؟”.
أجابت “أبلة فضيلة” على هذا السؤال، وقالت إنها بحثت عن مؤلفين يكتبون لها المادة، وكانت تختار الأفضل منهم، وساعدها في ذلك الأمر الدكتورة سهير القلماوي، وكانت الحواديت في البداية للكاتب عبدالتواب يوسف.
ثم تولت القلماوي مهمة إحياء الكتابة للأطفال، عبر تدشين دورات تدريبية لكُتاب أدب الأطفال استمرت على مدار ثلاثة أشهر. حتى يستطيع الإذاعي سرد قصص للأطفال، أو معرفة أسس اختيار الحدوتة التي يرويها.
كذلك أشادت بالكاتب الراحل نادر أبوالفتوح، وقالت إن أفضل حكايات قدمتها كانت من كتاباته، لأنه كان موهوبا في أدب الأطفال والشعر والأغاني وذو روح متجددة في الكتابة.
واختارت مجموعة متميزة من أساتذة الأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وحضرتها أيضا أبلة فضيلة، واستمرت الدورة على مدار ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى عمل معهد يتوجب الدراسة فيه مُسبقا كل من يود العمل في الإذاعة.
كيف تغيرت الحواديت بعد الإنجاب؟
على مدار السنوات الأولى لحواديت أبلة فضيلة، حاولت تنفيذ ما تعلمته في نشأتها، الكثير من المحاذير والنصائح للأطفال. لا تقترب من هذا، لا تفتح ذاك.. لكن بعد الإنجاب تغيرت رؤيتها للحياة والحواديت والنصائح.
كان الأب هو الأكثر تأثيرا وحرصا على تنشئة فضيلة وأخوتها بحسب التقاليد المصرية. وأوضحت: “حين يهتم الأب والأم بالأطفال يكون النشء جيدا، لكن لاحظت أن أبي كان يقول لنا الكثير من النصائح والتحذيرات وهو ما حرصت على نقله خلال حواديت الإذاعة أو بعد الانتهاء منها”.
وبعد الزواج وإنجاب ابنتها “ريم” تغيرت رؤيتها. “الأطفال مينفعش تحذرهم طول الوقت لازم يختاروا ويجربوا، إحنا أتربينا على الأوامر لكن لما بقيت أم اكتشفت إن ده مش صح”.
مزاح أم كلثوم والبكاء بسبب عبدالناصر!
استرجعت أبلة فضيلة مواقف مؤثرة مرت بها مع المشاهير خلال عملها في الإذاعة. ومن بينها زيارة للرئيس جمال عبدالناصر للإذاعة. وقالت لها شقيقتها يُسر: “لو كنتي شاطرة بصي في عينه”، وخاضت الشقيقتان تحديا.
وحرصت أبلة فضيلة على النظر في أعين الزعيم الراحل خلال تحيته، لكنها سرعان ما تأثرت وبكت للقاء الرئيس، فلاحظ عبدالناصر ذلك الأمر وربت على يديها.
موقف آخر مرت به، وهو صدمتها للشخصية القوية التي تمتعت بها كوكب الشرق “أم كلثوم”. حيث زارت الإذاعة المصرية لمشاهدة أبلة فضيلة، وحين سألت عليها قالت: “اندهي البت بتاعت العيال”.
جرأة لاذعة لم تتعرض لها فضيلة من قبل، وعند حضورها إلى مكتب المدير، تفاجئت بطلب أم كلثوم من المدير أن ينتظر في الخارج حتى تتحدث بمفردها مع أبلة فضيلة. فقالت لها: “إنتي كده هترفديني”.
لم يكن لدى أم كلثوم أطفالا، وكان طلبها للقاء أبلة فضيلة مفاجئا. وبعد حديث دار بينهما لدقائق، اكتشفت أن أم كلثوم تعرض عليها الغناء وترك “شغل العيال” كما وصفته. لكن ضحكت فضيلة وقالت لها “صوتي آه حلو في الكلام لكن في الغنا مش حلو”.
اقرأ أيضا
انفراد| أول رد رسمي من دار المزادات: السفير معتز زهران يحقق في قضية جواز السفر