حواديت الشوارع 3| جاردن سيتي
كتبت- نورا تميم
الشوارع حواديت، حواداية العشق فيها وحواديت عفاريت، اسمعى يا حلوة لما أضحكك”.. بإبداع صلاح جاهين وصوت فرقة المصريين نستهل سلسلة حواديت الشوارع وتاريخها الاجتماعي وكل ما تبقى من خطاوى السابقين.
مجموعة من الأرواح البشرية الطيبة التي تآلفت وصنعت حفنة من الذكريات المشتركة، تتأصل تلك المشاعر وتجسد بنية بل مجموعة من البنايات وقد أعد هذا تعريفا للحي، فالروح لا تشيخ ولا يخفت رونقها ولا تتصدع وإن تصدعت البنايات وغرس فيها الشرخ قبحا عريضا مؤلما وإننا لا نستطيع أن نعد هذا قبح إلا في أعين القبيح.
حواديت الشوارع
فجمال حي جاردن سيتي كان يقيم الدنيا ويقعدها، وخفت جمالها بمرور الوقت وأصابها تغير جذري في التركيبة السكانية للمنطقة، ولكن شيء هناك مازال لامعا في سمائها، مغردا في أرجائها وأظن أن هذا الشيء هي قطعة من الروح أهداها كل إنسان كان في يوم من قاطني جاردن السيتي، وهذه الروح مازالت بهية قيمة ومتألقة، فلم يزدها العمر سوى عراقة.
لم يكن “جاردن سيتي” هو الحي الذي يحلف الناس بحسن تقسيمه، لكن المفارقة أنه كان مستودع لقمامة وسط البلد، قبل أن تلفت المنطقة كلها انتباه السلطان محمد بن قلاوون.
التغير الأكبر كان علي يد القائد إبراهيم باشا بن محمد علي، بعد أن أنشأ القصر العالي، الذي يحده نهر النيل من الغرب وشارع قصر العيني من الشرق.
القصر العيني في حواديت الشوارع
ويصف الكاتب حمدي أبو جليل القصر العيني بأنه قريب الشبه بحائط برلين، لكنه في قلب القاهرة الخديوية، إذ يفصل بين المنطقة الشعبية والمنطقة الأرستقراطية.
بدأت أسرة محمد علي تقبل على المنطقة الجديدة، وفي أواخر عام 1863 تنازل الخديو إسماعيل بن إبراهيم باشا لوالدته عن القصر العالي مع الأرض الملحقة به، وهي الآن جاردن سيتي.
مستند تمليك.. من حواديث الشوارع
وفي أغسطس 1871 أصدر إسماعيل باشا أمرا بكتابة حجة “مستند تمليك” باسم زوجته الثالثة لبناء سراي جديدة وهي سراي إسماعيلية التي تكلفت وحدها 201260 جنيها بأسعار القرن التاسع عشر.
موقع هذا السراي يشغله الآن مجمع التحرير، وبالقرب منها كانت تطل شرفة قصر الأمير كمال الدين حسين بن السلطان حسين كمال، وقد حول بعد ذلك إلي مقر لوزارة الخارجية المصرية، وتكون الحى من ثلاث قصور أساسية: القصر العالي وقصر أحمد باشا وسراي الإسماعيلي.
قصر دوبارة
قصر دوبارة هو أشهر قصور حي جاردن سيتي، وهو قصر الأميرة أمينة بنت إلهامي ابن عباس حلمي الأول، وهي زوجة الخديوي توفيق ووالدة عباس حلمي الثاني، الذي عزله الإنجليز عن حكم مصر سنة 1914، وتعرف هذه الأميرة بلقب أم المحسنين.
تحول القصر بعد ذلك إلي مقر للحماية البريطانية علي مصر، فكان الحكم حينذاك بين قصرين: قصر عابدين وهو مقر الحكم الرئيسي لأبناء محمد علي باشا، وقصر الدوبارة وهو مقر المندوب السامي البريطاني.
النضال السياسي
وخلال النضال السياسي ضد الاحتلال البريطاني، كانت المظاهرات تتجه إلى قصر الدوبارة حيثُ مقر السفارة البريطانية، وانتهى اسم القصر الحقيقي، واسم إلهامي باشا من الميدان، واستبدل باسم عسكري وسياسي من أمريكا اللاتينية هو «سيمون بوليفار» محرر الدول اللاتينية من طائلة الحكم الإسباني.
مم القصر وبناه المعماري الإيطالي أنطونيو لاشياك، وهو أيضا من صمم معظم القصور التراثية بالحي، وحاليا تحول القصر لمدرسة تجريبية حكومية.
حي التوليب.. أول ناطحة سحاب مصرية
بالأساس لقب الحي بهذا الاسم نسبة إلى الزهور المتفتحة في حدائق القصور، وبعض هذه الزهور تم استيرادها من إيطاليا مثل زهور التوليب ومن أستراليا مثل عصافير الجنة وأيضا بسبب وجود أشجار الكافور، ويحكي أن الغربان والحدأ (جمع حدأة- من الطيور الجارحة) سكنت إحدى أشجار الكافور العملاقة، وقد تركت الأم إابنتها الصغيرة في سريرها المتنقل صباحا لتتعرض لأشعة الشمس الصباحية، ثم فجأة هاجمت الطيور سرير الطفلة بعنف فانتبهت الأم لما يحدث لطفلتها الصغيرة وأخذت تصرخ طالبة الإستغاثة، وفي اليوم التالي ذهب والد الطفلة إلي البلدية يشكو لهم ما حدث لإبنتهم، فقطعت الشجرة.
هذه أيضا إحدى الغرائب، التي قد تثير فضولك في معرفة متى بدأ التغيير في الخصائص المعمارية بالقاهرة، القصة تبدأ في ديسمبر 1955 حين قرر المهندس اللبناني نعوم شبيب ينشئ أولي ناطحات السحاب في القاهرة بحي جاردن سيتي، وهي التي ترتفع 35 دورا، وهو أيضا نفس المهندس الذي أشرف على إنشاء برج القاهرة.
عمارة بلمونت.. حواديت الشوارع
عمارة بلمونت أطول عمارات القاهرة عرفت باسم بلمونت نسبة إلي إعلان ضخم لسجائر بلمونت بأعلي المبني، ومن المضحك أن يوما ما وقع حريق بالعمارة، فقالت قوات الدفاع المدني أنها لا تمتلك سلالم بطول العمارة لمكافحة الحريق، كما اعترضت على مرفق المياه، بدعوى أنه لا يمكن ضخ المياه بالقوة المطلوبة لتصل إلى كل الأدوار، لأن الاعتماد وقتها كان على ضغط المياة.
كما أبدي المعماري الشهير ميشيل باخوم تحفظه كذلك على التصميم، وحذر السكان من خطر الزلازل وتأثير الرياح على المبنى.
حي جاردن سيتي
ولكن العمارة تحدت كل المخاوف والتحذيرات، ولا تزال قائمة في مكانها بحي جاردن سيتي، وكانت قد تكلفت وقت بنائها 300 ألف جنيه، وكانت مكونة من 35 طابقًا، كل طابق مقسم شقتين مكونة كل منهما من خمس حجرات، إيجار الشقة الواحدة كان يبلغ 30 جنيهًا، وهو ما يوازي مرتب موظف كبير في الحكومة وقتها.
خدمة صباح الخير
خدمة صباح الخير، وهي خدمة كان ينظمها جروبي لسكان حي جاردن سيتي، ليصل إليهم كل يوم في تمام الساعة السادسة صباحا مندوبا يحمل حليب كامل الدسم والساندونشات والزبادي مقابل ثلاث جنيهات.
“ولا عاد حد بييع ولا عاد حد بيشتري في جاردن سيتي زي زمان” عم محمد هو صاحب أقدم المحلات للمفاتيح في جاردن سيتي، دخل في شراكة مع خواجة أرميني عام 1984، وقبل ذلك الوقت كان يعمل في محل للمفاتيح بعابدين، ولكنه تشبث وجدانيا بحي جاردن سيتي وأحب سكانه والعمل هناك.
ومع تطور الحياة قرر أن يجاري العصر ويستبدل الآلات اليدوية بالحاسب الآلي لصناعة نسخ المفاتيح، لكنه يعاني ركود الحركة التجارية في الحي ولا يستطيع أن يهجر مقره الذي أمضى فيه عمرًا طويلا.
جاردن سيتي مبقتش هي
مكتوب علي لافتة هذا الدكان العتيق بمدخل جاردن سيتي من اتجاه قصر العيني “رفا ملابس-سرفلة- غزل سجاد- صبغة”.. المكان عتيق يشير إلي أنه شهد أحداثًا كثيرة ومتضاربة.. يقول صاحب المحل في بشاشة بأن لم يبق من قاطني الحي الأصليين سوى القليل.. فقد بدأ الناس يتوجهون إلى مصر الجديدة والتجمع والسادس من أكتوبر.. تاركين خلفهم بيوت أجدادهم وآبائهم.. وقد يعرضونها للبيع أو للإيجار لبعض من شركات السياحة أو البنوك.
فجأة ظهرت سيدة أنيقة تعودت علي التعامل مع هذا الدكان العتيق. فسألتها بحماس: أتعرفين أين أجد هانم من هوانم جاردن سيتي؟
فقالت من وراء ضحكتها الحزينة: لا توجد هوانم هنا لأن جاردن سيتي لم تعد جاردن سيتي.
حي الموظفين
“حي جاردن سيتي بقي إسمه حي الموظفين”.. تقول سعاد هذه الكلمات الساخرة.. وهي إمرأة تبلغ من العمر 68 عاما وتمتلك محلًا للخياطة في إحدي العمارات التراثية بالحي.
أسس زوجها هذا المحل الواسع في عام 1976.. وفي هذه الفترة كانت هوانم جاردن سيتي يطلبون منه الذهاب إلي منازلهم ليأخذ مقاساتهم ويفصل الفساتين الفخمة لـ”ولاد الذوات”.
تضيف أنه كان عصر ازدهار للحركة التجارية.. لكن الآن وبعد الحياة السريعة.. وبعد أن غزت الملابس الجاهزة السوق لم يعد للخياطين نصيب من الربح وبدأوا في تغيير أنشطتهم.
حي الموظفين
وتضيف أنه لم يبق من سكان جاردن سيتي سوى الموظفين؛ موظفي الحكومة والسفارات، والبنوك، وشركات السياحة.
“جاردن سيتي مش للبيع جاردن سيتي للإيجار يعمل عم جاد حارسا للعقار منذ 35عاما.. وهذا العقار كان ملكا لليلى مراد، وبيع عام 1976.. كما سكن في جاردن سيتي كثير من النجوم.. مثل: محمد رشدي وأحلام الملاح.. وقديما كانت تسكن في جاردن سيتي عائلة فؤاد سراج الدين.. وعائلة مصطفي النحاس باشا، اللذان لعبا دورا بازا في حزب الوفد وتشكيل الحكومات المصرية.. كما يوجد في جاردن سيتي قصر نجيب باشا محفوظ وهو دكتور نساء وتوليد الذي سمي نجيب محفوظ علي اسمه.
تضيف أن جاردن سيتي لم يهجره المصريون فقط.. بل أيضا الجنسيات الأجنبية التي كانت تملأ الشوارع والمنازل.. وكانت جاردن سيتي دائما محاطة بعساكر الشرطة المركزية ليحفظوا أمن المنطقة التي يسكنها نخبة المجتمع والأجانب.
في النهاية يختتم حديثه بأنه اشتاق إلي جاردن سيتي القديم، قبل أن تتحول إلى بنوك وسفارات تكتظ بالموظفين.
المصادر والمراجع:
– كتاب القاهرة شوارع وحكايات لحمدي أبوجليل، إصدار ٢٠٠٨ للهيئة المصرية العامة للكتاب.
– كتاب شوارع لها تاريخ لعباس الطرابيلي، الطبعة الثالثة ٢٠٠٦.
– المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار للمقريزي.