جليلة القاضي: المتمردة الساخرة

الكتابة عن أحد أصدقاء العمر تبدو لي مثقلة بالمجاملات، والحساسية والمجازات المفرطة، وخاصة إذا كانوا من الشخصيات العامة، أو المثقفين، أو الأكاديميين، أو التكنوقراط، أو ممن انخرطوا في العمل السياسي في ظل موت السياسة عربيا ومصريا. من هنا ينبثق الحرج والوجل داخلي لرفضي الخلط بين الذاتي والموضوعي في مقاربة إنتاجهم الفكري أو مسارات عملهم في تخصصهم الدقيق.

هذه بعض من القيود التي تحد في عديد الأحيان من مشاركتي في الكتابة أو النقاش حول بعضهم، وغالبا ما أراوغ هروبا من مأزق الوقوع في سياجات الصداقة أو الزمالة، ومحمولاتها من المشاعر المنفلتة المضمرة أو الظاهرة في سياقات نفسية وسوسيولوجية تهيمن عليها المشاعر الصاخبة أو الصامتة واضطراباتها المتغيرة.

في حالة جليلة القاضي، يبدو الوضع مختلفا، لأنها شخصية متفردة ضمن قلة من السيدات المصريات والعربيات اللاتي عرفتهن طيلة مسارات الحياة وتقلباتها، وجمعتنا الصداقة منذ ما يزيد على أربعين عاما خلت، تداعت فيها تحولات عاصفة في السياسة، والمواقف، والأفكار، والمشاعر، والاتجاهات، والنزعات الشخصية التي أثرت في حالات الأصدقاء وزملاء العمل والمهنة.

***

جليلة لا تزال شخصية تتسم بالقوة والتوازن النفسي، لا ينتابها رهابُ الخوف من أحد، ولا السلطة، ولا الثروة، ولا النفوذ، ولا المكانة، ولا عقد لديها إزاء الغرب الذي تعرفه في عمقه سوسيولوجيا وسياسيا،  والأهم ثقافيا، إذ تنتمي إليه بوشائح الزواج – من آلان بوناميه ونجلها حكيم –  والعمل في واحد من أهم مراكزه العلمية، المعهد الفرنسي للبحوث من أجل التنمية، وعلاقاتها الإنسانية بالأوروبيين وغيرهم من الهنود والآسيويين، إلخ.

شخصية حرة، ذات عقل نقدي شجاع وصارم، وتخفي فيما وراء ذلك اللطف الإنساني الجميل والطيبة الذكية، وذلك الرسوخ عند قيمتي الحرية والعدالة في تكوينها الإنساني العام المنفتح على الآخرين، والذاتي. كما أن انحيازها السياسي للطبقات الشعبية يظهر في ميلها إلى التقاط المفارقات التي تفتح لروحها مصادر استنطاق الضحكات الصاعدة من عمق أعماقها، والنزعة الساخرة المنطلقة من تناقضات السياسة في فرنسا والغرب وشمال المتوسط. وتبدو مفرطة في سخريتها، حاملة حزنا دفينا حول سياسات وقرارات دول جنوب المتوسط وعالمها العربي التابع.

شخصية صارمة وجادة في أهابُ من الإنسانية المفرطة، ونزعة يسارية أصيلة فلسفيا وسياسيا لا تجامل في حق، أو تصادر أي حقيقة نسبية حتى مع القريبين منها من الأسرة، أو تجامل وتتحمل أعباء وتكاليف الصداقة في إبداء رأيها ومواقفها العامة والسياسية من القلة القليلة من أصدقاءها المقربين منها.

***

جليلة القاضي تشكل وعيها الاجتماعي والسياسي في نشأتها الأسرية بين أب ضابط في الجيش المصري -اليوزباشي جمال القاضي – شارك في حرب فلسطين 1948 وأصيب في قدمه، وانضم لحركة الضباط الأحرار، وسيطر على مقر الإذاعة المصرية وكان قريبا من ناصر، وأول من أذاع بيان الثورة الأول، وبعده أنور السادات، ثم عمل بالبوليس الحربي، وينتمي إلى أسرة ثرية أو ما يطلق عليهم “الأرستقراطية”. تزوج من والدتها التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ثم انفصل عنها، وعاشت بين كنف والدها حينا، ووالدتها أحيانا أخرى. ووسط بيئة سوسيو – نفسية من التناقضات والخلافات والتوترات، والانتقال بين السكن في حي الزمالك وسط الأثرياء وذائعي الصيت، وبين حي الظاهر بتعدداته الدينية والمذهبية والثقافية والعرقية، والخلفيات القومية والثقافية لبعض المتمصرين.

هذه التناقضات فتحت أمامها أبواب التساؤل عن العدل الاجتماعي، والنظر والتأمل في فضاءات المكان وهوياته. وبين اليسر، والحياة عند دائرة الستر الاجتماعي، أو العسر القاسي للفئات الشعبية من المعسورين. فتحت جليلة القاضي منذ الصغر عيونها على التناقضات الاجتماعية بين الثراء المفرط عند قمة النظام الاجتماعي ووسطه المستور نسبيا، وقاعدته التي تحيا عند الحافة. لا شك أن ذلك كان أحد مصادر تشكيل وعيها الاجتماعي والسياسي المبكر حول قضايا العدل الاجتماعي، وفي ذات الوقت حول علاقة الفضاء العمراني والمعماري بالتفاوتات الطبقية في المجتمع المصري.

أدى انتقالها بين الفضاءات المكانية والعمرانية والمعمارية المتعددة إلى فتح عيونها مبكرا على تأثير قوة الكتلة العمرانية وتفاوتاتها من حيث الإحساس بالجمال أو البساطة، والوعي الاجتماعي المبكر بالتفاوتات بين الفئات الاجتماعية يسرا وسترا وعسرا، وعلى الثنائيات المتضادة اجتماعيا التي عاشتها جليلة القاضي منذ صغرها. خاصة أنها عاشت في ظل أبيها الضابط الصارم في تنظيم الضباط الأحرار، ومن قلب الخلافات بين الأب والأم، تناسلت روح التمرد والاستقلالية لدى جليلة القاضي، ونزوعها الفردي الذي ارتكز على القراءات المبكرة لإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ونوال السعداوي، وبعد ذلك لطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، وجان جاك روسو، وفولتير، خاصة في مرحلة تعليمها في مدرسة ليسيه الحرية، وإجادتها للغة الفرنسية والإنجليزية فيما بعد.

***

هي ابنة ثورة يوليو، ومدارات التحرر والاستقلال الوطني، وسحر الكاريزما الشعبوية لناصر، وسياساته وانحيازاته للعدل الاجتماعي واتساع قاعدة الطبقة الوسطى، وتجاه العمال والفلاحين وحقوقهم في التعليم والصحة والعمل والسكن والأهم تكافؤ الفرص, رغم أنها ليست ناصرية. ثم تنامى وتطور الوعي السياسي لديها في الجامعة، وكلية الهندسة بجامعة القاهرة، خاصة مع صدمة، وجروح هزيمة يونيو 1967، وما كشفت عنه من اختلال في تركيبة النخبة السياسية الحاكمة، والقيود على الحريات العامة، والاعتماد على أهل الثقة، لا الكفاءة في العديد من مواقع بناء القوة، وأيضا في أجهزة الدولة والبيروقراطية.

تنامى وتعمق الوعي السياسي والاجتماعي لها من خلال القراءات المتعددة لبعض مصادر الفكر اليساري الغربي، في أطر الأيديولوجية الماركسية السوفيتية اللينينية، والفرنسية، والإيطالية، ومن ثم شاركت بفعالية في الحركة الطلابية – يناير 1972 و1973- التي شارك فيها الغالبية العظمى من طلاب الجامعة، وطالبوا فيها بتحرير الأراضي المصرية والعربية المحتلة بعد العدوان الإسرائيلي الغاشم في الخامس من يونيو 1967، والمطالبة بتخفيض الفجوات في الدخول.

وتم القبض عليها وشقيقها مع عدد من الطلاب. وكان من أبرز قادة الحركة صديقنا المشترك، المرحوم أحمد عبد الله رزة، الذي تعرفت على جليلة القاضي في بيته. بدت لي مذّاك سيدة قوية الشخصية متمردة وشجاعة، تميل إلى الضحكات في ذات الوقت، وتضع مسافات بينها وبين الآخرين إلا القلة القليلة جدا من أصدقائها المقربين.

***

فتحت رحلة جليلة القاضي وعملها في الجزائر الأبواب أمامها لتعميق فهمها للتخطيط العمراني والعمارة نتيجة لاكتشاف ثقافات المدن المتعددة، وبعض من التناقضات في هوياتها المعمارية من خلال بعض من الفوضى في الأنساق المعمارية وعلاقتها بالفراغات، وفي جماليات التصميمات الهندسية المعمارية. والأخطر أنها مستعارة من المتون الكولونيالية الأوروبية، والعمارة الاشتراكية التي أطلق عليها -Stalin Teeth نسبة إلى جوزيف ستالين الثائر الجورجي والقائد الثاني للاتحاد السوفيتي، وسكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي من 1922 إلى 1953. ناهيك عن تشويه ذاتية وهوية وثقافة المكان، وهي ظاهرة تمددت مصريا وعربيا، قبل وما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي.

لا شك أن هذه الظاهرة الشائعة دفعت جليلة القاضي لدراسة ظواهر الفوضى المعمارية والعمرانية، وخاصة الإسكان غير الرسمي، أو ما يطلق عليه مصريا “الإسكان العشوائي” الذي انفجر مع الهجرة من الريف إلى الحواضر المصرية سعيا وراء الرزق، وأيضا مع حركة التصنيع في المرحلة الناصرية. ثم انفجرت موجات الهجرة من الأرياف مع السادات، وأدت إلى تمدد ظواهر البناء غير المرخص، وذلك لاستيعاب الوافدين، ومن ثم إلى “ترييف” المدن المصرية، وعلى رأسها القاهرة والإسكندرية، في البناء ونظام الزمن، والقيم وأنماط السلوك الاجتماعي والديني. مما ساهم في تمدد عمليات التحول من التدين المديني المعتدل والعصري النسبي إلى التوجهات السلفية المحافظة مع توظيفات النظام الساداتي وفي عهد مبارك، للدين وتأويلاته السلطوية في العمليات السياسية، دعما لشرعية النظام، وفي مواجهة المعارضات اليسارية والليبرالية، وفي التعبئة الاجتماعية والسياسية، والسياسة الخارجية تجاه إقليم النفط.

جاء انفجار السكن العشوائي انعكاسا للانفجار الديموغرافي، ولأزمات السياسة الإسكانية، والتخطيط العمراني، وعسر الحياة وتفاقمها القاسي للفئات الأكثر فقرا في المجتمع المصري، وخاصة مع سياسات الباب المفتوح – ما أطلق عليه الانفتاح – اقتصاديا، والمغلق سياسيا في عهد السادات.

***

لا شك أن اهتمام جليلة القاضي بالسكن العشوائي جاء كنتاج لوعيها الاجتماعي والسياسي. والأهم أن هذا الوعي أساس في تكوين وعي وبصيرة المخطط العمراني بالسياسة والعمران والثقافة، وتغيراتها في المدن التي تريفت. لأن المخطط العمراني، والمهندس المعماري، ليسا فقط محضُ فنيين ومهنيين، وإنما لا بد أن تكون ثقافتهم ذات أبعاد تتجاوز النظرات الفنية الضيقة إلى آفاق أرحب جماليا، وسوسيو لوجيا، وثقافيا وسياسيا.

إلا أن ما حدث في المجال المعماري والعمراني كان جد مختلف، حيث هيمنة الشركات العقارية، وعقلية المقاولين التي سادت وأثرت سلبا على المجال المعماري والعمراني، ومعهم تأثيرات ما أطلق عليهم بعد ذلك المطورين العقاريين، مما أدى إلى سيطرة العقل المقاولاتي المتمركز حول تعظيم الربحية بدلا من التركيز على الأبعاد التخطيطية والجمالية، بل وكفاءة الأعمال الإنشائية، والعلاقات بين الكتل والفراغات، وإنما على الربحية الضخمة التي تحرك هذا العقل المقاولاتي السوقي.

لا شك أن بعض الفوضى المعمارية والعمرانية العشوائية مرجعها الفساد في الأجهزة المختصة والرقابية المسؤولة، وأيضا ضعف مستويات التكوين لدي بعض المهندسين المعماريين، ومكاتب الهندسة المعمارية، وأيضا شركات المقاولات، وخاصة شيوع البناء والمقاولات من باطن الشركات الكبرى، وهو ما اتسع نطاقه مع بناء بعض المناطق في المدن الجديدة التي نشأت كامتداد للقاهرة الكبرى، ومعها ظاهرة الريع العقاري في كافة المحافظات.

***

المخططة العمرانية جليلة القاضي درست التخطيط العمراني بجامعة باريس 8/ فانسان، وحصلت على درجة الماجستير عن مدينة القاهرة وتطورها العمراني، وأيضا الأماكن التاريخية داخل المدينة ومصائرها.

انتقلت بعد ذلك إلى معهد التخطيط العمراني التابع لجامعة باريس 12، حيث اهتمت بعمليات التمدد والتوسع العشوائي للمدن. من هنا كان تركيزها على الحالة المصرية وتمدد الإسكان العشوائي على الأراضي الزراعية التي تمثل96% ،والـ4٪ المتبقية على الأراضي المملوكة للدولة. ومثال ذلك منشأة ناصر التي احتلها السكان نتيجة لأزمة السكن. أما حلوان وشبرا الخيمة فقد شكلتا مركز جذب للعمال من ذوي الأصول الريفية للعمل في المناطق الصناعية في المرحلة الناصرية.

الدكتورة جليلة القاضي انتدبت للتدريس في كلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة لمدة تسع سنوات، واهتمت آنذاك بين عامي 1982 و1988، بظاهرة سكن المقابر. ثم تبنت منهجا أكثر اتساعا تناولت خلاله  بالدراسة والتحليل المتعمق التطور التاريخي للجبانات الواقعة في نطاق القاهرة التاريخية المسجلة على قائمة التراث الإنساني لمنظمة اليونسكو. وتناولت بالتحليل بنائها المورفولوجي وأنماط مبانيها وطرزها المعمارية، وبوجه خاص، للمرة الأولى، مدافن الشخصيات الهامة المصرية البارزة ومعالمها الجمالية وتفردها. وطالبت بضرورة الحفاظ على الجبانات التاريخية كجزء من تراث العمارة الجنائزية الضارب بجذوره في القدم في وادي النيل، وأيضا كمكون أصيل لعمران العاصمة المصرية ككل.

ثم امتدت اهتمامات جليلة القاضي إلى دراسة تاريخ المدن المصرية المنسية، ذات التبادل الحضاري في حوض البحر المتوسط، مثل دمياط وبورسعيد ورشيد، لقيمتها التاريخية والمعمارية. وحررت كتابا بالتعاون مع الراحلين، الدكتور طاهر الصادق، عميد كلية التخطيط العمراني السابق، والدكتور حسام إسماعيل، أستاذ التاريخ في كلية الآثار جامعة عين شمس، تحت عنوان “رشيد: النشأة، الازدهار، الانحسار”.

د. جليلة القاضي - تصوير: كريم بدر
د. جليلة القاضي – تصوير: كريم بدر
***

حصل الكتاب عام 2001 على جائزة منظمة المدن والعواصم الإسلامية، كما ترجم كتابها عن جبانات القاهرة الصادر باللغة الفرنسية في نفس العام إلى اللغة الإنجليزية ونشر عام 2007، وترجم مؤخرا إلى اللغة العربية وصدر حديثا عن دار نشر “المرايا” عام 2025، كاشفا للقارئ العربي عن كنوز من العمارة الجنائزية المعاصرة وثراء الطبقات التاريخية المتداخلة للمدينة العتيقة. كما يشير الكتاب إلى التهور الذي أصاب الأمكنة والدمار الذي حل بأجزاء منها في مناطق متفرقة جراء عمليات الهدم لشق الطرق السريعة حولها وداخلها، معلنا عن بداية نحر واندثار تراث لا يعوض.

وخلال انتدابها الثاني في جامعة القاهرة بين عامي 2000 و2006، قامت جليلة القاضي بدراسة تراث القاهرة الخديوية بدعم من المجموعة الأوروبية، وكانت من أوائل من نادي بضرورة اعتبار المدن والأحياء التي نشأت في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كتراث يجب الحفاظ عليه، وهذا ما حدث بالفعل مع إنشاء جهاز التنسيق الحضاري عام 2002.

وأصدرت عام 2012 كتابا باللغتين الفرنسية والإنجليزية عن مركز مدينة القاهرة، تناول ظاهرة الحراك السكني  والوظيفي والتحولات الوظيفية والعمرانية والمعمارية لمنطقة المركز التي تمتد من جبل المقطم شرقا حتى حدود حي الدقي والمهندسين والجيزة غربا وجنوبا أحياء جاردن سيتي والمنيرة، وشمالا حتى الشرابية.

***

وإثر خروجها على المعاش عام 2015 في فرنسا، استكملت جليلة القاضي مسيرتها ووظيفتها التعليمية، وتبوأت منصب رئيسة قسم العمارة في الجامعة الفرنسية لمدة ثلاثة أعوام، قامت خلالها بإعادة هيكلته وإنعاشه، وخرجت أول دفعة منه. كما تعود علاقتها بالجامعة الفرنسية قبل ذلك إلى عام 2008، حيث شاركت مع جامعة السوربون والدكتور فكري حسن في عمل ماستر/ ماجستير عن التراث الثقافي. كما عملت في الفترة الواقعة بين عامي 2013 و2017، كمستشارة لمحافظ القاهرة في مشروع إحياء القاهرة الخديوية، قامت خلاله بتجديد شارع سراي الأزبكية في وسط البلد.

لا شك أن عوالم جليلة القاضي متعددة بين التخصص الدقيق، والثقافة، والسياسة، والأدب، والسينما العالمية وتطوراتها التي تتابعها في دأب وشغف نادر لأهم مدارسها الإخراجية ونجومها اللامعين. الأهم أن حياتها بين الثقافتين واللغتين الفرنسية والعربية – وأيضا الإنجليزية – فتحت أمامها آفاقا رحبة أثرت وعيها وعقلها النقدي الحر الذي ساهم في تحريرها من الثقافة البطريركية والذكورية التي تسم العلاقات والحياة في المجتمع المصري والعربي، وإلى تمردها على كليهما كأحد تعبيرات وسلوكيات سلطة الحرية الفردية التي كسرت القيود والسياجات المفروضة على الحضور الفعال للمرأة المصرية والعربية في المجال العام والخاص، التي تمت هندستها من أجل الطاعة والإذعان والخضوع.

ومن ثم تحررت من هذه السياجات ومعتقلات العقل والضمير الفردي، وأيضا من القيود الثقيلة على الحريات العامة. ومن ثم كانت مقاربتها للتخطيط العمراني وهندسة المدن وجماليتها وهوياتها، وثقافتها، جد مختلفة. أيضا سعت وراء تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه العدالة في السكن الصحي وفضاءاته الداخلية، وضرورة العناية في التخطيط العمراني بالعلاقات بين الكتلة المعمارية والفراغات والبيئة، سعيا وراء التوازنات الغائبة في حياتنا.

***

جليلة القاضي في نظرتها للتراث المادي – في مدن المسافرين طويلا في الغروب، وفق تعبير كتابنا التاريخي التليد “الخروج للنهار”-، بوصفها ميراثا تاريخيا وجماليا من العمارة التراثية، وتصميمات تحاول أن تتجاوز حالة ثنائية الفقد والموت، سعيا وراء سكينة الحياة الأخرى بين ظلال جلال الموت المتدثر براحة مبعثها جماليات التصميم، والخط العربي، والنصوص المقدسة وتعاليم المتصوفة الزاهدين. من هنا يبدو صوتها عاليا وجهيرا في المرافعة والمدافعة عن التراث المادي في المقابر الأثرية، وضرورات إحيائها والحفاظ عليها كقيمة تاريخية وأثرية وجمالية.

جليلة القاضي حملت في مخيلتها ووجدانها وعقلها، فيما يبدو لي، مشاهد المقابر الفرنسية، كبيير لاشيز، ومونمارتر و البانتيون -حيث شخصيات فرنسا التاريخية الكبرى  -، و سعي السائحين الأجانب لباريس لمعرفة مثوي وثري كبار بناة العالم من الفلاسفة و المفكرين و السياسيين و الفنانين والمغنيات والمغنيين وكبار النحاتين ، ورموز التصوير التشكيلي ومدارسه المختلفة ، والروائيين والروائيات والسينمائيين والسينمائيات والمهندسين والمهندسات والشعراء والشاعرات العظام والمهندسين والمهندسات ممن صاغوا جماليات البناء وحولوا الأحجار إلى موسيقى، وكبار علماء القانون والاجتماع الذين فتحوا الآفاق أمام معرفة مجتمعات الغرب وغيره، وحاولوا ضبط السلطة، ووضع الضوابط على سياساتها وقراراتها حماية لحرية الفرد والعقل الناقد كل هؤلاء وغيرهم/هن الذين أثروا فرنسا وثقافات الدنيا، ومعها عيون وعقول عالمنا.

75 عاما من الحرية والتمرد والاستقلالية والانتماء الوطني هي مسار حياة الصديقة والأخت الغالية الأستاذة الدكتورة جليلة القاضي، متعها الله بالصحة والعافية والسعادة والتألق والتمرد والتفرد والمشاكسات لأصدقاء عمرها الجميل.

اقرأ أيضا:

ملف| «جليلة القاضي».. 75 عاما في مواجهة القبح

أمنية عبدالبر تكتب: جليلة، أستاذتي وصديقتي

د.داليا الشرقاوي تكتب: علمتني الجرأة في التجوال

جليلة القاضي.. ضد التيار

كريم بدر يكتب: السيدة الأنيقة

طارق المري يكتب: الجليلة بنت القاضي

مونيكا حنا تكتب: «جليلة».. مثلي الأعلى

عمرو عصام يكتب: لمصر لا لجليلة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر