جبانات مصر التاريخية هي «مزار الخالدين»
منذ إثارة موضوع إزالة مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، في جبانة الأباجية ونجاح الحملة من أجل الحفاظ عليها، ظهر خطاب جديد، تبناه في البداية بعض الإعلاميين. يطرح بديلا للحفاظ على مدافن المشاهير، يتمثل في إنشاء جبانة حديثة، يطلق عليها «مقابر الخالدين». تضم رفاتهم بعد نقلها وهدم مدافنهم القديمة لإتاحة مرور شبكة الطرق والكباري التي بدأ تنفيذها في يوليو 2020، وتختصم كل يوم من مساحة الجبانات التاريخية لمدينة القاهرة. ثم خفت هذا الخطاب قليلا ليعود للظهور مرة أخرى على نطاق أوسع. حيث تم تبنيه من قبل مسؤولين كبار في الدولة يديرون مؤسسات مهمتها الأساسية الحفاظ على التراث والترويج له محليا وعالميا.
ويأتي هذا التوجه إثر فشل حملة إنقاذ مدفن الكاتب الكبير يحي حقي من الإزالة في مواجهة تعنت الحكومة ومضيها قدما في مخطط محو الجبانات التاريخية في مدينة القاهرة. ولتبرير هذا التوجه الجديد يستدعي من يتبنونه ويروجون له أمثلة محلية وعالمية. في الحالة الأولى يتخذون من مقابر العلمين التي تضم شهداء الحرب العالمية الثانية ذريعة، متناسين أنها ضمت منذ بداية إنشائها هؤلاء الشهداء ولم يتم نقلهم من مكان آخر!
***
وفي الحالة الثانية يلجأون لمثال البانثيون في باريس الذي يضم رفات بعض رواد الثقافة والأدب والفن والسياسة، متناسين أيضا، أن هؤلاء دفنوا في هذا المكان منذ البداية ومن نقلت رفاتهم لاحقا يكادون يعدون على أصابع اليد الواحدة. كما أنهم يمثلون أقلية بالنسبة لأغلبية من القامات الثقافية الفرنسية. ما زالوا يرقدون في مدافنهم بجوار ذويهم التي تحولت لمزارات عالمية. وتجدر الإشارة إلى حق الأسرة في رفض نقل رفات العظماء مثل أسرة الروائي المعروف ألبير كامو على سبيل المثال لا الحصر، ولا تستطيع الدولة إجبارهم على ذلك.
كما أن نقل رفات أي شخصية عامة لوضعها في مقبرة العظماء لا يتبعه، أو يسبقه إزالة المدفن الأصلي لأسرة المنقول، مثل ما حدث مؤخرا في حالة الراقصة الأمريكية جوزفين بيكر. فما زالت مقبرتها في سويسرا كما هي على الرغم من نقل رفاتها للبانثيون. هناك إذن خطاب تضليلي بل وتجهيلي لتبرير وتمرير جريمة معلنة تهدف للقضاء على الجبانات التاريخية لمدينة القاهرة. وطمس معلم هام من معالمها يحمل العديد من القيم الثقافية والتاريخية والوجدانية والدينية بالإضافة للاعتداء على حرمة الموتى المرفوضة والمدانة من قبل كل الأديان والأعراف.
***
إلا أن الأمر لم يتوقف على تصريحات متواترة في وسائل الإعلام، بل تجلي عن وجود مشروع بالفعل لإنشاء ما يسمى “مزار الخالدين” في العاصمة الإدارية الجديدة. يبدو أنه في مرحلة متقدمة من التصميم وعلى وشك التنفيذ. ويتبنى هذا المشروع جهاز التنسيق الحضاري، الذي كان قد اضطلع في شهر يوليو الماضي بمراجعة قوائم المدافن ذات القيمة بالتعاون مع محافظة القاهرة. وأضاف للقائمة السابقة مدافن مستجدة تم تسجيلها وذلك من أجل الحفاظ عليها وليس بهدف إزالتها أو نقل رفات العظماء التي تضمهم. ويأتي الإعلان عن هذا المشروع في ظل هجمة شاملة على مجمل الجبانات تمثلت في توجيه إنذارات بالإزالة لآلاف من أصحاب الأحواش في قرافات السيدة نفيسة والإمام الشافعي وصحراء المماليك. من أجل تنفيذ شبكة جديدة من الكباري وتوسيع طريق صلاح سالم.
***
ويثير مشروع مزار الخالدين هذا تساؤلا مبدئيا وهو عن أي رفات أو خالدين يتحدثون؟ عن تراكم على مدى أربعة عشر قرنا لآلاف مؤلفة من الأعيان والشخصيات العامة والرواد المعلوم منهم والمجهول الذي ضاع شاهد قبره. ليس فقط على مستوى مصر، ولكن على مستوى المنطقة كَكُلّ، من رجال ونساء في جميع المجالات. الفن والأدب والشعر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والعلم والتاريخ وعلماء الفقه والحديث وشيوخ إجلاء للأزهر بالإضافة للصحابة الأوائل وآل البيت وأولياء الله الصالحين، جلهم تحولت رفاتهم لتراب اختلط بتراب ذويهم. فهل سيتم نبش قبور كُلّ هؤلاء؟ وكيف سيتعرفون على رفاتهم؟ ولماذا ينقلون أساسا وقد اختاروا أن يدفنوا في هذا المكان فأصبح بوجودهم المستمر فيه عبر العصور هو بالفعل “مقابر الخالدين” من أهل مصر والمثال العربي. من أعلام الفكر والفن والإنسانية وشهدائنا الذين رقدوا في سكينة وسلام واحتضنهم تراب الوطن الذي خدموه وعشقوه بجوار الصالحين والأولياء.
فالموت عند المصريين له قدسية أيا كانت ديانتهم فهذا موروث تفردت به مصر. لذا فقد حظيت قرافات مصر بمكانة مميزة في كتابات المؤرخين والرحالة وذكرت في عشرات من الكتب وتراجم سير الأعلام وأدبيات الزيارة. وكانت ومازالت قبلة للسائحين والدارسين للعمارة والفنون من الخط العربي والتذهيب والنقش علي الحجر وهي أشياء لا تستنسخ ولن تستعاد. فإذا أرادوا تخليد ذكرى الخالدين بشكل رمزي من خلال إنشاء مشهد خرساني. فليفعلوا ذلك في المدينة الجديدة دون الحاجة للمساس بالمدافن التي يرقد بها الخالدون. فلم يفكر أحد في يوم ما في هدم جبانة طيبة أو مقبرة توت عنخ آمون إثر نقل مومياوات ملوك وملكات مصر القديمة. وهو منهج صار مرفوضا من قبل المنظمات العالمية الراعية للتراث الإنساني. إن جبانات القاهرة التاريخية التي أنشأت في العصور الوسطى وتوسعت حتى العصر الحديث لا تقل قيمة عن وادي ملوك وملكات مصر في العصور القديمة.
***
ثم يأتي آخرون بتبريرات أخرى أكثر ضلالة لتبرير إزالة جبانات القاهرة التاريخية وضرورة نقلها إلى المدن الجديدة كالعاشر من رمضان و15 مايو . ترتكز على فكرة أن مكان الجبانات يجب أن يكون خارج نطاق العمران، بينما أدي توسع العمران إلى احتواء الجبانات بداخله فأصبحت تمثل عائقا أمام مشاريع تطوير العاصمة. حسنا، لماذا لا يستدعون في هذه الحالة أمثلة المدن الأوروبية التي تمثل مرجعيتهم الأولى إلا فيما تم نبذه في سياسات تطوير المدن. أي منهج التجديد بمعني الهدم والإحلال الذي ساد العمليات الكبرى لتحديث المدن منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
بدءا من هذا التاريخ، بدأت معظم الدول المتقدمة تتبنى منهج إعادة الإحياء والترميم والحفاظ بديلا عن منهج التجديد الحضري الذي ما زالوا يتمسكون به حتى الموت في وادي النيل. ومن الجدير بالذكر أن المدن الأوروبية تضم في داخلها مقابر مخططة. تعود إلى قرنين من الزمان فقط وليس أربعة عشر قرنا، وتقع داخل نطاق أرقى أحياء العواصم الكبرى. وأدي الاهتمام بتشجيرها إلى تحولها لحدائق جنائزية ومزارات سياحية عالمية. على سبيل المثال لا الحصر، مقابر مونمارتر وبار لاشيز ومونبارناس في العاصمة الفرنسية.
***
فوجود هذه المدافن داخل العمران يمثل قيمة مضافة وليس عائقا كما في القاهرة. هو فقط معوق للاستثمار العقاري الضار الذي التهم الأخضر واليابس وتعدي على نهر النيل بشراهة منقطعة النظير في أقل من عشر سنوات ويستعد الآن لازدراد أرض الجبانات إثر إخلائها. لذا فإن تبني منهج الإحلال والتجديد، الذي يتنافى مع منهج الحفاظ على التراث والبيئة، يعني الاستمرار في نقل الجبانات كلما توسعت المدن واحتوتها بداخلها، وسيحدث ذلك حتما في مدن العاشر من رمضان و15 مايو.
قد حدث هذا بالفعل مع مدافن الوفاء والأمل التي يعود إنشاؤها إلى الثمانينيات من القرن الماضي. حيث تمت إزالة أجزاء منها إثر إنشاء محور المشير، واضطر أصحاب المدافن الذين نقلوا رفات ذويهم إثر إنشاء طريق الأوتوستراد إلى نقلها مرة أخرى لمدافن بديلة، لن تكون الأخيرة من واقع الأمر. وهكذا سيقومون بنقل الجبانات كل خمسين عاما وتشريد رفات أموات المصريين وتحويلهم لبدو رحل. وهم من استقروا في وادي النيل منذ أكثر من سبعة آلاف سنة وَمَقَابِرهمْ ما زالت في أماكنها شاهدة علي أعظم الحضارات الإنسانية.
***
نحن في أشد الحاجة إلى شيء من التروي والتفكير والاستعانة بأهل الخبرة لاتخاذ قرار أكثر رشدا وأقل كلفة سيكون في صالح الوطن والإنسانية والموتى والأحياء. وسيحد من إهدار الموارد وتبديدها في هدم كنوز فريدة ومزارا قائم للخالدين من أجل إنشاء مزار بديل لن يصل أبدا إلى روعة وجمال وقيمة الموجود حاليا. إن البديل الأمثل والمتاح الذي يحقق المصلحة العامة هو في الحفاظ على جبانات القاهرة التاريخية وتشجيرها وإعادة الرونق اليها. لتعود لسابق عهدها بستانا للعلماء وأهم المزارات السياحية الدينية والثقافية في مصر والعالم، فتدر دخلا نحن في أمس الحاجة إليه. فضلا عن توجيه رسالة إلى العالم أن أرض الحضارة التي أضاءت العالم علما ونورا تحترم حرمة جميع الموتى. سواء كانوا من العامة أو من السلاطين فالمساس بمستقراتهم الأخيرة تحرمه جميع الأديان. فضلا عن تدمير الهوية المصرية وطمس لمعالم تاريخ عظيم من واجبنا الحفاظ عليه وتوريثه لهم كما فعل أجدادنا وآباءنا.
جليلة القاضي، أستاذة التخطيط العمراني المتفرغة في جامعات فرنسا
اقرأ أيضا:
د. جليلة القاضي: جبانات القاهرة تراث عالمي.. والقانون يحميها (1-2)
د.جليلة القاضي: سأعود لمصر في حالة إعادة النظر في مخطط الجبانات (2-2)