«تلال الفسطاط».. حتى لا تكون الحدائق على جثة التاريخ

قد يكون مشروع حدائق تلال الفسطاط بوابة لتدمير أي إمكانية للكشف عن أسرار أقدم عاصمة لمصر

تبشر الحكومة المصرية بمشروع حدائق تلال الفسطاط كنقلة في العاصمة المصرية، من حيث توفير رقعة خضراء مع تقلص الأخيرة بسبب إجراءات حكومية لنزع الأشجار من الشوارع، إلا أن المشروع الجديد لم يوضح مصير المنطقة التي تقام فوقها هذه الحدائق الغناء. ما نعرفه أن هذه المنطقة هي ذاتها التي كانت تشغلها مدينة الفسطاط، أول مدينة عربية إسلامية في مصر، والتي بنيت قبل 14 قرنا، وتركت أطلالها خلفها تحكي قصة قرون من التطور العمراني، التي تحتاج إلى حفريات أثرية مكثفة في المنطقة، قبل استغلالها في أي مشروعات خدمية أو استثمارية، ما يطرح أسئلة مشروعة حول الحفاظ على تراث المدينة الباقي تحت الأرض، بالتوازي مع أكبر تدخل بشري في منطقة الفسطاط منذ أكثر من 700 عام.

***

الإعلان الحكومي عن وجود حفريات في منطقة الفسطاط الأثرية غير مطمئن، فالمساحة المعلن تخصيصها للتنقيب الأثري لا تتجاوز 10 بالمئة من إجمالي المساحة المقدرة لمشروع حدائق تلال الفسطاط. ورغم ذلك، لم يتم الإعلان عن أي اكتشافات أثرية، رغم أن المشروع بدأ قبل أربع سنوات، فهنا تتصاعد المخاوف من أن يكون الإعلان عن تنفيذ حفائر مجرد ذر للرماد في العيون، ومحاولة للتغطية على استباحة منطقة أثرية نادرة لم تبح بكل أسرارها التاريخية بعد، فهل نحن أمام جريمة جديدة في حق تراث القاهرة؟ لا نريد الإفراط في سوء النية، لكن غياب الشفافية بالتوازي مع ما يجري من استباحة للمدينة وهدم يطال مختلف طبقاتها التاريخية، يميل بالنفس ناحية التشاؤم، ويفجر المخاوف من أن يكون مشروع حدائق تلال الفسطاط بوابة لتدمير أي إمكانية للكشف عن أسرار الفسطاط التاريخية مستقبلًا.

وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، شريف الشربيني، قال خلال اجتماع لمتابعة الموقف التنفيذي لمشروع حديقة تلال الفسطاط قبل أسبوعين، إن الحديقة تُعد من أكبر الحدائق في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتم تنفيذها على مساحة نحو 500 فدان، في موقع مركزي بقلب القاهرة التاريخية، كان يستخدم سابقاً مقلباً للمخلفات. ويتم تنفيذها في إطار جهود الدولة لتطوير القاهرة التاريخية، وتوفير المتنزهات للمواطنين، وزيادة نصيب الفرد من المسطحات الخضراء والفراغات العامة.

وكشف الشربيني عن تفاصيل المشروع كاملًا، الذي يغطي المساحة الواقعة بين عين الصيرة غربًا وجامع عمرو بن العاص شرقًا ومتحف الحضارة جنوبًا وطريق صلاح سالم والمنطقة السكنية المطلة عليه شمالًا. إذ أكد أن الحديقة تضم ثماني مناطق، ولها 14 بوابة، وتم مراعاة زيادة المسطحات الخضراء، بالتوازي مع إنشاء المنطقة الثقافية مقابلة للبوابة الرئيسية لدخول الحديقة على طريق صلاح سالم، والتي تضم ساحات للأنشطة الثقافية والمطاعم والكافيهات.

***

الطابع الاستثماري واضح في مشروع حديقة تلال الفسطاط، إذ يضم منطقة استثمارية تطل على بحيرة عين الحياة، تضم 12 مطعمًا، وأربعة مراكز تجارية، وأربعة جراجات للسيارات، وخلفها منطقة تسمح بإقامة العديد من الاحتفالات الرسمية الكبيرة، حيث تضم المسرح الروماني والنافورة المائية، إضافة إلى منطقة المغامرة، وبها عدد من المباني الخدمية والبحيرات والزراعات. فضلا عن منطقة الأسواق، وهي منطقة تجارية بالحديقة، وتهدف لتنشيط السياحة ودعم الاقتصاد وتنشيط الحرف اليدوية والتراثية، ومن أبرزها أعمال الزجاج، والسيراميك، والشمع، والغزل والنسيج، ويتم تنفيذ منطقة الأسواق على ثلاثة مراحل، وتشتمل على 19 محلاً تجاريًا، ومواقف سيارات، وبحيرة صناعية، ومساحات زراعية، وفندق ثلاثة نجوم.

وتضم الحديقة منطقة يطلق عليها مسمى “التلال والوادي”، وتنقسم منطقة التلال إلى ثلاثة تلال يمر بينها ممر مائي، وتتدرج في مجموعة من المصاطب تبدأ من حافة النهر، وتنتهي حتى قمة التلة، بحيث تجعل من قمة التلال مُطلات على المشروع، والمنطقة المحيطة وقلعة صلاح الدين والأهرامات. وتضم “تلة القصبة” فندقًا سياحيًا، ومباني خدمية، ومواقف سيارات، وبحيرة صناعية، ومدرجات ومناطق جلوس مطلة على الشلال، وكوبري مشاة للربط، وكافيتريا، وشلالا. أما “تلة الحدائق التراثية”، فتضم مدرجات ومباني للزوار، ومناطق للمطاعم والاحتفالات والترفيه.

***

ولكي لا يبدو المشروع في تضاد مع المنطقة الأثرية، قال وزير الإسكان إنه يجري العمل بـ”تلة الحفائر”، من خلال الجهاز التنفيذي لتجديد أحياء القاهرة الإسلامية والفاطمية، بهدف اكتشاف وإظهار أول عاصمة إسلامية لمصر؛ مدينة الفسطاط القديمة، لتصبح المنطقة مزارًا أثريًا سياحيًا ثقافيًا متكاملًا من خلال الكشف عن بقايا مدينة الفسطاط على مساحة حوالي 47 فدانًا، للوصول للتكوين المعماري للمدينة الأثرية وترميمها، والكشف عن بقايا سور صلاح الدين الأيوبي، وحصر وتجميع القطع الأثرية المكتشفة وترميمها، ثم النشر العلمي لما سيتم اكتشافه، مع تنفيذ ممشى بطول كيلومتر واحد، وارتفاع 1.5 متر عن منطقة الحفائر حول مدينة الفسطاط الأثرية (الحفائر)، لربط المباني الخدمية السياحية بالموقع العام، لاستثمار المنطقة التراثية كمنطقة سياحية ذات طابع متميز.

هكذا يعترف الوزير بأن أعمال الحفريات الأثرية ستقتصر على 47 فدانا من أصل 500 فدان هي المساحة الإجمالية للمشروع، أي أن منطقة الحفريات لن تتجاوز 10 بالمئة من إجمالي المساحة التي ستستخدم لإقامة حدائق ومسطحات مائية وفنادق ومطاعم وكافيهات ومسارح وجراجات. وهي أنشطة تتعارض مع حماية المنطقة كونها تقع فوق طبقات من تاريخ مدينة الفسطاط غير المكتشف. وما يثير الريبة أنه رغم أن المشروع أعلن عنه في 2019، إلا أنه منذ هذا التاريخ لم يتم الإعلان عن أي اكتشافات أثرية قامت بها الجهات المسؤولة، وهي هنا وزارة الآثار وهيئاتها التابعة، في المناطق التي يقام فيها العديد من المباني السياحية والترفيهية.

***

المدهش أن الدكتور أسامة طلعت، عندما كان يشغل منصب رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، أصدر بيانا في يوليو 2021 بمناسبة جولة تفقدية لرئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي لمنطقة جامع عمرو بن العاص، مع بدء العمل في المشروع. اللافت أن بيان طلعت استعرض تاريخ الحفائر الأثرية بالفسطاط في العصر الحديث، بداية من حفائر 1912- 1920، التي قادها الأثري المصري علي بهجت والفرنسي ألبير جبرييل. ثم حفائر الأثري المصري حسن الهواري في العام 1932، فحفائر جمال محرز في العام 1964، وحفائر كلية الآثار بجامعة القاهرة بين عامي 1973 و1975، ثم حفائر المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة بمنطقة إسطبل عنتر، والحفائر الأجنبية الأخرى.

أعمال البحث عن الفسطاط، كشفت عن بقايا بعض البيوت ومنشآت المدينة التي تعود إلى العصور الطولونية والفاطمية، بما في ذلك وسائل تزويد وتصريف المياه. وقد أمدت هذه الحفائر المختلفة متحف الفن الإسلامي بالقاهرة بالكثير من روائع الفن الإسلامي. ويمكن لأي مهتم أن يزور المتحف ويطلع على روائع التي تم جلبها من أطلال الفسطاط. وهو ما يعد أمرا طبيعيا، إذ تشكل المنطقة أكبر منجم للآثار الإسلامية في مصر بلا أي مبالغة. لأن المدينة تم البناء فيها بصورة مستمرة لقرون طويلة، ما كون طبقات تاريخية فوق بعضها البعض.

كتاب حفريات الفسطاط
كتاب حفريات الفسطاط

ورغم الإعلان عن بدء أول مدرسة حفائر لمفتشي قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بمدينة الفسطاط في مارس 2021، فأنه لم يتم الإعلان عن نتائج أي حفائر أو أي اكتشافات أثرية في منطقة الحفريات. نقارن هذا بحجم الاكتشافات الضخمة التي سجلها علي بهجت في كتاب “حفريات الفسطاط” الذي صدر العام 1928، وكشف فيه عن العديد من الكنوز التي عثرت عليها أعمال التنقيب والبحث في منطقة الفسطاط، مع ملاحظة أنه أكد ضرورة استمرار عمليات الحفر والبحث لأن المنطقة غنية بالبقايا الأثرية، كما هو واضح من الصور التي أرفقها لكتابه وتكشف عن كنوز أثرية معدومة النظير.

***

التاريخ الذي تحمله مدينة الفسطاط من العراقة ما يجعل الحديث عن تراثها وآثارها من الأهمية بمكان، فالمدينة أسسها عمرو بن العاص بعد غزو العرب لمصر، لتكون أول عاصمة عربية للبلاد منذ العام 21هـ/ 641م. نمت سريعا في فترات الحكم الأموي والعباسي، ثم وصلت لمرحلة النضج في العصر الطولوني والإخشيدي. وقد أضيفت لها ضواحي في هذه الفترات عرفت باسم العسكر والقطائع، قبل أن تصل إلى قمة ازدهارها وعظمتها في العصر الفاطمي الذي نقل مقر الحكم إلى القاهرة. استمرت الفسطاط مركزا للنشاط الثقافي والاقتصادي والاجتماعي لأكثر من خمسمائة عام، ثم بدأت في التراجع مع تصدر القاهرة في العصرين الأيوبي والمماليكي، قبل أن يعمها الخراب في العصر الأخير وتعرف باسم حي مصر القديمة. وقد صدر كتاب للباحث التاريخي عبد الرحمن الطويل بعنوان (الفسطاط وأبوابها) العام الماضي، أرخ فيه باستفاضة للمدينة وأهميتها.

إن التخوف مشروع هنا، فالمنشآت التي ستقام على معظم مساحة مدينة الفسطاط التاريخية لن تخضع لأي حفائر تاريخية. وسيتم البناء عليها بمنشآت مثل الجراجات، التي تنسف أي إمكانية لإجراء حفائر مستقبلية. وهنا مرة أخرى نؤكد أن لا أحد ضد التطوير من حيث المبدأ، واتجاه حميد استغلال مساحة ضخمة مثل منطقة الفسطاط. لكن هذا لا يعني أو يبرر الاعتداء على تراث مدينة مثل الفسطاط، بكل ما تحمله من إمكانيات أثرية تعيد كتابة جزء مهم من تاريخ مصر. فكان الأفضل التمهل في المشروع لحين الانتهاء من عمليات تنقيب أثري شامل. والتأكد من خلو الأماكن التي سيتم البناء عليها من وجود بقايا أثرية تحتها.

***

لا نجد ما نختم به إلا ما كتبه الأثري علي بهجت قبل أكثر من قرن من الزمان في كتابه عن حفريات الفسطاط: “ما عرفناه من تاريخ المدينة وتحققناه بالعيان، مما كشف من أبنيتها، يجعلنا نأسف كل الأسف لبقاء التخريب يعمل عمله، حتى الزمن الذي نحن فيه، مع أن سائر البلاد تحرص كل الحرص على دراسة بقايا العصور الماضية بكل دقة، وإن كانت دون بقايا الفسطاط في الأهمية. ومن أجل ذلك، يسوغ لنا أن نصر بأن من الغلطات التي لا تغتفر، عدم حماية بقايا العاصمة الإسلامية الأولى للديار المصرية، حماية أجل خطرًا وأفعل أثرًا“.

اقرأ أيضا:

«ابن الطويل».. واستعادة الفسطاط الضائعة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر