«بين السما والأرض».. مصعد عالق منذ ستين عاما
في عام 1959، ظهرت سعاد حسني على الشاشة لأول مرة، وتزوج محرم فؤاد من تحية كاريوكا، ولم يوفق عبدالمنعم إبراهيم في بطولته الأولى في (سر طاقية الإخفاء)، واتقدت الشرارة الأولى لقصة حب رشدي أباظة وسامية جمال في أثناء تصوير (الرجل الثاني)، وتصدر اسم إسماعيل ياسين أفيشات تسعة من أشهر أفلامه، وعُرضت أفلام (بين الأطلال) و(دعاء الكروان) و(أرحم حبي) و(إحنا التلامذة) و(المرأة المجهولة) و(صراع في الميناء) و(أنا حرة)، وعَلِق مصعد عمارة الإيموبيليا بالمخرج صلاح أبوسيف داخله.
تحت تهديد السلاح
كانت عمارة الإيموبيليا الواقعة عند تقاطع شارعي شريف وقصر النيل في وسط البلد، تعج بالفنانين والمشاهير، محمد فوزي ومحمد عبدالوهاب وماجدة وعبدالعزيز محمود ومحمود المليجي، كما ضمت عددا من المخرجين مثل كمال الشيخ وهنري بركات ومحمود ذوالفقار وحلمي حليم، وكان أبوسيف في زيارة بالعمارة حين تعطل المصعد وهو داخله، إذ بات الأمر متكررا في العمارة أيامها. حكا أبوسيف الحادثة لصديقه وشريكه الفني نجيب محفوظ، وفكرا في أن تعطل مصعد يضم مجموعة متباينة من الأشخاص يصلح كـ”تيمة” لفيلم سينمائي ذي طابع جديد، كان محفوظ قد انشغل بالعمل في الكتابة السينمائية في السنين السابقة، حيث خاصمته الرواية لأكثر من خمس سنوات عقب ثورة 1952، وتصور أنه أنهى مهمته كأديب وسجل نفسه في نقابة المهن التمثيلية ككاتب سيناريو، قدم في هذه الفترة عددا من الأفلام مع أبى سيف أبرزها (ريا وسكينة)، و(الوحش)، و(الفتوة)، و(أنا حرة)، حتى جاءه أبوسيف بفكرة الأسانسير المعلق فأثارت مخيلة نجيب الذي تذكر فيلما أمريكيا كان قد شاهده عن رجل يحتجز مجموعة من الناس داخل شقة مغلقة تحت تهديد السلاح ويستبد بهم، كان الفيلم الأمريكي يغمز إلى هتلر، وهو ما لم يحدث في فيلمنا المصري الذي لم يشر إلى عبدالناصر أو غيره، ولكن كانت له رمزية مختلفة.
اختار أبوسيف مجموعة من الممثلين متقدي الموهبة لفيلمه الجديد، فضم طاقم الفيلم أحد أهم المواهب المصرية على الإطلاق، محمود المليجي، وكذلك واحدا من أفضل الممثلين سواء في الأدوار الكوميدية أو التراجيدية وهو عبدالمنعم إبراهيم، الذي أظنه أبرز أبطال الفيلم، إضافة إلى عبدالسلام النابلسي بحضوره الطاغي، وسعيد أبوبكر ونعيمة وصفى، وشفيق نور الدين، كما ضم الأسانسير عبدالمنعم مدبولي في واحد من أوائل أدواره السينمائية، حيث ظل لسنين طويلة منشغلا بالمسرح والإذاعة عن السينما، وظهرت فيه المراهقة زيزي مصطفى في أول أدوارها بعد ظهور عابر في فيلم (إسماعيل ياسين في الطيران)، ولا ننسى عبدالغني النجدي في دور الخادم، وأحمد لوكسر في شخصية المخرج. ولكن لم يكن بين أبطال الفيلم نجم شباك أو نجمة جماهيرية سوى هند رستم، كانت هند قد تأرجحت لسنوات بين أدوار البطولة التي أفردها لها حسن الإمام وبين الأدوار المساعدة التي أدتها في أفلام مثل (لا أنام) و(رد قلبي) و(أنت حبيبي)، إلا أنها ثبتت قدميها كبطلة أولى في عامي 1958 و1959، واللذين شهدا بطولتها لأكثر من عشرة أفلام، منها (باب الحديد) و(صراع في النيل) و(إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين) و(قبلني في الظلام) وكذلك (بين السماء والأرض). كانت هند تخشى صلاح أبوسيف، فرغم أنه هادئ الطباع ووديع وقليل الكلام على حد وصفها، إلا أن نظرة واحدة منه تكفى لرعب أي فنان إذا أظهر تهاونا في عمله، وكذلك كانت تخاف من محمود المليجي، ولا تناديه إلا (أستاذ المليجي)، وامتد خوفها منه خلف الكاميرا وأمامها، فهي تعلم يقينا أنه قادر على خطف الأنظار وسرقة المشهد من أي ممثل أمامه وهو ما يدفعها لمزيد من الانتباه واليقظة، ولذا يبدو لي أن اختيار الأبطال كان موفقا للغاية ومتنوعا بين مواهب فذة وممثلين يسعون لخطوات جديدة وأصحاب تحديات شخصية، وأصدقاء قدامى فرقهم العمل مثل عبدالمنعم مدبولي وعبدالمنعم إبراهيم.
نحو السماء
لم يصوَّر الفيلم في عمارة الإيموبيليا، بل انتقل التصوير من وسط المدينة إلى الزمالك، وتحديدا عمارة ليبون الواقعة على شاطئ النيل، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى شركة الكهرباء الفرنسية التي شيدتها، وباتت سكنا للمشاهير في الخمسينيات، الزوجين فاتن حمامة وعمر الشريف، وكذلك ليلى فوزي وجلال معوض، ومحرم فؤاد وعلى أمين وسامية جمال، التي سينضم لها لاحقا زوجها رشدي أباظة. شهدت العمارة تصوير المشاهد التي تجرى خارج المصعد، أما الأسانسير من الداخل فكان ديكورا تم إعداده خصيصا ليسهل فكأىّ من جدرانه لتوضع الكاميرا مكانه، على أن يتم ذلك بالتبادل على حسب زاوية المشهد.
كتب نجيب محفوظ قصة الفيلم فقط، ولم يشارك في السيناريو الذي صاغه أبوسيف مع السيد بدير، ربما كان محفوظ منشغلا حينها بوضع اللمسات الأخيرة على روايته (أولاد حارتنا) التي ستنشر مُسلسلة في جريدة الأهرام قبيل عرض الفيلم بأسابيع، وهي روايته الأولى بعد فترة توقف طويلة، عاد بها نجيب للأدب ولكن من بوابة جديدة، فليست الرواية واقعية كما كانت رواياته السابقة، بل أقرب إلى الرمزية، وكذلك كان الفيلم، الذي مثّل مغامرة في مشوار صلاح أبوسيف، حيث تخلى عن واقعيته هو الآخر في واحدة من مرات قليلة بمسيرته، أبرزها فيلما (بين السماء والأرض) و(البداية). ولذا فقد جاء الفيلم قريبا من الواقع رغم رمزيته، فالرمز واضح وبيّن لأغلب المشاهدين، الأسانسير هو نموذج مصغر للمجتمع يضم المتدين والمجنون والنجمة والسارق والمجرم والخائنة والحامل والزوج البسيط، ويضم رجلا يقبل على الموت وسيدة تضع مولودا، مصعد في رحلة محفوفة بالمخاطر، يصعد حينا ويهبط آخر، وحياة كل من فيه معلقة بحركة بسيطة، قد تدفعهم نحو السماء أو تخسف بهم الأرض. إلا أن أبرز اثنين في هذا الجمع غير المتجانس هما الخادم أو السفرجي (عبده) المتأثر بشعارات الثورة ومتغيراتها، والذي أدى دوره عبدالغني النجدي، والأرستقراطي السابق عبدالسلام النابلسي الذي يبدو –دون توضيح – أحد أبناء طبقة البهوات الناقمة على الثورة، فثمة صراع دائم بين الاثنين منذ ركوب الأخير للأسانسير مخالفا التعليمات، مما دفع (عبده) للغضب مطالبا بخروج الرجل المتأنق وانتظار دوره لاحقا، هذه المشاحنة ستستمر طوال الرحلة، فمدعى الأرستقراطية سيتأفف وينفر من روائحهم جميعا ومن أصواتهم وتصرفاتهم، يصفهم قائلا “لصوص وحرامية وقطاع طرق وصينية بطاطس وكلاب وولادة كمان، ده شئ لا يطاق”، فهو لا يجد في هذا الجمع من يستحق أن يصحبه أو يتحدث إليه سوى نجمة السينما، وفي المقابل يهاجمه (عبده) قائلا أن عهد البهوات قد ولى وأن الرؤوس صارت متساوية، ثم يتهمه بالجنون فالمجنون الحقيقي هو من يظن أنه في مقام أعلى من الباقين، هكذا عبّر الفيلم عن الصراع الطبقي المتأجج في الصدور، أما الرجل المتدين، شفيق نور الدين، فيعلّق على انكشاف حقيقة الركاب بتلاوة بعض الآيات القرآنية، كأن يقول عندما ينكشف له أمر الزوجة الخائنة “وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا “.
تجربة جديدة
فشل الفيلم فشلا ذريعا وصُدم أبوسيف لهذا السقوط غير المتوقع، فبعد أفلامه الأولى في الأربعينيات استطاع صلاح أن يصل إلى طريقته الخاصة في صناعة أفلام تقدم فنا حقيقيا وقادرة على جذب الجماهير في آن واحد، أفلام تطرح أفكار المخرج ورؤاه وتحقق الإيرادات أيضا، فمنذ فيلم (لك يوم يا ظالم) في مطلع الخمسينيات وحتى (المواطن مصري) في مطلع التسعينيات وهو قادر على صنع تلك الحالة الخاصة بسينما صلاح أبوسيف، ولم تفلت منه الجماهير إلا في مرات معدودة، أبرزها كانت هذه المرة وكذلك فيلم (القضية 68). أما نجيب محفوظ فبرر فشل الفيلم بأنه تجربة جديدة على السينما المصرية حينها وأن الناس لم تكن معتادة هذا النوع من الأفلام. لم يفشل الفيلم جماهيريا فقط، بل إنه هوجم نقديا أيضا، فكتب عنه الشاعر صلاح عبد الصبور في روزاليوسف مقالا بعنوان (من السماء.. إلى الأرض)، قائلا أن الفيلم أقل مما توقع له الجميع بل هو أقرب للأرض منه إلى السماء، متهما أبوسيف بأنه فقد انتباه المتفرجين لأن الموقف – في نظره – ظل ساكنا دون الغوص في أعماق نموذجين أو ثلاثة من راكبي المصعد، “كان من الممكن أن يصبح الأسانسير رمزا لنقطة التحول في حياة أبطاله أو هو الفصل الثالث من بناء القصة الذي تنحل بعده عقدة القصص الفرعية”.
مصعد عالق
ربما أتفق مع جزء بسيط من ملاحظات عبدالصبور، فكانت أمام الفيلم فرصة لمزيد من التعمق في الشخصيات، تحديدا المجنون ومدعي الأرستقراطية، إلا أنني أختلف مع رؤيته الأخيرة، فرحلة الأسانسير لم ولن تكون نقطة تحول في حياة أي من الشخصيات، هي مجرد لحظة كشف، وبمجرد زوالها سيعود كل منهم إلى حياته العادية ناسيا ما كان، هذا ما وضحته المشاهد الأخيرة في الفيلم، باستثناء الزوجة الخائنة التي صفعت عشيقها وتركته في الشارع، وإن كنت أتوقع لها أن تعاود الكرة مرة أخرى بعد أيام أو أسابيع، وهو تكوين مشابه جدا لما ستعرضه مسرحية سعد الدين وهبة (سكة السلامة) -بشكل أكثر تفصيلا وتعمقا- بعد عرض الفيلم بحوالي خمسة أعوام، ووصل حد التشابه بين تكوين العملين إلى مشاركة ثلاثة من أبطال الفيلم في المسرحية، وهم عبدالمنعم إبراهيم وشفيق نور الدين ومحمود عزمي.
نسخة عصرية
رد العرض التليفزيوني الاعتبار للفيلم، وكذلك اختاره النقاد لاحقا كواحد من أفضل مائة فيلم مصري في القرن العشرين. والآن، بعد مرور أكثر من ستين عاما، عاد إسلام حافظ ومحمد العدل لتقديم نسخة عصرية من القصة ذاتها في صورة مسلسل تليفزيوني من خمسة عشر حلقة، التزم الكاتب بالخط الأساسي للقصة ولكن دون التقيد بالتفاصيل، كما أتاحت له المساحة الزمنية الواسعة فرصة لاستعراض حياة الشخصيات العالقة بالمصعد قبيل ركوبه، فنجد أن الرجل الأنيق الراقي هو مجرد بلطجي سابق خريج سجون، وأن المجنون هو مهندس تم النصب عليه ووصمه بالجنون، كما حلت مجموعة من المتطرفين محل العصابة، وركب الأسانسير مفكر وأستاذ جامعي متهم بالإلحاد، والمتحرش الذي أدى دوره سعيد أبوبكر سابقا صار شابا غنيا يغوى الفتيات بثروته ونفوذه ويسجل لهم الفيديوهات ثم يبتزهن بها، إضافة إلى نجمتين سينمائيتين ومثقف عجوز والزوجة الحامل وخادمة وشاب متدين. هكذا رسم صناع المسلسل صورة عصرية للمجتمع المصري وأمراضه وبعض من صراعاته في 2021، وحالفهم التوفيق في رسم الشخصيات وضبط الإيقاع والتنقل بين الحاضر والماضي، رغم ضعف موهبة البطلين، ورغم قسوة المقارنة.
اقرأ أيضا
مثقفون ينتقدون الصورة المغلوطة: الصعيد المتخيل في دراما رمضان