بورتريهات متخيلة (11): أحمد عدوية.. سلطان الغنا الشريد
يصلح أحمد عدوية للهزل، للجد، كخلفية أثناء الكتابة، المشي، العراك، التأسي، الفرح، في النهارات التي نحمل فيها السماء فوق أذرع مثقلة وظهور محنية، في جوف الليالي حيث لا أشباح سوانا.
يواكب شعورك بالسخافة أو الغرور، بزهو اللحظة، بإحباط العمر، يحذرك من خطيئة أن تعلو، ويدفعك دفعا إلى شاهق، لأن النجمة أخت القمر، هناك.
**
في مواجهة صمت قاس يرغب في دفنه، كان صوته يتسلل إلى العروق.
كأطفال، ظنوا أنهم لو أغمضوا أعينهم، صموا آذانهم، سيختفي كأنه لم يكن، لم يمر، لم يلق حجرا أو سلاما أو سيفا.
فكرة في جوهرها تشبه أحلام الأباطرة والمثقفين الأباطرة والتافهين الأباطرة، تغوينا لأنها تبدو صحيحة، منقذة، سامية، قابلة للتنفيذ، لكنها دائما ما تنهار أمام أصالة الحياة في تدفقها الهادر الذي لا يعبأ بأحد ولا بعدوية نفسه.
في مجد سلطان الغنا الشريد، ملك الصعاليك، الذي تودد له الملوك، تكمن بذور هدمه، حفنة رماد عقب حريق هائل، لكن على عكس تفاهة الأباطرة، يتحول رماد ذلك الصوت الذي لم يتبع إلا فرح الفن وأساه إلى نار هادئة سارية على الدوام، لأن لا شيء في نهاية الطريق، لا شيء سوى الطريق.
الذي خان مجده وخانه الضوء، الذي احترق بغيرة السلطان الذي عشق بنته، صار رغما عن الجميع، حقيقة يتضاءل أمامها من أنكروه.
لم يقاتل، فقط واصل الغناء.
وعندما شُقت الحنجرة نصفين بحثا عن السر أو إبطالا للمعجزة، استمرت الأغنية.
**
حنجرته دابة وحشية، ظلام الليل طريق، رؤوسنا دائخة، كنجوم يلفها الضباب، رؤوسنا مثقلة مأسورة في ضوضاء النهار التي تجعلنا جميعا لا أحد، بينما دابته لا تكف عن صعود السماء بحثا عن ملائكة سكرانة، لا تكف عن التفتيش في شقوق الأرض عن شياطين يعذبها العجز عن الندم، ودعوتهم جميعا إلى حفلة أنس.
فوق دابته، نشق طريقنا، نضطرب، نفتت، نبعثر، نتناغم، لا يعود تفسير ألغاز الحياة مهما، لكننا في الآن عينه صرنا ندرك كل شيء في رفقة ذلك الذي تنزه عن روح الأباطرة، فحتى في غنائه لا يجعل من نفسه سلطانا، لا يسرق من مستمعيه حضورهم، بل ينعكس ضوءه عليهم كقمر، فعبر مفهوم السلطنة، ونشوة التجلي والذوبان يصير الكل في لحظة مطربين.
**
هذا الطرب لا يرغب في قول شيء، إنما هي هواجس القلب عارية من الزخرف، لأن تلك الحنجرة بأكملها هي الاستعارة والمجاز، عمياء أمام الضوء، نافذة البصيرة أمام العمى.
كمارادونا، يتحطم فور أن يتهم مهمته بنجاح، في مجده قصير المدى واسع التأثير، يذكرنا بينابيع السحر الذي لا يمكن إيجاده إلا بتخطي الخير والشر، عبر اندفاع لا يضع حدا بين الشجاعة والتهور، كيف ينال الفُحش ببراءة والبراءة بفُحش.
يذكرنا أن وحدها الحياة حق، وأن الموت عطب مؤقت للمخيلة.
**
في أغنيات أحمد عدوية لا هجر أو وصل بالحبيب، بل تيه وراء سرابه. هذا ما يرغب به، ألا يميز مكانه أبدا عبر هجر أو وصل، لو فعل لانقطعت بهجة الغناء وشجنه.
**
كانت الغيبوبة حلم طويل داخل جوف حوت. ما الذي رآه ذلك الذي خرج علينا بإكليل نبي مرتد، نبي فهم عبث أن تحيا بلا شهوانية، متماهيا مع ما يقول، صار مثالا، ثم ضحى بنفسه كقربان لنا وعظة كي لا نفعل، لكن في صلب قلبه، لو عاد به الزمن، لكرر كل الأخطاء بلا تردد.
أما نحن، مريدي سحره، لا نفقد الإيمان به. فقلب أحب الحياة مثله، لا نتبرأ منه أبدا. قلب اعتصم بحُب الجمال، لا نتبرأ منه أبدا.
اقرأ أيضا:
بورتريهات متخيلة (10): نسرين.. تلك تحيتي لفتاة أحلام