بعد هدم مقابرها.. هل تخرج «القاهرة» من قائمة التراث العالمي لليونسكو؟
تعيش منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة منذ أشهر عمليات هدم مستمرة طالت معظم مقابرها التاريخية.لكن مشهد هدم «قبة نام شاذ»، والدة الأمير محمد عبدالحليم باشا، ابن محمد علي باشا والي مصر، والتي يعود تاريخ إنشائها للقرن الـ19، أثار غضبًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي. لم تكن واقعة الهدم هذه الأولى، ولن تكون الأخيرة، فهي مجرد حلقة بسيطة من سلسة الفقد التي تتعرض لها جبانات القاهرة التاريخية خلال السنوات الأخيرة.
في المقابل، جرى تجاهل وتهميش آراء أغلب المتخصصين، الذين قدموا طلباتهم بشكل متكرر حول ضرورة وقف عمليات هدم جزء أصيل من تراث القاهرة المدرج على لائحة التراث العالمي لليونسكو. وعلى الجانب الآخر، اكتفت كل من وزارة الآثار والثقافة بالصمت تجاه ما يحدث. فكلاهما تعمدا في السنوات الأخيرة شطب وحذف العديد من المباني الأثرية والتراثية الواقعة في نطاق الجبانات. وبدلًا من الدفاع عن هذه المباني، قرر المسؤولون في الوزارتين الصمت بدعوى أن ما يحدث في المنطقة من أعمال هدم هدفه تنفيذ «مشروعات قومية!»
لا مكان للحجر
الدكتور محمد حمزة الحداد، عميد كلية الآثار الأسبق بجامعة القاهرة، قال إن هدم قبة نام شاذ قادين بمنطقة الإمام الشافعي دليل على أننا نعيش اليوم في عصر لا مكان فيه للحجر. فهذه القبة تحديدًا تعود جذورها لبدايات القرن الـ19، وهدمها مؤامرة على التراث المصري. وبحكم الدستور المصري هي جريمة مكتملة لا تسقط بالتقادم.
وأضاف عضو مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار الأسبق: “لم يعد هناك أي فائدة، الآن يمكن أن نقول إن منطقة القرافة باتت هي والعدم سواء، فقد دمرت بشكل كامل. وفي ظل غياب الآثار والتنسيق الحضاري، وتنصلهما من دورهما، فالحل هو تقديم استقالاتهم بشكل فوري، لأن القانون كان في صفهم لكنهم تقاعسوا عن القيام بمهامهم”.
حلقة مفرغة
ويكمل: “هذه الحكومة تضم متخصصين كنا ننتظر منهم الدفاع عن الجبانات، لكن ذلك لم يحدث. فوزير التعليم العالي، الدكتور أيمن عاشور، مهندس ومعماري، وكان رئيسًا للجنة الجبانات التي كلفها رئيس الجمهورية بالنظر في شأن المقابر ووضع مقترحات. لكن في نهاية الأمر لم يسمح لهم بإبداء أي رأي حقيقي، وبالتالي نحن ندور في دائرة مفرغة. وفي النهاية، لا يتم الأخذ برأي الأغلبية، أي شخص عاقل هيطالب بضرورة الإبقاء على الجبانات”.
أما بالنسبة لأساتذة الجامعات، خصوصًا المتخصصين في الآثار، فإنهم يلتزمون الصمت أيضًا، لأن كثيرا منهم يتعاونون مع الوزارة من خلال اللجان الأثرية. لذلك، لماذا ننتظر منهم الحديث أو الدفاع عن الجبانات، والمطالبة بتسجيلها؟ هؤلاء اكتفوا بتمرير جميع المشروعات الكارثية. أما الوزارة، فهي تستدعي أصلًا أساتذة غير متخصصين بدعوى أن تخصصهم هو الآثار الإسلامية.
وهذا المعنى فضفاض، لأن علم الآثار الإسلامية بحر لا يمكن أبدًا اختزاله. فهناك متخصصون في الفنون، والمسكوكات، والعمارة. لكن ما تقوم به الوزارة هو الاستعانة مثلًا بأستاذ في الفنون أو المسكوكات ليبدي رأيًا في العمارة، وهذا أمر لا يمكن أن يستوعبه عاقل.
وضع مؤسف
وعن مستقبل القاهرة قال: “لم يعد هناك قاهرة، القرافة سيتم هدمها بشكل كامل، وستبقى عبارة عن طرق وكباري وبعض الشجر. وسيتم الاحتفاظ فقط ببعض المقابر القليلة المنتقاة. «المقابر هتكون شبه البُقع في المنطقة»، كما سيتم هدم أغلب مقابر نُخبة مجتمع مصر في القرن الـ19 خلال الفترة المقبلة، ومنها قبة محمود باشا الفلكي وغيرها من المقابر الفريدة”.
أما عن الحلول فقال: “لم يعد هناك حل، الحل هو إقالة كل من وزير الثقافة، ووزير الآثار، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة، والآثار أيضًا، ومديري المناطق الأثرية، ورئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. للأسف، هذا وضع مؤسف لم يحدث من قبل، ولم نر أو نسمع أبدًا عن هدم مبنى تراثي بهذه البشاعة. فالقبة انتزعت وهدمت بشكل بربري، بشكل لم يفعله التتار أو المغول. كان من الممكن نقل وفك هذه القباب والمقابر والتراكيب، لكن للأسف نحن نعلم مصيرها، إذ سيتم سرقتها وتهريب أغلبها”.
وعن القبة قال إنها تعود للقرن الـ19، وهي تعود لمستولدة محمد على باشا، واسمها نام شاذ قادين، وهي والدة الأمير محمد عبدالحليم باشا ابن محمد علي، الذي أرسله محمد علي باشا رفقة أبناءه سنة 1844 إلى فرنسا بإشارة من سليمان باشا الفرنساوي. وقد ذهبوا جميعًا للمدرسة الحربية في فرنسا، وبعدها انتقلوا لمدرسة التطبيقات الحربية. وكان من ضمن خريجي هذه البعثة محمد صادق باشا، الذي أصبح فيما بعد لواء أركان حرب وتوفي سنة 1902، وهو أيضًا أول من استخدم الكاميرا في تصوير مكة والمدينة والحرمين الشريفين في العالم سنة 1861.
طراز مصري فريد
أما بالنسبة لأهمية القبة، قال حمزة إنها دليل على استمرار الطراز المصري الإسلامي في عمائر القاهرة الجنائزية خلال القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20. سواء في تخطيطها أو منطقة انتقالها من الداخل والخارج، أو في قطاع خوذتها وما تزدان به من نقوش زخرفية بديعة في الجزء الأسفل منها. فضلًا عن التراكيب الفنية والنقوش الكتابية التي تزخر بها القبة. مما يجعلها طرازًا فنيًا ومعماريًا متميزًا كان يجب الحفاظ عليه هو وأمثاله.
وفي النهاية تساءل الحداد: أين الهوية الوطنية؟ وأين وزير الثقافة الذي يقدم نفسه على أساس أنه فنان تخرج من كلية الفنون الجميلة!
انتهاك القوانين
من جانبه، تحدث مصدر مطلع بأعمال لجنة الجبانات التي شكلها رئيس الجمهورية، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، وقال: “إحنا بقالنا سنين بنكلم نفسنا. مصر الآن رشحت رئيسًا لليونسكو وهو خالد العناني. لكن السؤال كيف يحدث ذلك ونحن ننتهك أصلًا قوانين التراث العالمي؟ وكيف يمكن أن نعول على إمكانية فوز مرشح مصر وسط هذه الظروف المؤسفة؟”.
وأكمل: “أغلب هذه المقابر والأحواش تم تسجيلها خلال السنوات القليلة الماضية ضمن قائمة حصر المباني التراثية المتميزة التابعة لجهاز التنسيق الحضاري. وبسبب رفض رئيس اللجنة، الدكتور مدحت الشاذلي، أستاذ العمارة تكنولوجيا البناء بكلية الهندسة جامعة القاهرة، الإمضاء على قرار حذف هذه المقابر، قرروا إعفاءه من التوقيع، ومرروا القرار دون الرجوع إليه!”.
مدينة مهددة
وأضاف: “الدولة الآن ضد الدولة، فهذه المباني المهدمة تقع داخل نطاق منطقة تراث عالمي. وهي محمية بقوانين اليونسكو، وجميع حالات الهدم تخالف كل المواثيق والأعراف الدولية. فقد طلبت القاهرة في اجتماع اليونسكو العام الماضي في مدينة الرياض تقليص مساحة القاهرة التاريخية، لكن اليونسكو رفض الطلب. وطالب بضرورة إشراك المجتمع المحلي في أي قرار يخص القاهرة، لكن على أرض الواقع لم يحدث الأمر. ولم تتم أي مشاركة شعبية من الأساس. كما تقدم الكثير من أعضاء مجلس النواب بطلبات إحاطة، لكن لم يتم مناقشة أي منها بشكل جدي. لذلك، فالقاهرة الآن باتت مهددة من وضعها على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر!”.
واستطرد: “اللجنة خرجت باقتراحات لكل التفاصيل الخاصة بالمنطقة، ووضعت الحلول الممكنة للتعامل معها. وتمت الموافقة عليها بالفعل، لكن في النهاية تم التراجع عنها وتنفيذ المشروع القديم. كان مشروعنا يهدف إلى توفير بديل حقيقي عن الطريق المزمع تنفيذه الذي يهدف لاختراق الجبانات. وقد وضعت رؤية شاملة، لكن في نهاية الأمر تم تجاهل ما قمنا به”.
تحويلها مزارات
الباحث في التراث، الدكتور مصطفى الصادق، قال إنه لم يتخيل أبدًا أن يتم الهدم داخل هذه المنطقة التي لا مثيل لها. نظرًا لكونها تحمل نقوشًا وكتابات ورسومات لكبار الخطاطين والفنانين.
ويضيف: “كان من الممكن نقل القبة، أو الاستفادة منها وتحويلها لمزارات. لكن في نهاية الأمر تم إسكاتنا عندما تحدثنا عن ضرورة الحفاظ على المقابر التاريخية. حيث تم تشكيل لجنة لكن تبين في النهاية أن الغرض من اللجنة هو إسكات الناس. لأنهم في نهاية الأمر قرروا التضحية بتراث مصر، من أجل محور مروري لسنا بحاجة إليه أصلًا”.
يذكر أن موقع «باب مصر» كان قد حصل على صورًا وفديوهات قبل عملية هدم القبة بيوم تشير لعمليات نقل للتراكيب الرخامية الموجودة داخل القبة. حيث لم يتبين حتى الآن المكان الذي ذهبت إليه التراكيب الرخامية، سواء بسرقتها أو بنقلها بشكل رسمي لمكان آخر!
ماذا حدث داخل لجنة الجبانات؟
يذكر أن لجنة الجبانات التي شكلها الرئيس السيسي كانت قد أثبتت عدم جدوى هذه المشروعات المزمع تنفيذها بمنطقة القرافة. إذ أثبتت الدراسات أن مقترح المشروع سيوفر فقط دقيقتين لحركة مرور السيارات. لذلك رأت اللجنة ضرورة الحفاظ على موقع الجبانات مع عدم المساس بها بأي شكل من الأشكال، والتخلي عن المشروع بشكل كامل. كما اقترحت اللجنة تخصيص مسارات زيارة داخل الجبانات. مع مراعاة عدم المساس بأي من المقابر الموجودة داخل المنطقة. كما طرحت العديد من الحلول حول مشكلة المياه الأرضية «المجاري» الموجودة بالقرافة، والتي تهددها بشكل كامل منذ سنوات. إذ اتفقت على ضرورة معالجة مشكلة المياه الأرضية بشكل كامل.
ورأت اللجنة أيضًا أنه من الضروري الاكتفاء بما تم بالمنطقة خلال السنوات الماضية، والاكتفاء فقط بالجزء الذي جرى هدمه خلال السنوات الأخيرة واستخدامه كطريق. مع عدم المساس بأي جزء داخل المنطقة، والمحافظة عليها بشكل كامل كما هي. فوفقًا لدراسة الجدوى أيضًا، فإن المنطقة باتت قادرة على استيعاب حركة السيارات بشكل كامل. وبالتالي لا يوجد أي ضرورة لاستكمال المشروع الذي كان من المزمع تنفيذه. وكانت من ضمن الاقتراحات والبدائل تخفيف الضغط على شارع صلاح سالم، وتزويد الضغط على محور الحضارات، وطريق النصر، مع توفير مسارات خدمة داخل الجبانة الجنوبية، ناحية قبة رقية دودو، باعتباره مدخلا دينيا للقادمين إلى هذه المنطقة حتى الإمام الشافعي، والإمام الليث، وغيرها من مقابر هامة داخل المنطقة. وأشار أن اللجنة لم تناقش خلال اجتماعاتها وضع الجبانة الشرقية.
قرر أعضاء اللجنة في نهاية الأمر تقديم استقالتهم إلى رئيس مجلس الوزراء، احتجاجًا على الهدم وعدم الأخذ بالحلول التي تقدموا بها لحماية المقابر التراثية.