بالأسلاك وميكروفون الشارع.. هكذا تغلبت إذعة الفيوم المحلية على توابع النكسة
لم يكن يدور بخلد طالب الماجستير نبيل حنظل أن حلمه سيتحول إلى حقيقة، وأن ما يقوم بدراسته يمكنه أن يترجم على أرض الواقع، عندما انطلق أول صوت من إذاعة الفيوم المحلية “دون دعاية أو تجهيزات فنية وهندسية كبيرة” في 3 أبريل 1968.
“هنا صوت الفيوم”.. كانت هي الجملة الأولي التي تفتتح بها البرامج في إذاعة الفيوم المحلية، وسمع أهالي الفيوم ولأول مرة وعبر الميكروفونات التي علقت في الأماكن الرئيسية بالمدينة “هنا صوت الفيوم… إذاعة الفيوم المحلية”.
في هذا الوقت تحولت دهشة واستغراب الأهالي إلى فرحة وسعادة، ببداية تلك الإذاعة الخاصة بهم، والتي أصبحت فيما بعد صوتا لهم، بالإضافة إلى نافذة تطل عليهم منها الأخبار الهامة بالمحافظة.
البدايات
تأسس هذا المنبر الإذاعي على يد الدكتور نبيل حنظل الخبير السياحي والإعلامي، والطالب بالماجستير بكلية الإعلام جامعة القاهرة آنذاك، والذي فكر في أن يطبق ما يتعلمه داخل قاعات الدروس إلى واقع حي.
يقول حنظل إن مصر مرت في تلك الفترة من تاريخها بلحظة انكسار بعد هزيمة 67، فكان لابد من التغلب على هذه اللحظة، والعمل على إعادة البناء بشكل علمي مدروس، وبدون توجيه أو تعليمات من القيادة السياسية.
ويضيف: “حملت على عاتقي مهمة تعبئة الرأي العام في الفيوم، وخلق علاقة ما بين أصحاب القرار والأهالي، وقتها كان لدي ورقة بحثية قمت بإعدادها عن إنشاء إذاعة لاسلكية قدمتها إلى محافظ الفيوم وقتها الأستاذ محمد توفيق السيد، الذي رحب بالفكرة وتطبيقها، لكن لأنه لم يكن لدواع أمنية مصرح باستخدام أجهزة اللاسكي، أصبحنا أمام البديل وهو إذاعة ميكروفون الشارع”.
الإذاعة السلكية.. هنا صوت الفيوم
يكمل حنظل: “ما ساعدنا كثيرًا أن المحافظ في هذا الوقت كان لديه القناعات الكافية للوقوف بجانب الفكرة، ثم تم تأسيس الإذاعة السلكية والتي لا تزال موجودة من وقتها إلى الآن، وقد شارك معي فيها فريق عمل يتكون من الأستاذة زينب الحريشي بصفتها مدير مكتبة الفيوم”.
وتابع: “كان مقر الإذاعة في إحدى حجرات المكتبة، وأيضا كان لها دور كبير في تجهيز بعض المواد الإذاعية، إضافة إلى الكتب والمراجع والمجلات المختلفة، أما الأستاذ صلاح حلمي فقد كان بحكم موقعه في المحافظة، والذي على صلة مباشرة بمكتب المحافظ، كان بمثابة ممثل المحافظة في فريق الإذاعة، طبعا إضافة لعدد من الفنيين في الكهرباء والصوت وغيرهم بدأت (هنا صوت الفيوم.. إذاعة الفيوم المحلية)”.
ويضيف حنظل: “وضعنا بعدها تترات للبرامج، وكانت الفقرات تتضمن حديث الصباح للشيخ عبدالله جبيلي مدير عام الأوقاف وقتها، وكان هناك حديث ديني آخر للشيخ محمد السنراوي، بجانب ثلاثة توقيتات لنشرة إخبارية الأولى في الثامنة صباحًا والنشرة الثانية في الساعة الثانية ظهرًا بينما الأخيرة كانت في الثامنة مساءً، وهي النشرة التي كان ينتظرها المحافظ والأهالي على حد سواء”.
يتذكر الخبير الإعلامي أن الجميع في الشارع كان يضبط ساعته على توقيت النشرة الإخبارية، حيث كان الدأب على الالتزام والحرص على الظهور في أوقات ثابتة، لدرجة أن المحافظ في مرة عاتبنا على التأخير لمدة دقيقتين، هذا بالطبع بالإضافة لبث الأغاني التي تغنى بها المشاهير من المطربين والمطربات عن الفيوم وعن السواقي والعنب الفيومي وجو وأهل الفيوم.
مواهب فيومية
كان للإذاعة المحلية بالفيوم دور هام في إظهار المواهب، فقد بدأت المواهب تطرق باب الإذاعة لتعرض ما لديها من مواهب حتى يسمعها الجمهور، مثل قارئي القرآن، إذ يشير حنظل إلى أنهم بدلوا إذاعة القرآن بصوت المشايخ المشهورين بتلك المواهب الفيومية، وكان يتم نقل حفلات المدارس التي تزخر بأصوات غنائية ومواهب فنية.
ويضبف: “قدمنا أيضًا أغاني البدو، وبدأنا في تعريف الأهالي بتراث وشخصيات الفيوم الهامة، وقد قمت بعمل أجندة للمناسبات الهامة، بالإضافة لتقديم الترفيه فكنا نقدم تمثيليات إذاعية واستعنا فيها بموجهي المسرح والموسيقى في مديرية التربية والتعليم”.
ويواصل حديثه قائلا: “تم توزيع الميكروفونات الخاصة بالإذاعة في الميادين الرئيسية بالمحافظة، والتي كان أشهرها ميكروفون ميدان السواقي كونه ميدانا يتوسط مدينة الفيوم، واللافت أن الأهالي وقبل ذهابهم لأعمالهم يتجمعون حول تلك الميكروفونات لسماع النشرة الصباحية”.
الإذاعة على مكاتب المسؤولين وفي المنازل
مع النجاح الذي تحقق وما لمسناه من إطراء وتشجيع من قبل الأهالي والمسؤولين، تطور الأمر فقرر حنظل مع زملائه مد الوصلات السلكية والسماعات إلى مكاتب المسؤولين بالمحافظة، وكانت السماعة توضع على مكتب المسئول لاستقبال البث، وقد اعتبرها المحافظ منصة خاصة به لتوجيه المسؤولين، وإطلاع الأهالي على ما قامت به الأجهزة التنفيذية، ولكي نصل للأهالي داخل المنازل تم إخبار الأهالي أن من لديه رخصة لمنزله يمكن توصيل ومد أسلاك الإذاعة إلى منزله، حيث يمكنه عن طريق سماعة أن يستمع للإذاعة المحلية.
فسحة أهل الريف
ويروي الدكتور هادي حسان كبير مذيعين بإذاعة شمال الصعيد ومدير مكتب الفيوم السابق، ذكرياته مع إذاعة الفيوم المحلية ويقول، أنا من مركز سنورس وكانت الفسحة الوحيدة لأهالي الريف والقرى والمراكز هي النزول للمدينة حيث السينمات ومحال العصير والمأكولات وكان الجلوس بجوار السواقي من الأشياء المفضلة لتناول الطعام أو الراحة، إضافة إلى الاستماع إلى الإذاعة المحلية، فيتجمع الأهالي لسماع نشرة الأخبار أو الأغاني التي كانت تبث من خلال ميكروفون الإذاعة المعلق على أحد أعمدة الإنارة بالميدان، وبمفهوم علمي كانت الإذاعة المحلية في الفيوم تطبيقًا عمليًا وتنفيذًا حيًا، لما كان يدرس بالجامعة المصرية عن الفن الإذاعي والإعلام المحلي تحديدًا.
خدمات هامة
يكمل حسان: “بجانب الترفيه عن المواطنين أو تقديم مادة إخبارية وتوعوية تطلعهم على ما يدور داخل المحافظة من أخبار، كانت الإذاعة تقدم الجانب الخدمي وهو الدور المحوري لأي إذاعة محلية بالطبع، فعلى سبيل المثال كانت تتم إذاعة الناجحين في الشهادات العامة مثل الثانوية والدبلومات”.
ويضيف: “كان هذا حدث جلل حيث كان يتجمع كافة أهالي المحافظة من جميع القرى والمراكز، لسماع النتيجة والجميع في حالة ترقب، وتسمع من داخل أي ميدان أصوات بكاء أو زغاريد، كما قامت الإذاعة بحل بعض المشاكل مثل مشكلة إضراب سائقي السرفيس، فقد تحدث المحافظ من خلال ميكروفون الإذاعة ووجه رسالته للسائقين، الذين تجمعوا في أحد الميادين، واستجابوا لنداء وتوجيهات المحافظ ووعده لهم”.
تطوير الإذاعة المحلية
ويضيف حسان، أنه كان من الرعيل الأول لإذاعة شمال الصعيد في بداية الثمانينات، وكانت إذاعة الفيوم المحلية لا تزال تعمل بصورة منضبطة، مشيرا إلى أنه شارك فيها بعد أن طلب منه محافظ الفيوم آنذاك الدكتور عبد الرحيم شحاته في منتصف التسعينات، تطوير الإذاعة نظرًا لأن الأهالي يتابعونها.
ويوضح أن المشكلة الرئيسية حينها كانت هي تلف الأسلاك الخاصة بها وتقطيعها، فتم اعتماد مبلغ 20 ألف جنيه لتطوير شبكة الوصلات السلكية للإذاعة، لكن تم وضع الأسلاك مع كابلات التليفونات الأرضية بدل وجودها في الهواء، وتم أيضًا تطوير الأستوديو، وعمل برنامج يومي وقراءة نشرة الأخبار.
كنت طالبًا بالمرحلة الإعدادية
يقول عبد المنعم معوض مهندس زراعي، إنه يتذكر إذاعة الفيوم المحلية وبدايات انطلاقها، حيث كان وقتها طالبا في المرحلة الإعدادية، لكنه ما زال يتذكر صوت مقدمي نشرة الأخبار وصوت الدكتور نبيل حنظل المميز وهو يقدم نشرة الأخبار.
ويكمل معوض: “لقد كنت أصطحب والدتي إلى ميدان السواقي لمتابعة الإذاعة، اليوم ومع ثورة الاتصال باتت الإذاعات المحلية لدينا فقط شبه الموضة القديمة، التي سرعان ما تختفي بسبب ظهور الأحدث منها، لكن أعرف أن بعض رؤساء العالم لديهم حديث إذاعي ينتظره المواطنين بشغف، وهناك دول أجنبية عديدة الإذاعات المحلية بها شيء ضروري، وهو ما يشير إلى أهمية الإذاعة، ونأمل أن تعود الإذاعة المحلية مجددا كسابق عهدها وتطويرها”.
تعليق واحد