«الهلالية» سيرة كل إنسان
لا تجسد الهلالية سيرة بني هلال بل تجسد أزمة إنسانية عامة، وهي أزمة عنف الطبيعة، ومعاناة الناس من ضعف الموارد الطبيعية التي تكفل لهم الحياة، وتقلبات المناخ ومواجهة تحديات القحط والجدب والتصحر، وتعرضهم لمخاطر الموت جوعا والفناء الجماعي.
عنف الطبيعة الذي يهدد الخصوبة أو يسحقها معروف بامتداد التاريخ لو قمنا بحصر المجاعات التي عرفها الإنسان في شتى بلدان العالم لاحتجنا إلى مجلدات، وخطر هذا العنف ماثل حتى الآن، بل وبتنا نتحدث كثيرا عن تغيرات المناخ وتداعياتها، وعجز موارد الأرض عن استيعاب الزيادات السكانية. أي أن الهلالية تتناول موضوعا قديما وجديدا في نفس الوقت، وهو موضوع إنساني عام لا يصح ربطه بقبيلة معينة.
***
ماذا تفعل الجماعات الإنسانية عندما تهاجمها الطبيعة ويسقط أهلها صرعى الجوع. لا يوجد سوى طريق واحد الهرب من الأماكن التي ضربها القحط، والهجرة إلى الأماكن الخصبة وهذا ما فعله الهلاليون. لقد كانت رحلتهم من أجل الهرب من أنياب الجوع، ولم تكن غايتهم الانتصار على أحد من الناس، بل كانت من أجل مقاومة الجوع والانتصار على الفناء.
تقدم الهلالية نوعين من الهجرة عرفتهما الشعوب منذ القدم ونجدهما حتى يومنا هذا، وهما الهجرة المسالمة والهجرة الدامية التي تراق فيها الدماء وتنهمر خلالها المآسي، والهلالية في الأذهان ترتبط غالبا بالنوع الثاني، ولا أعرف لماذا يتم تجاهل النوع الأول.
ظهرت الهجرة السلمية عندما كان الهلاليون في بلاد “السرو وعبادة”. حيث عرفت البلاد عنف الطبيعة، وحلت المجاعة، فرحلوا إلى بلاد نجد، وهناك تم استقبالهم استقبالا رائعا بسبب العلاقات الطيبة التي تربطهم بأهالي نجد.
***
وظهرت الهجرة الدامية عندما ظهر عنف الطبيعة في بلاد نجد التي تمدحها السيرة وتقول أنها كانت “من أخصب بلاد العرب، كثيرة المياه الغدران والسهول والوديان. حتى كانت تذكرها شعراء الزمان بالأشعار الحسان، وتفضلها على كل البلدان نظرا لحسن هواها وكثرة خيرها. ومازال تعلى رونقها الأول حتى تغير قطرها وانقطع عنها الحشيش والنبات وعم البلاء من جميع الجهات. ولم يعد فيها شيء من المأكولات حتى صارت أهلها تأكل الحيوانات. ولما عظمت الأهوال واشتدت المجاعة على بني هلال اجتمعت منهم المشايخ والشبان. وقصدوا مضارب الأمير حسن وقالوا إن طال علينا الحال نموت من عدم وجود القوت فإن لمن تدارك الأمر في الحال انقرضت جميع بني هلال وفقدت المواشي والأموال. واجتمع كبار القوم واتفقوا على الرحيل إلى تونس الخضراء”.”1″
لم تسمح السلطة في البلاد التي قصدتها جموع الهلالية باستضافتهم في أراضيهم الخصبة. وكان الهلاليون بين خيارين أنياب القحط التي لا ترحم ولا يمكن مبارزتها، والخيار الآخر هو مواجهة السيوف التي يمكن التغلب عليها وقد اختاروا الحرب.
المتحكم في كون الهجرة سلمية أو دامية هم واضعوا اليد على الأراضي الخصبة لا الهلاليون، فالهجرة التي تسمح بها السلطات شرعية لا ينتج عنها العنف، والهجرات غير الشرعية هي التي تسيل فيها الدماء، ويظهر فيها الموت، وهذا يحدث الآن. الهلالية هم البشر جميعا، وهي سيرة الآن لا الماضي.
***
وعندما ندقق في حروب الهلالية من أجل الهرب من القحط إلى الخصب سوف نجدها تدور مع السلطات لا مع الشعوب. وكثيرا ما نجحوا أثناء الرحلة في إزاحة الملوك الأشرار وتسليم العرش إلى ملوك أخيار. وكان مجرد العبور في الممالك الممتدة من نجد إلى تونس، يستدعي دفع عشر أموالهم من جمال وخيول وغيرهما وأحيانا عشر نسائهم. الأمر الذي كان يتم رفضه، فتنشب الحرب. وهكذا لم يجدوا بدا من الحرب من أجل العبور بمواشيهم فقط مع استثناءات نادرة. عرفوا فيها الهجرة السلمية بسبب كرم الحاكم مثلما حدث مع عامر الخفاجي ملك العراق الذي استضافهم في أرضه الخصبة سنتين.
نجحت الهلالية شعبيا بسبب أزمة القحط والجوع التي يتصدى لها الهلاليون وصراعهم مع النخب الحاكمة في الممالك التي عبروها لا مع الشعوب. وبعض الشعوب قدموا لها خدمة كبيرة بتخليصها من حاكمها المستبد وتنصيب حاكم عادل. أي أن قضيتهم هي قضية كل إنسان في الشرق المنكوب والذي عانى على مدار القرون من القحط الناتج من عنف الطبيعة، والقحط الناتج من عنف الحكام المستبدين.
الهلالية أنشودة إنسانية لا تخص بني هلال بل تخص معظم البشر. لأن حياة كل إنسان مرهونة بالهرب من الجوع ومقاومة القحط بأشكاله المختلفة. لا أبالغ عندما أذهب إلى أن الهلالية تجسد رحلة كل إنسان فوق كوكب الأرض، وهي على المستوى الباطني أنشودة كل إنسان يسعى إلى تجاوز قحط الدنيا والهجرة إلى فردوس الآخرة عبر المجاهدة والانتصار في حروبه اليومية ضد الشيطان.
***
هذا في تقديري سبب ولع الناس بالهلالية حيث حلم الهجرة في المستوى الحياتي من ظروف الحياة القاسية إلى الفردوس الأرضي. وحلم الهجرة في المستوى الديني من الدنيا الغرورة إلى الفردوس السماوي.
المستوى الثاني يلح عليه الشاعر كثيرة ويخصص له مربعات كثيرة تبدو كما لو كانت زوائد سردية لكنها تشتبك مع السيرة بشكل عميق، يقول الشاعر مثلا:
دي دنيا غرورة وعقصة
كيف السمك في المداور
بتدي كل زول رقصة
ووقت السفر لم تشاور”2″
الدنيا هنا تجذبك ببهرجها وتبدو جميلة وهي حرباء قزمة قبيحة تتقافز مثل السمك في الشباك. ترقص رقصة لكل إنسان ثم تذهب فجأة دون استئذان ويبقى الموت الذي لا مفر منه.
هوامش
1ـ تغريبة بني هلال الكبرى، الشامية الأصلية، ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة وما جرى لهم من الحوادث والأهوال، ملتزم الطبع حسين عاصي صاحب مكتبة الأندلس ومطبعتها، بيروت، شارع سوريا، لبنان بدون تاريخ ص3، 4.
2ـ عبد الرحمن الأبنودي، السيرة الهلالية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2002، ص55.
اقرأ أيضا:
التزوير والتزوير المضاد: حكاية بناء بني هلال لجامع السلطان حسن