النقد التشكيلي الراهن
فيم يورطنا النقاد الصحفيون؟ لا أنكر أهمية كبيرة لهذا النوع من الكتابة النقدية التي يغلب عليها الطابع التنبيهي والاحتفالي، والتي لا تجد الفرصة لعمق يقتضيه النقد الفني، بسبب اعتبارات المساحة، واعتبارات الآنية والوصفية التي تؤثرها الصحافة، وعمومية أساليب الكتابة للجمهور العام. ولهذا السبب، ووعي بحدود النقد الصحفي، لا آنف حتى من تورط نقاد الصحافة في البلاغة الفارغة واعتماد قوالب واستعارات لا تصل بالقارئ لمعنى نقدي معتبر، وتوهمه بمعرفة لا تعكس أي أطر نقدية وجيهة ولا تقرأ من عين التطور النظري والبحثي في مجال النقد.
كذلك لا أرفض الاستغراق الوصفي الانطباعي والاكتفاء بأوهام “شاعرية النقد” لستر العجز عن التحليل والجدل من أرضية القيم الجمالية وباستخدام المناظير النقدية الأكثر تطورا. (يعي من استغرقته دراسة الفن أن الكثير من هذه الكتابات تتحايل على عجزها النقدي بحيل وألعاب البلاغة الفارغة، حتى صار جمهور الفن ومحبوه عرضة لضلالات “شاعرية النقد” المزعومة، وكم مهول من الشطحات البلاغية التي تحاصر الأعمال التشكيلية في الصحف والمجلات المصرية، وتحيطها بتهويمات تعكس غياب المَلكة النقدية).
ليس الإشكال عندي في هذه، إنما في أن يتصدر النقد الصحفي مجمل الوعي النقدي التشكيلي في بلادنا، وأن يصر نقاد الفن التشكيلي الصحفيين على أن عملهم هو ممارسة تقييمية تحكم على العمل الفني! وهو تعريف مضلل تماما، تنزوي فيه المهمة الأصيلة للناقد، أعني التفسير الجمالي، وبيان السياق الفكري الذي ينبع منه الإبداع، وربطه بالشرط الثقافي والاجتماعي العام. أعي كفنان، يتبع بكل الشغف من موقعه ما يكتب نقدا، سواء صحفي أو أكاديمي وبحثي، أن الجانب التقييمي هو ما يغوي النقاد أكثر.
***
وسر الغواية في أنه يوحي بسلطة ما لهم. ونقادنا الصحفيون من فرط التوهم لا يدارون هذا الذي ينعتونه بالسلطة النقدية. وهي مفردة تنطوي على تعطيل كما قلنا لوظيفة النقد ذاتها، فهي تضع عقبات أمام إعادة النقد لمهمة التأمل الجمالي، والتفسير الفكري والربط بتلك السياقات التي تخلق فيها العمل الإبداعي. وباتساع الأوهام حول سلطة النقاد هؤلاء، تضخم عدد من تغويهم سلطة النقد، حتى بات صنعة من لا صنعة له.
والزائفون، الذين يستعيرون قبعات النقد، هم الكثرة التي تتداعى على منابر الصحف والمجلات، وتحتل اللقاءات التلفزيونية، ويشيع رأيها على منصات التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا). وصخبهم يجعل الأمر يختلط على غيرهم ممن يتتبعون حركة الفنون، ويهمهم التعبير عن انفعالهم بها، وهو انفعال مشروع ومطلوب، وكتاباتهم التي لا تختلف في مضامينها عن كتابات من يزعمون أنهم نقاد، هي أصدق، إذ لا تزعم أي سلطة، وتعترف ابتداءً بأنها لا تتكئ على إسناد معرفي معتبر، وأن الذائقة الشخصية تحكمها.
من يستعيرون بلا وجل مسمى الناقد ويصدرون به كتاباتهم، ماضون في دعواهم الزائفة بحيث ينكرون دور من يشكل النقد اختصاصهم الأصيل، وجوهر عملهم. وللأسف وجدت عديد الفنانين وقد أدمنوا ابتلاع النقد الانطباعي ببلاغته الفارغة وشعريته المضللة، فيما ينظرون بتأفف للنقد المختص صاحب النظرة الأعمق والأدوات الأوثق. ويهللون حين يكتب عنهم بتلك اللغة البراقة الوردية نقاد الصحف، معتبرين في تلك النصوص غاية المنى.
***
ويلعب قانون طرد العملة الرديئة للعملة الجيدة من سوق الجدل حول الفن لعبته. حتى ضج أهل النقد، وبتنا نبحث عنهم ونهمس عودوا يرحمكم الله. كفانا من لغة الانطباعات الشخصية، ومن هدر المعايير الحكمية، ومن اجتهال أدوات ومناظير النقد، ومن الخفة والتسرع. أوحشتنا كتابات لا يشكل الانطباع إلا هامشا فيها، والتي تعكس تكوينا معرفيا ودربة وجدارات، ووعيا رصينا وعميقا. يكرر أساتذة النقد أن الاشتغال النقدي يبدأ من لحظة فروغك من الإعجاب والنفور (المضمون السائد في الكتابة الانطباعية التي تحدثنا عنها)، والانطباعات التي تشكلها هي وحسب عتبة تدلف منها بأدواتك النقدية، لترى وتسمع وتفهم وتفسر وتحلل وتستنتج وتحكم.
المعنى أن الانطباع لا يجب بأي حال أن يعيق التلقي من المستوى النقدي. والناقد الحذق يكتب من مستويين، هو كاتب عمومي، يخاطب الجمهور الأوسع، وكاتب مختص، يخاطب المهنيين والتقنيين والممارسين. لكن في الحالين يعتمد على الأطر والأدوات النقدية ذاتها، فيما تتغير وحسب طريقة العرض. ومداخل النقد وأدواته إنما تفرض على الناقد أن يمسك وصفا ظاهريا للعمل الإبداعي، على نحو يلم بالعناصر البصرية المدركة من الفرجة، ووصفا موضوعيا ورمزيا، يجمع الأفكار والإلهامات التي خلقت العمل. وأن يفسح حوارا فكريا جديا بين المتلقي والعمل ومبدعه.
ولا سبيل لتأثير نقدي بغير هذا الحوار المتبصر بقيم ومعايير واتجاهات وسياقات الإبداع. من القناعات التي تميز المتوهمين لسلطة نقدية عن النقاد المختصين إدراك الأخيرين أن النقد لا يخلق القيمة الفنية. الأمر ليس وليد تواضع أو شيء من هذا القبيل، بل هو وليد الحذر والفهم لحدود الدور ولمقتضيات إنجازه بنجاح. القيمة تكمن خارج النص النقدي، إذ محلها العمل الفني نفسه، وليست في الحكايات من حوله، مهما بلغت براعتها ولماحيتها.
***
والناقد يعي تماما أن روعة الكتابة عن عمل سيئ لن تعفيه من حقيقة السوء. ومميز آخر، هو أنفة الناقد من أن يؤدي دورا يخصم من جهده النقدي، أو يثير من حوله أمارات التناقض. وهذه الأنفة تدفع بالنقاد الجادين لعدم الهرولة لأعمال تقييم المعارض. فهم بحاجة للمسافة النقدية، والتي تنحسر بالانخراط في أعمال التنسيق والفرز ورسم الأطر الفنية. ليس المعنى في أنهم لا يملكون الخبرة والقدرة على القيام بدور القيم، بل هم قادرون عليه بغير شك، إنما اجتنابا لأي تناقض يحد من إنجاز مهمتهم الأصلية. وسيكون صعبا عليهم إذا ما أصدروا تقييما بحق عمل أن يعودوا من موقعهم كنقاد لتناوله نقديا بعد أن ينتصب في عرض عام.
وأنا ممن يميلون لأن يلتزم الناقد جانب الجمهور، فهو موكلهم ومن يختص عمله بهم. وفرع على هذا الرأي أن أهمس في الفاعلين من النقاد بأن عملهم ليس في أن ينشطوا في دوائر الإدارة والمشاركة في اللجان الإدارية والتقييمية، وبكل الصراحة كل عمل تنفيذي يخصم دوما من جدارة النقد.
أعود مجددا لقضية اللغة النقدية السائدة. وأقول إن في أوهام تلك اللغة ما يسبب نفور محبي الفنون أنفسهم وغالب الفنانين من مطالعة الكتابات النقدية. ليس الأمر وحسب في أن هذه الكتابات تعمد إلى استبدال الرمز. وهو محل مهم للنظر والتفسير، بالشفرات، التي تنتهي بتغييم الأعمال الفنية، لا إضاءتها. البعض يجد وجاهة في اعتماد الغموض النقدي. وكأنهم إن تحدثوا عن العمل بشيء من الوضوح والبساطة فقد هربت من بين أياديهم جدارة النقد.
***
من المضلل تماما أن تتعالى لغة النقد على الفهم، ولا تبين ماهية العمل في ظاهرة ولا مرموزه. من يعتقدون أن النقد آلة لإنتاج أكواد وشفرات ذهنية يقحمون على العمل الفني ما ليس من جنسه ولا من موضوعه. الغريب أن يستمر بعض الفنانين ومديرو قاعات العرض مثل هذه التهاويم، تحت شعار فليرى كلُ ما يراه. وهو قول حق يخفي باطلا؛ فصحيح أن العمل التشكيلي هو استعراض بصري، ومضمونه الدلالي يتناسب بحسب زاوية النظر. ولا مجال للقول بوجود معنى محدد للإبداع التشكيلي.
لقد تجاوزنا مثل هذه النظرة، ووعينا أنها من قبيل حصار الخيال. لكن لهذا التجاوز حده، وهو عدم نفي المعنى عن الفن، وترك أمره للعبة التشفير على هذا النحو المتفشي في صحافتنا النقدية. مثل هذا النفي للمعاني وإدمان الغموض لهو أسوأ من حصار الخيال. ومن الأمور شديدة السلبية إهانة التصنيف الجمالي والمعنى الحركي الاجتماعي للفن. وهذا نراه دوما لدى نقاد الخفة، ممن لا يتورعون عن اختراع اتجاهات لا تجد عليها الدليل ولا تظهرها الممارسة الفنية المتراكمة، ولا تتكاتف لتعزيزها بنية مفاهيمية معتبرة. الكاتب من هؤلاء يلاحقه شعور قهري بأن عليه أن يسكن العمل في موضع ما.
لا أعني تنسيب العمل لتقاليد تشكيلية أو مدرسة فكرية أو جماعة ما. إنما يسكنونه في كوات يتصورون أنها الأماكن الوحيدة المتاحة في مخازنهم الضيقة. وحين يجامل أحدهم فنانا، فيعفيه من زنقة التنسيب للأوهام تلك. ويكتفي بتشريده فيهتف: “ينتمي هذا العمل لنوعية الأعمال التي تأبى التصنيف”.
اقرأ أيضا:
قصيدة| صلاة نيرون.. عبده البرماوي