النتف البطيء لريش «بغبغانات النشيد»
شعرت بفتور حقيقي في المرة الأولى التي اصطدمت بها بـ«جميزة» مروان بابلو، مجرد فنان آخر مبالغ في تقديره، لا يمكنه أن يصبح في موضع مقارنة مع ويجز الذي كنت منحازاً له في الأسابيع الأولى من الوباء.
الفتور تحول إلى كراهية مع انتهاء الدقيقة الأولى من فيديو «فري». فطالما رغبت في أن أقدم صديقي وشريكي المهني في سن الـ21 من فوق سيارة مرسيدس. الكراهية تحولت إلى حسد والمرسيدس تخترق شارع محرم بك السكندري فيما يبدو إنها خلال الساعات الضائعة من فجر أيام مكررة. الحسد صار توحدا حقيقيا مع الشاب الذي يغطس بجسمه من نافذة سيارة في لقطة مقلوبة تظهر رأسه وهي تلامس السماء، مخبرا الجميع أن الجنون يمكن أن يكون أحد مفاتيح الحرية. وذلك في نفس اليوم الذي طالعت فيه صورة الممثل شريف منير وهو يقوم بتحية العلم من داخل جدران مطبخ منزله، في تأكيد روتيني من جانبه إزاء مشاعره الوطنية تجاه “حدث ما”، بلا شك كان مهددا لقيم أسرة مصرية ما آنذاك.
**
في الأغلب فإن التراك والفيديو المرفق به يمثلان رد على “نكش” متبادل بين بابلو وويجز. الصديقان القديمان من نفس المشهد السكندري للراب، ورفاق تراك آخر مشترك بينهما مثل ”دايرة على المصلحة“- وهي وحدها مفارقة تصلح مادة لموضوع شيق. إلا أن حالة التوحد التي يصنعها بابلو في أي من ”تراكاته“ هي اللعبة العكسية لويجز، فبدلاً من استمتاع الأخير بلعب شخصيات مختلفة من أوساط وحالات نفسية في بعض الحالات متناقضة طبقيا واجتماعيا.
حتى لو كانت في نفس المحيط السكندري، بين رومانسية “ساليني”، وبين غلظة “تجار حرام”. بابلو يقوم بالعكس، هو متمسك بوحدة أبطال تراكاته، هي كلها وجوه لنفس الشخص. قد يكون المنتقم في “الغابة” أو المتحدي في “أبو مكة“، أو الشاعر بالاختناق مثل “جيب فلوس“. كلها تبعات لحالة الملاحقة واللهاث الذي يعيشه بسبب “إن دماغه شغالة مش بتنام”، والتي تتكرر كومتيف على لسان شخصيته الرئيسية والوحيدة. وربما كانت السبب في اعتزاله المؤقت، والتي تطلبت منه بعض الوقت لتأمل الأجواء السامة التي أحاطت بنجاحه الطاغي مع نهاية 2019.
**
استغرق الموضوع من كتابة الأغاني باللغة العربية بكل أنماطها عقودا من المحاولات حتى يمكن أن تخرج أغنية مثل ”سندباد“ لتكون مانيفستو لما يعنيه الأمر أن تصبح 21 عاما في منطقتنا التعيسة، والأمر لا يتعلق فقط بالوعي السياسي أو بحجم المعاناة، أو بقسوة الظروف، وهي أمور طالما تشدقت الأغنية العربية التي تسمي نفسها ”الملتزمة“ بتبنيه، وهو تعبير جدير بوصفه بأنه مثير للغثيان.
لا يوجد أطفال معجزة في الراب أو التراب، وبابلو ليس لديه رغبة في أن يحصد انبهار أحد، هو يشعر بالرضا كونه مازال فوق رأسه سقف، وأنه غير مسجون، ليس لديه غضاضة في الاعتراف بأن بعض “المعليات”، والفلوس المتناثرة والدروس الخصوصية الرتيبة مازالت تضعه على قدميه خلال عام عصيب. ليس لديه مشاكل من مزج عاميته مع الكلمات الإنجليزية في “تضفيره” لا تنقصها السلاسة، يحاول البعد عن الكليشيهات ولكن لا مفر من استخدامها إذا كان بها قدر من الصدق (في الوقت الذي مازال الوسط الثقافي حائر بشأن ترجمة أعمال أدبية كلاسيكية إلى اللغة العامية).
**
يبدو مستلقيا على كل الخلفيات الممكنة، الحشائش، أرضيات غرف مجهولة، الشواطئ، مصدات الأمواج، بنظرات مسترخية متحدثا في خليط من المكاشفات وأحلام اليقظة والأوهام والهشاشة عن كل ما يعنيه سن الـ21 في مكان مثل مصر، وتحديدا في مدينة مثل الإسكندرية (بابلو يعترف بأنه يمقت فكرة أن تكون القاهرة مدينته). 21 عام بكل الخفة، والإحباط والعجرفة التي تجعله يثق في أن شارع سوف يتم تسميته باسمه بعد أن يموت، مؤكدا أن هذا ليس وهما بل هو الطموح)، عجرفة تبدو منطقية متوافقة تماما عما ذكره الصديق اللدود ويجز في تراك ”21“ ”أن الأحلام مجانا وهو قرر أن يصبح أميراً).
في “فري” العلاقة مع المدينة تبدو أكثر وضوحا، بقلم حبر فوق القلم الرصاص الذي رسم به تراك “سندباد”. فمع إلقاء مولوتوف للإيقاع الرئيسي للتراك نرى مدينة مقبضة، عامرة بالأنقاض والأشباح حتى لو كانت مكتظة بالناس، الشيء الوحيد الذي تستحقه هي أن تمنح بعض مجانينها حق اختراقها، وربما تغييرها. حتى لو كان حقا خرافيا. يخرج من أحد أنفاقها ليجد نفسه محاطا بسطحها ومبانيها المتربة المرهقة الباهتة، لكنه مفعم بالأمل الذي قد يتيح له فرصة ملء حسابه البنكي بالأصفار. بناء قصور من الرمال وسط في سياق من الركام هو أقل ما يمكن صنعه، أن تكون مجنونا للحفاظ على صحتك العقلية.
**
نصف أهمية ما يحدث في مشهد الراب والتراب المصري يتعلق بالتوقيت، في سياق يشعر بالاستنفار والخطر من السخرية من مذيعين إذاعة، أو إقامة جلسات تحقيق على الهواء لمخرج مسرحي، أو الخوف من شخصية تلفزيونية فكاهية على هيئة دمية، ولا بأس إطلاقا من المشاركة الجماعية الحالية في “مورستان” فيلم “أصحاب ولا أعز“. بلا شك التفكير في خيار ممارسة الحرية يجعل منك مسخا في ظل ذلك السياق كما ذكر بابلو وهو يطير من نافذة السيارة خلال الدقيقة الأولى للفيديو. الانضمام لفريق “الفري” في أوساط لا نقبل العفوية بأي أشكالها ربما تكون مخاطرة، ولكن المؤكد انها شكل من أشكال الجنون. وأطراف الصراع كما يحددها الشاب السكندري بأنه هو + مولوتوف > “بغبغانات النشيد” على حد قوله، أو ”الضباع بشعر المقاطيع“ حسب تعريف ويجز في ”دورك جاي“.
رغم كل كلمات العجرفة العشرينية التي تعج بها الأغنية، إلا أن النتيجة قد تكون الهزيمة نفسها. مروان نفسه يبلغنا بأنه ”سيضحي بوقته كله من أجل التراب، فهو لا يملك سوى اللاب والمايك“. إنه نفس الوضع الذي يتقاسمه أفراد الوسط كله، في النهاية تلك الذبذبات تخرج غالبا من غرف نومهم، ربما يكون هذا هو الإنجاز الوحيد كما أشار الرابر الفلسطيني شب جديد في “في حرب” بأنه لم يبن بيته ولكنه بني بلاتنم“، وهي شركة الإنتاج المحلية التي أسسها برفقة اثنين من رفاقه.
**
قرب نهاية التراك، تأكد لي أنه في الوقت الذي قررت فيه وضع حقبة زمنية كاملة من حياتي خلف ظهري بأن كنت أمتلك مجتمعا كاملا من أصدقاء العمر الذين لم ألتقى بهم في حياتي، بأني كنت جالس في المقاعد الخلفية لتلك السيارة المرسيدس حتما خلال وقت ما، دون أن أتذكر متى. وهذا الارتباط ليس لأنه مجتمع جميل أنيق مهذب. بل لأنه علامات لكماته مازالت موجودة بتفاصيلها على الجسد، وأن الجميع في حقيقة الأمر بحاجة إلى أنواع مختلفة من الكيتوفان، بل الاعتراف بهذا أمر مطلوب في ظل تلك “التروما الجماعية”، وأن تلك المشاعر التي ساورتني خلال الثواني الأولى من تعرفي على بابلو هي طبيعية، أو كما قال الكورس الخلفي بأنني ”كرهته في البداية لأنه كان مرايتي“.
* التراب ف أغنية فرى (خفف الألآم يا ياض\ إديها كيتوفان ياض\ مسحول جوا تراب ياض)مقصود بها هنا المعنى المزدوج بين نمط التراب أو البين المعنى الإنجليزي لكلمة فخ أو المصيدة.