القاهرتان (13): المدينة «الفاترينة»
كان لسقوط مصر فريسة للاحتلال البريطاني أكبر الأثر في تكريس مفهوم “القاهرتان”. إذ أن الظروف التي نشأت فيها القاهرة الحديثة كانت مواكبة لانهيار مصر الاقتصادي. وما تلا ذلك من عزل إسماعيل وقيام ثورة عرابي. ثم احتلال الدولة عسكريًا لأول مرة بعد حملة بونابرت.
عززت هذه الظروف الشعور الوطني بانتماء المدينة الجديدة إلى نخبة سياسية منفصلة عن الشعب ومتواطئة مع سلطات الاحتلال. لدرجة أن البعض قد اعتبروا قاهرة إسماعيل في ظل الاحتلال”، مدينة إنجليزية خالصة تم بناءها بمعزل عن مدينة السكان الأصليين على غرار المدن الاستعمارية في الهند“. كما تؤكد المؤرخة مرسيدس فوليه، وهو بالمناسبة نفس الرأي الذي تطرحه الانجليزية مارا نامان. مؤكدة على أن مع مرور السنين أفقد الاحتلال المدينة الحديثة طابعها الكوزوموبوليتاني خلال الثلاثينيات لصالح الهيمنة الإنجليزية التي سطت على المدينة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.
**
هذه الصورة للمدينة الكولونيالية عبرت عنها رضوى عاشور على لسان الناظر راوي «قطعة من أوروبا»:
“إن القاهرة كباقي الدول الكولونيالية تحولت إلى قسمين، أحدهما معرض أوروبي حديث منظم نظيف يأسر العين، وثانيهما قديم متهالك عاجز عن النهوض من سباته أو موته ولكل من القسمين وظائفه وفوائده”.
قد يلحظ القارئ من بين السطور أن الصلة التي أقامها الناظر بين القسم الاستعماري للمدينة أي المدينة الحديثة وبين المدينة التقليدية، تؤكد تأثير الاحتلال البريطاني على تنمية القاهرة.
ذلك أن القسم الكولونيالي ليس إلا «معرض أوروبي». أي مجرد «فاترينة»، وهو ما يحمل معنى أن الخصائص المذكورة، الحداثة والنظافة والنظام. ليست حقيقية ولكنها صور خارجية فقط. علاوة على ذلك.لم يحدد لنا الناظر نوع أو طبيعة الاستخدامات والفوائد لهذا القسم الاستعماري للمدينة. وكذا للقسم القديم وهو ما يعيدنا إلى تصنيف هنري بيرون للقاهرتين “قاهرة الفنانين وقاهرة الحداثيين”، والذي تناولناه تفصيلًا في الحلقة السابقة.
**
في هذا الصدد، يضيف راوي عاشور عبارة ساخرة مستوحاة من كتابي استعمار مصر لتيموثي ميتشل والاستشراق لإدوارد سعيد: “قلت: مفارقة غريبة، نُقلت الحارة إلى فرنسا للفُرجة، أما المعرض، الواجهة المضيئة التي تغيِّب الحارة فانتقلت إلى مصر”.
هنا يؤكد الراوي مفارقة وتناقضًا بين المدينتين. فهو يشير إلى تمثيل القاهرة القديمة في المعرض العالمي بباريس عام 1889. أي الجناح المصري المسمى بشارع القاهرة Rue du Caire – تناولناه في الحلقة الثانية – يعني أن المدينة القديمة تم تمثيلها في نموذج باريس الملهم لإسماعيل. لكن من ناحية أخرى، تم نسخ واجهات باريس نفسها في مدينة إسماعيل الجديدة.
لكن الانفصال المرئي بين المدينتين كان عنوانا لانفصال مجتمعي وثقافي، كما تؤكد عالمة الاجتماع جانيت أبو لغد: “وهكذا بحلول نهاية القرن التاسع عشر. كانت القاهرة تتكون من مجتمعين ماديين متميزين، أحدهما منفصل عن الآخر بفوارق أوسع بكثير من الحد الجغرافي الهين الذي يفصلهما “(المقصود غالبا بالحد الجغرافي هو شارع الخليج – بورسعيد حاليًا).
يتفق ذلك مع كلام أرتميس كوبر، في أن التواصل بين “بين العالمين كان مشروطا ومستندًا إلى التمييز الاجتماعي الأصيل”.
حصرت كوبر التواصل بين القاهرتين في المعاملات التجارية معلقة بأنه “لا البريطانيون ولا الفرنسيون ولا النخب المصرية الناطقة بالإنجليزية، كان لها أي صلة اجتماعية بالقاهرة التقليدية التي لغتها عربية “.
الأزبكية وتطور المدينة الحديثة
ربما تجدر الإشارة إلى ارتباط تطور المدينة الحديثة ببعض المناطق المتصلة بالمدينة القديمة، ونعني منطقة الأزبكية الواقعة شمال حي الإسماعيلية.
فخلال القرن التاسع عشر، كانت منطقة الأزبكية هي البؤرة الرئيسية التي ربطت القاهرة القديمة بالمناطق المحيطة بها كما كانت وجهة “السكة الجديدة” أول الشوارع التي شكلت القطع الأول في النسيج الحضري للقاهرة القديمة. لكن منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد تشييد المدينة الحديثة، أصبحت الأزبكية مركزًا اقتصاديًا إلى ترفيهيًا متميزًا للأجانب وللسائحين. حتى أصبحت على رأي أرنو “بؤرة مستدامة للحياة الاجتماعية”. معللًا بأنه كانت توجد في الأزبكية جميع الخدمات التي يحتاجها السياح من فنادق ومكاتب بريد ومكاتب صرافة، إلى جانب أماكن اللهو والمسارح علاوة على توافر وسائل المواصلات الحديثة.
في الأزبكية أيضا كان يقع فندق شبرد Shepheard الشهير الذي اعتبره القاهريون رمزًا للمدينة الكوزموبولتانية، كما كان رمزًا للاحتلال البريطاني. (فلم يكن بالتالي غريبًا أن يكون شبرد أحد أول ضحايا حريق القاهرة الكبير 1952).
بالقرب من الأزبكية، في ساحة العتبة. تم نصب تمثال إبراهيم باشا، ابن محمد علي ووالد إسماعيل لأول مرة قبل أن يتم إنزاله أثناء الثورة العرابية. كما توجد مباني المحاكم المختلطة التي حلت في أحد القصور القديمة، وبورصة الأوراق المالية وكذا بنك كريدي ليونيه.
ساعد تطور الأزبكية وظيفيًا على نمو المدينة الحديثة بلفت الانتباه إلى هذه الأخيرة. يعرض جاك بيرك في كتاب «مصر: الثورة والامبريالية» مشهد شديد الحيوية للأنشطة التي تجري في يجري في الأزبكية، والذي يعتبر ممثلاً وشاهدًا على تطور النمط العمراني الجديد:
“عندما أنهت القاهرة قيلولتها، كسرت صحوة هائلة صمت المدينة: ارتفعت الأغاني ودقت حوافر (الخيول) على الأرض. زاد ضجيج الحشود التي طالت البساتين. نسمع موسيقى عسكرية، ونسمع أيضًا الأوبرا الإيطالية، حيث تم تقديم عرض لعايدة لأول مرة في عام 1869.
في هذا الحشد الذي يضم القادمين من الشرق ومن الغرب. يوجد هناك بائعون جائلون، متسكعون، سحرة وعرافون، ومهرجون، وحواة من حملة ثعابين. يختلط المتفرجون القادم أكثرهم من الأحياء القديمة مع العديد من الشرقيين والغربيين.
**
يتنقل السياح بين كل هذه المناظر: سيدات الطبقة الأرستقراطية، اللواتي تحملهن الحمير أو البغال. يتجولن هؤلاء ويراقبهن أتباعهن أو خصيانهم. في الحقيقة، يكاد المرء لا يمل من صخب الأزبكية.
عندما يقام حفل قرب نهاية اليوم. تمتلئ البساتين بمشاهد شديدة الزحام. ولهذا السبب قد تُغلق الحديقة لفترة من الوقت. لا يهم ذك طالما أن المكان يظل نقطة محورية لحاضر ومستقبل المدينة”.
قد يمكننا هنا أن نلحظ الأنشطة «السياحية» المختلفة التي يقوم بها الأجانب والمسافرون في المدينة “الفاترينة”. بينما يراقب هؤلاء بشغف وفضول سكان المدينة الأصليين. لاسيما القادمون من القاهرة القديمة. كأن الأزبكية مسرح كبير يلعب فيه الغرباء دور البطولة بينما يتفرج عليهم سكان المدينة الأصليين. ولا يمنع أن ينتهز بعض هؤلاء الفرصة لعرض بضاعتهم أو لإظهار مهاراتهم غير العادية (كالقيام بالحيل السحرية، وقراءة الطالع إلخ).
لكن يظلوا رغم كل شيء حبيسين طبقة اجتماعية أدنى من تلك التي ينتمي إليها الأجانب، إذ لا يحق لهم سوى المشاهدة أو الاستفادة قدر الممكن… أو كيفما اتفق.