القاهرة.. مدينة صنعتها الأحلام

في دروب القاهرة السحرية قادت الأحلام مصائر البشر، تتحكم فيهم وهي تحفر لوضع بذرة الأمل، ترويها بعرق الأيام حتى تنمو وتطرح عمل. فكانت هي المفاتيح الخفية التي تستخدمها لتلج المدينة من أبوابها الشامخة. هنا حلم الدرويش بلقاء الرب، ورأى عاشق السلطة غوايتها تتجلى في صورة حسناء فاتنة، بين الحارات والشوارع الضيقة المتعرجة ستجدك الأحلام، تطاردك، تجبرك على صناعة قصة أنت بطلها والمدينة مسرحها. هكذا القاهرة تظهر في عالم اللاوعي قاهرة، حاضرة ساحقة، تغويك وتجرك إلى عالمها. فهي مدينة بنيت بالأحلام ومنها خرجت إلى عالم الواقع في أبهى صورة وأحسن رداء. في ذكرى بناء القاهرة التي تحل في شهر يوليو من كل عام. نتذكر بعض الأحلام العابرة التي تصادف أن مرت من هنا فتجسد تعلى الأرض لتخلق واقع أغرب من الخيال.

الحلم هو ما قاد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله لغزو مصر. جلس قبل أكثر من ألف عام على عرش دولته في إفريقية (تونس). وأخبر كبار رجال دولته أن فتاه جوهر سيذهب ليفتح مصر، تململ البعض. فحلم ضم مصر لدولة الفاطميين فشل في تحقيقه آباؤه، لكنه تكلم بثقة الحالم. صدق الحلم الذي هتف في السحر في أذنه بأن جيوشه تغزو مصر. قال لهم بلهجة حازمة: “والله لو خرج هذا وحده بسوطه لفتح مصر. وليدخُلنَّ مصر بالأردية من غير حرب، ولينزلنّ في خرابات ابن طولون، ويبني مدينة تسمَّى القاهرة تقهر الدنيا”. هكذا عاش المعز الحلم وزرعه في رجال دولته، فخضعت مصر.

***

الحلم غير مصير حفيد المعز، فالحاكم بأمر الله يوم مقتله نام على فراش الخلافة. بعدما أقنعته أمه بعدم الخروج على عادته للتعبد والخلوة في جبل المقطم. لكنه استيقظ منتبها، لا أحد يعلم ما رآه في منامه. لكنها كوابيس طاردته حتى جثمت على صدره فأجبرته على مغادرة فراشه ومواجهة قدره. خرج ولم يعد. قالت الروايات التاريخية المبنية على النميمة في جنبات المدينة، أن مؤامرة اشترك فيها قادة الجيش مع دعاة الإسماعيلية تحت قيادة أخته ست الملك. مات الحكم بعدما طارده حلمه. لكن حلم عودته لا يزال محلقا في سماء الدروز الذين ينتظرون عودته بعد ألف عام!

حلم آخر سيقودك إلى الحشاشين، فابن مصال أحد قادة الفاطميين، تخلى عن مناصرة نزار بن الخليفة المستنصر، بسبب حلم رأى فيه نفسه راكبا، والوزير الأفضل شاهنشاه ماشيا. فتم تفسير الحلم بأن الماشي أملك للأرض من الراكب، وأن في تفسير الحلم انتصار الأفضل. ففر ابن مصال إلى برقة، وترك نزار الذي أسره الأفضل من الإسكندرية وحمله معه إلى القاهرة. حيث دخل قصر الخلافة الفاطمية ولم يخرج، تم بناء جدار عليه وهو حي، لتنقضي لحظات حياته الأخيرة في ظلام وسط أحلام مرعبة. لم تعجب هذه النهاية الداعي حسن الصباح، الذي انشق وأسس حركة النزارية المعروفة شعبيا باسم “الحشاشين“.

***

ولأن الفاطميين بدأوا وجودهم في مصر بحلم المعز، كانت نهاية دولتهم بحلم العاضد آخر خلفائهم. الذي رأى في آخر أيام دولته وكأنه بمدينة الفسطاط. وقد خرجت عقرب إليه من مسجد معروف بها فلدغته، استيقظ والفزع يملكه، وطلب معبري الرؤيا وقص عليها لمنام. فقال ينالك مكروه من شخص وهو مقيم في هذا المسجد. فطلب والي مصر الفسطاط وأمره بالبحث عن من يقيم في المسجد المذكور. فجاء برجل صوفي، استجوبه الخليفة العاضد فلم يجد منه إلا العجز والضعف. فأمر بإطلاقه، لكن للأحلام في القاهرة قوة اليقين. فعندما استولى صلاح الدين الأيوبي على ملك مصر، وعزم على القبض على العاضد واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك. وكان في مقدمتهم هذا الصوفي، فصحت رؤيا العاضد، وغربت شمس الخلافة الفاطمية.

حلم يوسف النبي بحكم مصر، بات تيمة في مخيلة الكثير من حكامها، فالأخبار تروى عن كافور الخادم، الذي زرع فيه أحد المنجمين الحلم بحكم البلاد والعباد. كان وقتها من الخدم العبيد، لكن الحلم قاده لقدره الذي آمن بتحققه في المستقبل. فأصبح الأستاذ أبو المسك حاكم ديار مصر، بعدما حجر على أولاد أستاذه الإخشيد ابن طغج. في المنام وبعد أن أصبح كافور حاكما لمصر رأى في المنام المنجم الذي اتفق على مكافأته حال تحقق بشرى توليه الحكم، يُذكره بوعده القديم غير المنجز. كان المنجم قد مات وترك خلفه ابنتين، بحث عنهما كافور وتولى رعايتهما وفاء للحلم.

***

رأى قطز في منامه أنه يحكم مصر، فبشر صاحبه وهم في رتبة جنود صغار. فرد صاحبه بالصفع له، وقال له ساخرا: “والك أنت مجنون! أنت بقملك تملك الديار المصرية؟”. لكن الأحلام تفعل فعلها في القاهرة، فالصبي المصفوع تمضي به الحياة بين صفو وكدر. حتى يصل إلى دائرة صنع القرار، فيدخل في لعبة السلطة المهلكة، فيقتل أقطاي ويخدم أيبك. ثم يزيح ابن سيده ويتولى السلطنة، ويدخل التاريخ من باب الحلم عندما يقود جيش المماليك ليهزم المغول في عين جالوت. ويصبح أول سلاطين الترك الذي يحكم الشام بجوار مصر.

المماليك أنفسهم تم بناء فكرتهم على أساس الحلم؛ مجموعة من عبيد الشراء يتم إعدادهم لتولي أمور الحرب والحكم. فأي حلم هذا يلعب بالعقول؟ لذا لم يكن غريبا أن يكون الحلم عملة رائجة بين أمراء المماليك. ففي مناخ الغدر والتآمر والقتل والمؤامرات يصبح للحلم قوة الحقيقة القاهرة. قد يبدل الولاء ويغير النفوس ويعكر صفو الصداقات. هذا حلم قراسنقر يرى فيه صديقه لاجين وقد تولى السلطنة. يسارع لإبلاغه وكانا في حكم المطاردين وفي فعل المختبئين. لكن البشرى كانت ناقصة وفيها ما ينذر بالشر. ففي الحلم يجلس لاجين على عرش السلطنة. ثم يقرب قراسنقر ثم بعد قليل يدفعه ويلقي به بعيدا.

***

طلب قراسنقر من لاجين أن يحفظ له بشرى حلمه. وهكذا كان فقد تولى لاجين السلطنة. ثم قرب قراسنقر لكنه أبعده ثم في السجن أجلسه، وقراسنقر يرسل المراسيل لعل السلطان يتذكر الحلم. لكن الملك عقيم، ولاجين لم يفرج عن صديقه، الذي لم يعانق الحرية إلا بعد مقتل لاجين. ولأن لاجين لم يحفظ ذكرى الحلم، فقد طارده حلمه، رأى في المنام رجل يطعنه برمح فصار كوم رماد. فاستدعى والفزع يتملكه، والخوف على عرشه يحركه، معبر رؤياه علاء الدين ابن الأنصاري، الذي علم أنه مقتول فأخبره بحقيقة الأمر ومصيره، وهكذا مات لاجين فعلا.

الأحلام لم ترسم مسار الأحداث في القاهرة فقط. بل شكلت عمرانها أيضا، فأحد أشهر أحياء القاهرة القديمة وأكبرها مساحة ظهر على الوجود من بوابة الأحلام الواسعة. إذ رأى علي الخواص وهو شيخ صوفي عاش في بدايات الحكم العثماني لمصر، السيدة زينب في المنام. تخبره بأنها مدفونة في المكان الذي حدده. فبدأ العناية بالقبر البسيط الذي تحول بفعل محبة المصريين إلى نقطة جذب روحي. حولت الأرض الفضاء حولها مع الوقت إلى أكبر أحياء القاهرة وأكثرها كثافة سكانية. فالمحبون تجمعوا حول مشهد السيدة ورغبوا في السكنى حوله.

***

هكذا تحول حلم علي الخواص في العام 935هـ/ 1528م، إلى لحظة ميلاد تلك البقعة السحرية التي رسمت من خلالها السيدة زينب الحياة الروحية لأهالي القاهرة ومصر كلها على مدار خمسة قرون. فقد توالت الإنشاءات والتوسعات على هذا الضريح من قبل السلطات المتعاقبة، بينما أولع المصريون به. وعرف باسم مشهد (ستي زينب) كما جاء في وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية، ولا يذكر المصريون المقام الآن إلا ويقولون عنه مسجد السيدة زينب.

هكذا كان الحلم يطوف في أرجاء القاهرة دوما، يشارك في صناعة أحداثها وتغير مسار أحداثها. يسحر البشر فيجذبهم إلى عوالم مجهولة. يرسم عمران المدينة كمهندس عبقري. يقود الجيوش ويضخ فيها الحماسة. لذا لا غرابة أن ترى الأحلام في كل مكان في المدينة. فخلف كل حجر وزاوية تقع قصة حلم خرج للنور أو ضاع في متاهة المدينة الكبيرة، مدينة الأحلام.

اقرأ أيضا:

قاهرة رؤوف عباس حامد: التأريخ للمدينة من الهامش

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر