القاهرة في عيون إدوارد سعيد: مدينة الذكريات والغربة والتحولات
“كانت القاهرة آنئذ من أروع الأماكن التي يمكن للمرء أن يترعرع فيها، بشوارعها الأوروبية المشجرة الفسيحة، وضواحيها المشذبة… والتي تسكنها تشكيلة غنية من الأنماط البشرية التي تدفقت إلى مصر من المنطقة المجاورة”. هكذا كتب المنظر العالمي إدوارد سعيد (توفى 2003)، عن العاصمة المصرية، التي عاش فيها طفولته وسنوات الشباب الأولى. لكن كيف رأى أحد مؤسسي تيار دراسات ما بعد الكولونيالية (ما بعد الاستعمار)، القاهرة التي عاش فيها في زمن استعماري؟ وأي انطباعات سجلها عن مدينة العرب الكبرى في القرن العشرين؟
أهمية ما كتبه سعيد (ولد في نوفمبر 1935م) عن القاهرة يأتي من توقيت إقامته فيها. فهو رأى المدينة في ختام عصر ومنعطف تاريخي يتشكل في أفقها، عاش السنوات الأخيرة لحكم الأسرة العلوية والحكم الملكي والفترة الليبرالية والاحتلال البريطاني. شاهد عوالم لم يكن يعرف أنها على وشك الانزواء والاختفاء مع ميلاد الجمهورية المصرية وحكم الضباط الأحرار حيث ستدخل القاهرة فترة مختلفة من تاريخها. تختفي فيها أشياء كانت تبدو مستقرة بحكم الألفة، وتظهر أخرى جديدة على خلفية علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية جاءت مع حكم ناصر. ليعبر سعيد عن هذه التحولات عندما زار القاهرة في ذروة الحكم الساداتي، بدا ممتعضا بعض الشيء لغياب مدينة ذكرياته، حتى ولو كانت بطابع استعماري!
***
تناول صاحب “الاستشراق” علاقته بالقاهرة وذكرياته فيها في أكثر من نص، يظل أشهرها وأهمها مذكراته أو ذكرياته التي دونها في كتاب “خارج المكان”. كذلك في كتابه “تأملات في المنفى” الذي جمع فيه عدة مقالات تناول في البعض منها القاهرة وعلاقته بمصر عموما، تاركًا في كل هذه النصوص بعض اللمحات الذكية تخص القاهرة في زمن التحولات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعمراني. وهي إشارات من شاهد عيان بحجم ووزن إدوارد سعيد، تزود المهتم بمنظور مختلف ومهم يستكمل من خلاله رؤية أوسع للقاهرة وتاريخها وتطورها في العصر الملكي.
عاشت أسرة سعيد في حي الزمالك منذ العام 1937، أي في وقت كان الحي يخضع لهيمنة أوروبية وتحديدا بريطانية. وبعد عام واحد من وفاة الملك فؤاد وتولي الملك الشاب فاروق حكم البلاد، بينما كان إدوارد سعيد في الثانية من عمره، لذا رصد لنا الطبيعة الطبقية لهذا الحي، قائلا في “خارج المكان”: “الجزيرة التي تتوسط النيل بين المدينة القديمة إلى الشرق والجيزة جهة الغرب، يسكنها الأجانب والأغنياء المحليون. لم تكن الزمالك تشكل جماعة موحدة، وإنما كانت أشبه بالمركز الكولونيالي الأمامي؛ يتحكم فيه الأوروبيون الذين لم يكن لنا – أو لم يكد يكون لنا – اتصال بهم”.
***
يحكي سعيد عن تفاصيل حياته في حي الزمالك، عبر نص “خارج المكان” المكرس لذكرياته عن فترة طفولته حتى شبابه والتي قضى معظمها في مصر. بما في ذلك تردده على حديقة الأسماك. يلعب تحت مراقبة أمه، بين الجبلاية الاصطناعية ومغاراتها، في وقت أصبح الحي هو كل عالم الصغير إدوارد.
ففضلا عن الحديقة، كانت مدرسته؛ مدرسة الجزيرة قريبة من المنزل بل في نفس الشارع. بينما تقصد العائلة نادي الجزيرة الرياضي الواقع جنوبي جزيرة الزمالك. أما في عطل نهاية الأسبوع فتذهب إلى نادي المعادي الرياضي. أي أن جل أيام الشاب الفلسطيني المسيحي جرت في حي الزمالك حصرًا.
وهو يعبر عن ضيقه بهذا الحيز الصغير الذي عرفه من المدينة بصراحة “كان هذا الحيز المحصور والمحدد بدقة من هذه المدينة الجبارة. يختصر عالمي كله حتى سنوات متأخرة من مراهقتي”. كذلك لم يكن غريبا أن يعبر في “تأملات في المنفى” عن استيائه من الأطر التي عاش فيها. وهي بريطانية تنظر باحتقار وتشويه لعموم المصريين.
***
لم تكن عزلة إدوارد سعيد مكانية فقط. إذ انتمى إلى جالية شامية تجارية غريبة عن عموم المصريين، وبعيدة عن المساواة الاجتماعية مع السادة الأوروبيين، على الرغم من حيازة والده للجنسية الأمريكية. فقد روى مواجهة كولونيالية شديدة الحدة والقسوة مع إنجليزي في حي الزمالك تركت أثرها في نفس الطفل سعيد. ربما نرى فيها الإرهاصات الأولى لمواقفه في نقد المركزية الغربية.
واجه سعيد أثناء عودته من نادي الجزيرة، والد أحد زملاء الدراسة، تعامل الإنجليزي بعجرفة المحتل، ونهر الطفل الصغير ولم يتقبل وجوده. قال له بلا رحمة “ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان، وأنت عربي!”. اكتشف إدوارد سعيد تراتبية داخل مجتمع القاهرة بلا أي مساحيق تجميل. وعرف أنه بحكم الانتماء في درجة أدنى من السيد الإنجليزي. تركت هذه الحادثة جرحا غائرا في نفس الفتى سعيد لم يستطع أن يتجاوزه بعد مرور خمسين عاما كما يخبرنا في “خارج المكان”.
لذا لم يكن غريبا أن يصف علاقته المضطربة بالقاهرة قائلا: “المدينة التي أحببتها على الدوام دون أن أشعر مرة بانتمائي إليها”. عبر هنا عن غربته المكثفة في أحياء كولونيالية عاش فيها وعزلته – بسبب معايير أسرية وتقاليد اجتماعية – عن الأحياء الوطنية. وعن الشعور بمرتبة دنيا أمام هيمنة أوروبية في حي الزمالك، كرسه إذعان والده – وهو أيضا – لهذه التراتبية وعدم السعي لتغييرها. لذا لا غرابة أن نراه يقول في موضع آخر: “كنا من الشوام، مخلوقات مشرقية برمائية، تتحايل على ضياعها الوجودي مؤقتًا بواسطة النسيان وأحلام اليقظة التي تتضمن حفلات عشاء فاخرة… لكن مع حلول الأربعينيات، لم نعد مجرد شوام بل صرنا (خواجات)، وهو اللقب التبجيلي الدال على الأجانب الذي يحمل دائما لسعة عداء عندما يستخدمه المسلمون المصريون”.
***
رغم ذلك أعطى الناقد الأشهر للاستشراق الاستعماري، لمحات عن تطور القاهرة العمراني وطبيعة نسيجها الاجتماعي، الذي عكس تطور المدينة في العصر الملكي. إذ يتخذ من شارع فؤاد الأول نقطة للتعبير عن تناقضات القاهرة الحديثة في العصر الملكي/ الاستعماري، قائلا: “كان شارع فؤاد الأول مرصوفًا بالمحال التجارية وبسطات الخُضر، ويعج بحركة سير قوية، يخترقه خط ترمواي ضاج، وتعبره حافلات النقل العام بين حين وآخر. ولم يكن ذلك الشارع مدينيا صرفا ومزدحما وحسب، بل كان ينطلق أيضا من أحياء القاهرة القديمة ويعبر إلى الزمالك من بولاق. ثم يجتاز الجزيرة [أي الزمالك] الأنيقة الهانئة في ثرائها، حيث نسكن، ليختفي أخيرًا عبر النيل في إمبابة. وهي نقيض مزدحم آخر للزمالك ذات السكان الأجانب والشوارع الهادئة المرصوفة بالأشجار والمصممة بعناية والخالية من المحلات التجارية”.
عرف سعيد أجزاء أخرى من المدينة، فقد التحق بمدرسة القاهرة للأطفال الأميركيين في خريف العام 1946، والواقعة في حي المعادي. تزامن هذا الانتقال من مدرسة إنجليزية الطابع إلى أخرى أمريكية، بتحول مهم في القاهرة يعكس تحولا عالميا. إذ يقول: “أثارت فيّ قاهرة ما بعد الحرب لأول مرة شعورًا بالتمايز الشديد من حيث التراتب الاجتماعي. كان التبدل الكبير هو حلول الأمريكيين المنتصرين محل البريطانيين؛ مؤسسات وأفرادًا، وقد أخلت الإمبراطورية القديمة المكان للإمبراطورية الجديدة”. مر سعيد بتجربة تعليمية ثالثة في القاهرة بدخول مدرسة فيكتوريا كوليج 1949، في فرعها بالقاهرة. فضلا عن انضمام والده بنادي التوفيقية بإمبابة، وهو ما وسع من أفق سعيد المراهق الذي كان في الرابعة عشرة أي سنوات المراهقة والمشاغبة.
***
لا يعني الحديث عن العزلة والغربة أن سعيد لم يعرف مباهج القاهرة. فبداية من نهاية الأربعينيات بدأ في حضور الحفلات الأوبرالية أو الموسم الغنائي الإيطالي، في دار الأوبرا الملكية بقلب المدينة. وكان طبيعيا أن لا يُعجب الفتى المتأمرك بأم كلثوم التي حضر لها حفلة في سينما ديانا، والذي وصفه بالمروع، في “خارج المكان”. لكنه عاد وعدل من حكمه على سيدة الطرب العربي، في مطلع مقالته الشهيرة عن الراقصة تحية كاريوكا، “تحية إلى راقصة”. والذي نشر في كتابه “تأملات في المنفى”. ومن هذا المقال نعرف أن إدوارد سعيد شاهد أحد عروض تحية كاريوكا في كازينو بديعة مصابني المكشوف في الجيزة (هدم ويقع مكانه حاليا فندق الشيراتون أمام كوبري الجلاء)، كان ذلك في العام 1950. أي قبل عام من مغادرة سعيد لمصر صوب الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته بعد طرده من فيكتوريا كوليج.
رغم أن إدوارد سعيد غادر القاهرة إلى أمريكا العام 1951، إلا أنه ظل يزورها بصفة منتظمة حتى العام 1960. ثم غادرت أسرته القاهرة إلى أمريكا العام 1963. في هذه الفترة شهدت القاهرة تغيرات جمة سياسيا واجتماعيا وعمرانيا. بداية من حريق القاهرة يناير 1952، الذي تابعه سعيد الابن بعيون وجلة من الخارج بسبب وجود عائلته في الداخل. لكن قلقه كان مبررا لأن محل والده ذهب في الحريق، الذي يرى سعيد أنه كان من تدبير جماعة “الإخوان”.
كما يرصد في “تأملات في المنفي”، التحول الأكبر الذي ميز عصر جمال عبدالناصر: “أعاد ناصر القاهرة إلى ما كانت عليه طوال الوقت من حيث المبدأ: الحاضرة العربية والإسلامية الأولى بلا منازع فالقاهرة بالعربية هي المدينة الظافرة. أما حين كنت أترعرع فيها في أربعينيات القرن العشرين. فقد كان من الممكن، قبل عقد من ذلك التاريخ، تجاهل بعديها العربي والإسلامي بل وطمسهما، نظرًا لما كانت عليه من إحكام تلك القبضة التي أطبقت بها المصالح الأوروبية المتعددة على المدينة، والتي عملت كل منها على خلق مقاطعة خاصة بها إلى جانب سواها من المقاطعات”.
***
ورغم أن المفكر الفلسطيني الأمريكي يصنف نفسه ناصريا. إلا أنه شعر ببعض المرارة من تحولات القاهرة في زمن الزعيم العروبي الكبير، والتي فقدت طابعها الكوسموبوليتاني الذي عرفه وعاش فيه. وهو يلخص هذا التحول بسرد علاقة الصداقة التي جمعته بإغناس تايغرمان، البولوني اليهودي. الذي جاء إلى القاهرة في العام 1933، والذي كان موسيقيا وعازف بيانو عظيما. والذي تعلم سعيد على يديه العزف على البيانو. ثم أصبحا أصدقاء، يجتمعان مع آخرين “قلة قليلة من شجعان قاهرة أيام زمان… لكي نعزف الموسيقى ونحكي عن الذكريات. ونعود في الزمن إلى حين كانت فيه القاهرة لنا”. ويؤكد هنا أن القاهرة التي عرفوها أصبحت “غائبة بشعبها الرائع، وثيابها الفاتنة، وحفلاتها الفخمة، كل ذلك كان قد انتهى”. هكذا ينعي سعيد بلهجة حزينة قاهرته التي ذهبت ولن تعود!
لكن نقد سعيد اللاذع ينصب على القاهرة في زمن السادات، التي يبدو أنها كانت تمثل كل ما هو نقيض لسعيد. لذا يعبر عن حزن عميق واستياء شديد من أوضاع المدينة، فكتب كلمات تعبر عن روح الغضب من مسخ القاهرة: “ولعل زيارتي الثانية في العام 1977 [بعد زيارته العام 1975 التي تشكل أول زيارة له بعد انقطاع دام 15 عاما]، كانت مشابهة لزيارة أي مدينة كبيرة من مدن العالم الثالث. فقد تمددت القاهرة دونما اتساق، وتزايد سكانها دونما انضباط، أما خدماتها فشُلت، وعلا الغبار جرمها الهائل مقطع الأوصال. مكثت هناك خمسة أيام، وما كان للحزن والخيبة الشديدين أن يبقياني أكثر، وغادرتُ ولم تكن بي رغبة في أن أعود، غير أنني عدتُ بالطبع”.
***
هكذا عاش إدوارد سعيد في القاهرة يوم أن كانت مدينة عالمية مفتوحة للعديد من الجنسيات، فتربى في مناخ كوسموبوليتاني. وتكونت ذكرياته عن المدينة في ظل هذا المناخ، الذي لم يخف أوجه العنصرية فيه باستبعاد السكان الأصليين من المصريين وتدعيم تراتبية يقبع على قمتها المستعمر البريطاني. ورغم إعجاب سعيد باستعادة عبد الناصر للوجه العربي والإسلامي للقاهرة، بعد طول استبعاد في الفترة الملكية/ الاستعمارية. إلا أنه عبر عن هذا بنوع من المرارة لفقدانه مدينة ذكرياته. ثم عاد إلى الغربة وحديثها في زمن المسخ الذي بدأه السادات. عندما فقدت القاهرة الكثير من دورها ومكانتها وإمكاناتها بفعل سياسات “الأمركة”. وهي المدينة التي لم تعجب سعيد أبدا لأنه لم يجد فيها أي ظل لمدينة ذكرياته القديمة.
اقرأ أيضا:
من جديد.. معاول الهدم تستأنف إزالة الجبانات التاريخية بعد وقف الدفن بها